يقف السودان على حافة الهاوية فى صراع مرير، منتظرًا إنقاذ وحدته عبر التوافق على عقد اجتماعى جديد، يرتكز على العدالة فى توزيع السلطة والثروة.. ووحدة السودان ليست مجرد شعار أو لقطة تتسارع عليها القوى الدولية والإقليمية؛ بل هى مصلحة استراتيجية تفرضها الإنسانية والجغرافيا والاقتصاد، وأيضًا الروابط التاريخية والاجتماعية المتداخلة. مذبحة الفاشر الأخيرة شهدت مدينة الفاشر السودانية مأساة إنسانية مروعة، عقب استيلاء ميليشيا قوات الدعم السريع عليها وارتكابها مجازر مؤلمة بحق المدنيين العزل. وتشير التقارير إلى أن عدد الضحايا بالآلاف، معظمهم من السكان غير العرب، فيما يُعَد استهدافًا ممنهجًا لفئات بعينها. من بين أكثر الجرائم فظاعة ما يتم تداوله عن مذبحة مستشفى للولادة راح ضحيتها نحو 460 شخصًا، فى مشهد يعكس حجم الانتهاكات التى طالت الجميع حتى ملاذ الضعفاء والمرضى، إلى جانب فرار أكثر من 33 ألف شخص من الفاشر إلى بلدة طويلة على بُعد نحو 70 كيلو مترًا إلى الغرب. أكثر من 650 ألفًا نزحوا إلى بلدة طويلة، وتبقى نحو 177 ألفًا فى الفاشر التى كان عدد سكانها أكثر من مليون نسمة، قبل بدء الحرب بحسب أرقام الأممالمتحدة. وفى تصريح خاص لمَجلة «روزاليوسف»، وصف الكاتب السودانى البارز عثمان ميرغنى الوضع فى مدينة الفاشر، بأنه مأساوى، وأن المدينة تحولت إلى مدينة أشباح بعد مجازر أودت بحياة الآلاف من المدنيين الأبرياء.
وأوضح أن بعض السكان تمكنوا من الفرار، بينما قُتِل كثيرون أثناء الهروب أو بعد خروجهم؛ خصوصًا فى الطريق إلى مدينة طويلة؛ حيث تمّت تصفيتهم على يد قوات الدعم السريع. وأشار «ميرغنى» إلى أن الفاشر تعيش حالة من الفوضى العارمة، وانهيارًا كاملاً فى الخدمات الأساسية، وانعدام الغذاء والدواء، وانتشار أعمال النهب التى طالت المقرات العامة والمحلات التجارية الخاصة، كما تعرضت البنية التحتية للدمار، بما فى ذلك الكهرباء والمياه والمستشفيات والمدارس والمساجد، ما جعل الحياة فيها شبه مستحيلة. على النقيض تشهد الولايات الخاضعة لسيطرة القوات المسلحة السودانية قدرًا أكبر من الاستقرار؛ حيث ساهم وجود الجيش فى استعادة الأمن وتوفير الخدمات الأساسية. ورصدت منظمة الهجرة الدولية عودة نحو ثلاثة ملايين سودانى إلى تلك المناطق، من بينهم لاجئون من دول الجوار، مثل مصر. اللافت أن تلك العودة اقتصرت على المناطق التى يسيطر عليها الجيش، دون تسجيل أى حالات عودة إلى مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، بما فيها دارفور، رغم وجود نحو مليونىّ لاجئ سودانى فى تشاد المجاورة. ورغم فداحة المأساة؛ يرى «ميرغنى» أن التغطية الإعلامية المحلية والدولية كانت فعالة إلى حد كبير؛ إذ نجحت فى نقل الصورة الحقيقية لما يحدث فى الفاشر، وقد تم توثيق الانتهاكات والمجازر أولاً عبر كاميرات جنود الدعم السريع أنفسهم، ثم تولى الإعلام نشرها مما ساهم فى تأليب الرأى العام العالمى ضد تلك الجرائم. كما كشفت بعض الوسائط الإعلامية عبر الأقمار الصناعية، مشاهد مروعة للدماء فى الشوارع والمنازل، ما عزز من حجم الإدراك الدولى لفداحة الوضع. وأكد «ميرغنى» أن ما حدث فى الفاشر ترك أثرًا بالغًا على المسار السياسى فى السودان؛ إذ وضع القضية السودانية فى صدارة الاهتمام الدولى، وجعل عامل الزمن حاسمًا فى جهود اللجنة الرباعية الدولية؛ لأن كل تأخير فى التوصل إلى اتفاق سلام ينذر بتداعيات خطيرة، أبرزها خطر التقسيم، وسقوط الفاشر فى يد قوات الدعم السريع يعنى عمليًا خروج إقليم دارفور بالكامل من سيطرة الحكومة المركزية، وهو متغير استراتيجى خطير، قد يُسرع من سيناريو التشظى الوطنى. وحذر «ميرغنى» من أن استمرار الوضع الراهن حتى نهاية العام ودخول الحرب عام 2026 دون تسوية سيزيد من احتمالات التقسيم، وقد تكون دارفور التى تعادل مساحتها مساحة فرنسا تقريبًا، أولى الأقاليم المهددة بالانفصال، ما يفتح الباب أمام موجة تفكك قد تطال أقاليم أخرى فى السودان. جهود اللجنة الرباعية قال السفير صلاح حليمة، مساعد وزير الخارجية الأسبق، ونائب رئيس المجلس المصرى للشئون الإفريقية لمَجلة «روزاليوسف»، إنه رغم تعقد المشهد؛ فإن هناك جهودًا دولية جادة تسعى لإيجاد تسوية سياسية شاملة تنهى الأزمة، وتعيد الاستقرار إلى السودان. وأوضح أنه للمرة الأولى تتناول اللجنة الرباعية الدولية التى تضم مصر والإمارات والسعودية والولاياتالمتحدة، الأزمة السودانية من زاوية سياسية واضحة، وكانت تركز على الجوانب الإنسانية والأمنية. وأكد أن مصر كانت أول من طرح تصورًا متكاملاً لحل الأزمة، يقوم على أربعة محاور رئيسية، المحور الأمنى العسكرى والمحور الإنسانى والمحور السياسى ومحور إعادة الإعمار والتنمية. وترتكز الرؤية المصرية على احترام سيادة السودان ووحدة أراضيه، مع التأكيد على أن القوات المسلحة هى المؤسّسة الوطنية الشرعية الوحيدة. وتتلاقى رؤية اللجنة الرباعية مع الطرح المصرى؛ حيث تنص على وقف إطلاق نار مبدئى لمدة ثلاثة أشهر، يمدد لاحقًا لتسعة أشهُر، تستكمل خلالها العملية السياسية. وتشمل العملية السياسية تشكيل حكومة مدنية مستقلة من التكنوقراط، لا تضم أى أحزاب سياسية، بالتوازى مع صياغة دستور دائم، وإطلاق حوار «سودانى- سودانى» شامل، يضم مختلف تيارات المجتمع. وأشار إلى أن استمرار التوتر فى الإقليم يهدّد وحدة السودان وسلامة أراضيه؛ خصوصًا أن دارفور تزخر بثروات طبيعية ضخمة مثل الذهب والحديد والموارد الزراعية والحيوانية، إضافة إلى احتياطيات كبيرة من المياه الجوفية، ما يجعلها مطمعًا ومحل اهتمام إقليمى ودولى، وقد تتحول تلك الموارد إلى هدف للصراع فى حال تفكك الدولة. كما لفت إلى وجود دول يعتقد أنها تدعم قوات الدعم السريع، مختتمًا بالإشارة إلى مؤشرات إيجابية تدعم نجاح المسار السياسى، أبرزها التقارب بين مجموعة صمود بقيادة عبدالله حمدوك، والكتلة الديمقراطية المدعومة من مصر، فى ظل جهود اللجنة الرباعية والتوافق المتزايد داخل المجتمع السودانى. إشادة بدور مصر وثمَّن السفير عماد الدين عدوى، سفير السودان لدى القاهرة، موقفَ مصر الداعم لوحدة السودان، ورفضها لأى كيان مواز. وأشار إلى أن مصر من الدول القليلة التى تدرك خطورة الجهات الساعية لتفتيت الدولة الوطنية، وقد عبّرت عن ذلك بوضوح فى مؤتمر لندن، حين اعترضت على غياب بند يؤكد وحدة السودان فى البيان الختامى. ودعا السفير السودانى فى المؤتمر الصحفى الذى أقيم فى القاهرة الأسبوع الماضى، المجتمع الدولى إلى تحرُّك عاجل يتجاوز الإدانة اللفظية، وطالب باعتبار ميليشيا الدعم السريع منظمة إرهابية وفقًا للمعايير الدولية. كما طالب بإدانة واضحة لجرائمها التى ترقى إلى الإبادة الجماعية، ومحاسبة مموليها وداعميها، إلى جانب فتح تحقيق دولى مستقل ومحايد تحت مظلة الأممالمتحدة، أو المحكمة الجنائية الدولية، وضمان إيصال المساعدات الإنسانية عبر ممرات آمنة وبشكل عاجل.