«أسرار» الحرب يا ولدى هذا ما فعلناه بالعدو فى حرب أكتوبر: من تقارير أعمال القتال: الاستراتيجيات الإسرائيلية تحت البيدة المصرية
أنا من جيل لم يشهد الحرب، لكنه عاش سلام المنتصرين. ولدت بعد أن هدأت المدافع، فى عالم لا يعترف إلا بلغة القوة، فكان نصر أكتوبر بالنسبة لى حكاية تتردد فى الذاكرة الوطنية يحكى لى جدى عن تفاصيلها والعبور من الهزيمة إلى النصر.. نصف قرن وعامان تتوارث الأجيال الحكاية. لتبقى «متون النصر» محفوظة.. فى منطقة لا تعترف إلا بالقوة الغاشمة، لم تكن مصر أبدا غشيمة. فى هذا الملف أفتح أرشيف النصر، أمدّ يدى إلى عدد من الوثائق أفرج عن معظمها بعد نصف قرن على اليوم المشهود، لأقترب من يوميات العبور كما لو كنت هناك. وثائق تروى معارك متوازية، سلاح يكسر أسطورة جيش لا يقهر، ومعلومة دقيقة أربكت العدو، وحرب نفسية قبل مواجهات الرصاص وبعده. فكانت مصر ولا تزال رأس الحربة التى اخترقت بالونة الأوهام، وأثبتت أن من فعلها مرة يملك أن يعيدها متى شاء. تتشابك الأوراق أمامى كقطع بازل؛ كل وثيقة تضيف لونا، كل شهادة تفتح نافذة على عبقرية التخطيط وصبر الجنود، هكذا يتجلى سر مصر الدائم؛ أن يجيء جيل جديد، فيقرأ نصوص أجداده الذين صنعوا أعظم إنجاز عسكرى فى العصر الحديث، فيعرف من هو، ويستعد لمواجهة خصمه بوعى المنتصر لا بغرور القوة. فى الصفحات التالية سنسافر عبر وثائق النصر ومتونه، لنقترب من أصوات الجنود وخطط القادة، ونستعيد تفاصيل لحظة غيرت وجه المنطقة.
مع كل وثيقة من أرشيف النصر؛ تتضح تفاصيل جديدة تعمق فهمنا لتلك الفترة الحرجة. وثيقتان عسكريتان، من تقارير أعمال القتال، تقدمان رؤى جديدة حول سير العمليات والإخفاقات التى واجهت القوات الإسرائيلية، وتسلطان الضوء على طبيعة القتال الشرسة والتحديات غير المتوقعة، وتكشفان نقاط ضعف جوهرية فى الاستراتيجية والعقيدة العسكرية الإسرائيلية.
التضليل الاستخباراتى وحرب الاستنزاف إحدى الوثيقتين تُشير إلى أن إسرائيل كانت قد بدأت حرب استنزاف ضد مصر فى 8 سبتمبر 1968 واستمرت حوالى سنتين حتى توقفت فى 7 أغسطس 1970. ساهمت فى إعداد الجيش المصرى لمواجهة أكبر. الوثيقة تُسلط الضوء أيضًا على مشروع روجرز ووقف إطلاق النار، الذى كان بمثابة هدنة مؤقتة، لكنه لم يُنهِ الاستعدادات للحرب المقبلة. النقطة الأبرز فى هذه الوثيقة هى الإشارة إلى أن «قبل أن تندلع الحرب، تم تغيير مسار العمليات التى دارت ضد إسرائيل خلال أكتوبر 1973». هذا التغيير كان مفاجئًا لإسرائيل، مما يؤكد من جديد الفشل الاستخباراتى فى قراءة النوايا المصرية والسورية بشكل صحيح. فإسرائيل لم يكن لديها أدنى فكرة عن الخطة المصرية -السورية للحرب، ولم تكن مستعدة للقتال بهذا الحجم. الخسائر الإسرائيلية تُقدم الوثيقة الثانية، وهى تقرير عن «مواقف ونتائج أعمال القتال»، تفاصيل أكثر دقة عن سير العمليات والخسائر. تُشير إلى أن «بيانات المرتفع فى عمق الهجوم تُبرز أن 53 دبابة ومركبة مدرعة و1400 جندى قد وقعوا ضحية للعمليات المصرية والسورية». هذا الرقم، حتى لو كان تقديرًا أوليًا، يُعطى لمحة عن حجم الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التى تكبدتها إسرائيل فى الأيام الأولى للحرب. فالرقم 1400 جندى بين قتيل وجريح ومفقود، فى منطقة واحدة يعد مؤشرًا خطيرًا على ضراوة القتال وفاعلية الهجوم العربى. كما تُشير الوثيقة إلى أن «عدد القتلى من الجنود الإسرائيليين قد وصل إلى 711 قتيلًا و730 جريحًا و110 أسرى فى «مواقع محددة» وهو ما يُفهم أنها جبهة واحدة أو منطقة معينة. هذه الأرقام، وإن كانت جزئية، تقدم تأكيدًا على أن حرب أكتوبر لم تكن نزهة للجيش الإسرائيلى، بل كانت معركة دامية تركت آثارها المدمرة. فمقارنة هذه الأرقام بالرواية الإسرائيلية الأولية التى كانت تحاول التقليل من شأن الخسائر، تظهر حجم الصدمة التى أراد العدو إخفاءها. التحديات الميدانية وتأثير الأسلحة المضادة للدروع تبرز الوثائق التحديات الميدانية التى واجهتها القوات الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالأسلحة المضادة للدروع. تُشير إحدى الفقرات إلى أن «القوات الإسرائيلية واجهت صواريخ موجهة مضادة للدروع تسببت فى خسائر كبيرة فى الدبابات». هذا يؤكد فعالية صواريخ «ساجر» الروسية التى استخدمها الجيش المصرى بكثافة، والتى أحدثت دمارًا كبيرًا فى صفوف الدبابات الإسرائيلية، وكسرت شوكة التفوق المدرع الذى كانت إسرائيل تعتمد عليه. كما تشير الوثيقة إلى «أعمال القتال فى منطقة شمال سيناء» حيث «تعرضت الدبابات الإسرائيلية لهجمات متتالية من المشاة المصريين المزودين بالصواريخ المضادة للدروع». هذه التفاصيل تُظهر أن المعركة لم تكن مجرد اشتباكات عشوائية، بل كانت قتالًا منظمًا ومنسقًا، حيث تمكن المشاة المصريون من تحييد التفوق الإسرائيلى فى الدبابات من خلال استخدام تكتيكات فعّالة وأسلحة مضادة للدروع. الارتباك فى القيادة والردود العسكرية تتضمن الوثيقة بعض الإشارات إلى الارتباك فى القيادة الإسرائيلية فى بداية الحرب. تُذكر «مواقف قيادية غير واضحة» و«صعوبة فى اتخاذ القرارات السريعة». هذا الارتباك كان نتيجة مباشرة للصدمة من الهجوم المفاجئ وعدم وجود خطط طوارئ كافية لمواجهة هذا السيناريو. وعلى الرغم من محاولات إسرائيل لشن هجمات مضادة، إلا أن الوثائق تُلمح إلى أن هذه الهجمات لم تُحقق أهدافها بالكامل فى البداية. «تم اعتراض العديد من الهجمات المضادة من قبل الدفاعات المصرية، ما أدى إلى تكبد المزيد من الخسائر». هذا يُشير إلى أن الجيش المصرى كان مستعدًا للدفاع عن المواقع التى استولى عليها، وأن قدرته على الصمود كانت أكبر مما توقعه الإسرائيليون. إعادة كتابة التاريخ من قلب الوثائق تُقدم هذه الوثائق العسكرية عن تقارير أعمال القتال رؤية ثمينة وغير مسبوقة لأحداث حرب أكتوبر 1973 من منظور مهم، تسجيل لما يحدث على أرض المعركة، بالإخفاقات، والخسائر، والارتباك الذى ساد صفوف الجيش الإسرائيلى. هذه التفاصيل تعيد كتابة التاريخ، وتزيل الغموض عن بعض الجوانب التى طالما حاولت إسرائيل إخفاءها. إنها تُؤكد أن حرب أكتوبر لم تكن مجرد انتصار عسكرى عربى، بل كانت نقطة تحول أظهرت هشاشة العقيدة العسكرية الإسرائيلية المعتمدة على التفوق المطلق، وأجبرت إسرائيل على مراجعة شاملة لخططها واستراتيجياتها.
وثائق تسجل اعترافات قادة جيش العدو: إسرائيل مقهورة و مصر «منصورة»
أجمل ما فى الانتصار أن تسمعه برؤى ورواية عدوك، أن يعترف أمامك أنك هزمته، ورغم مرواغة قادة الاحتلال؛ فما فعله وحققه نصر أكتوبر كان أكبر من أى مراوغة وأصعب وأوضح من أى محاولة تشويه.
صفعة لا تزال آثارها على وجه قادة الكيان المحتل، فرغم الصورة التى حاولت إسرائيل ترسيخها لنفسها كقوة إقليمية لا تُقهر، والتحصينات المنيعة التى بنتها، إلا أن الوثائق والاعترافات التى تسربت من ألسنة كبار القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين بعد الحرب، رسمت صورة مغايرة تمامًا.
هذه الاعترافات، التى سنغوص فى تفاصيلها هنا، تكشف عن حجم الصدمة، والإخفاق الاستخباراتى، والارتباك الميدانى الذى سيطر على مراكز القرار الإسرائيلية، مزيلة بذلك الغبار عن «أسطورة الجيش الذى لا يقهر»، بعدما تحول إلى «جيش مقهور» واعتراف بأن الجيش المصرى هو «المنصور». غطرسة القوة قبل العاصفة قبل حرب أكتوبر، كانت إسرائيل تعيش حالة من الغطرسة الاستراتيجية، مدعومة بانتصار عام 1967 وبناء خط بارليف على طول قناة السويس، الذى كان ينظر إليه كدرع منيعة ضد أى هجوم مصرى محتمل. هذه الثقة المفرطة، أو ما أسمته بعض الوثائق «التفوق النفسى»، جعلت إسرائيل تتجاهل مؤشرات الخطر وتتجاهل القدرات العربية المتنامية. يعترف أحد القادة الإسرائيليين بأن «إسرائيل كانت تنظر إلى نفسها كقوة عسكرية لا يمكن قهرها» هذا التفكير هو ما زرع بذور الهزيمة الاستخباراتية والعسكرية التى تجلت فى الأيام الأولى للحرب. الصدمة المزدوجة.. فشل الاستخبارات وانهيار خط بارليف كانت اللحظة الأكثر دراماتيكية فى اعترافات القادة الإسرائيليين تتعلق بفشل الاستخبارات غير المسبوق. ففى الوقت الذى كانت فيه مصر وسوريا تضعان اللمسات الأخيرة على خططهما الهجومية، كانت التقديرات الإسرائيلية تشير بثقة إلى عدم وجود نية للحرب. يبرز ذلك تصريح لوزير الدفاع الإسرائيلى موشيه ديان فى 16 يوليو 1973، قبل أشهر قليلة من الحرب، بأنه «لا يتوقع حربًا شاملة فى المستقبل القريب». هذا التصريح يكشف عن عمق الإنكار والتضليل الذاتى الذى كانت تعيشه المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. فيما يُشير أحد التقارير إلى أن «إسرائيل ظنت أنها فى مأمن من التهديدات المصرية والسورية بسبب تفوقها الجوى وقوتها العسكرية». هذا الاعتقاد الخاطئ أدى إلى تجاهل التحذيرات المتتالية، وتفسير التحركات العسكرية المصرية والسورية على أنها مجرد تدريبات روتينية. كانت النتيجة كارثية: هجوم مفاجئ فى يوم الغفران، يوم مقدس فى اليهودية، شل قدرة القيادة الإسرائيلية على اتخاذ القرارات السريعة. ثم جاءت الضربة الثانية؛ انهيار خط بارليف. الحصن المنيع الذى استثمرت فيه إسرائيل مليارات الشيكلات، سقط فى ساعات معدودة أمام عبقرية التخطيط المصرى وقدرة الجندى المصرى على تنفيذ المهمة. تُظهر الوثائق أن القادة الإسرائيليين فوجئوا بالسرعة والكفاءة التى نفذت بها القوات المصرية عملية العبور والهجوم. أحد القادة يصف المشهد قائلًا: «لقد كنا فى ذهول لرؤية براعة المصريين فى تخطيطهم للهجوم، وسرعة اختراقهم للخط». هذا الاعتراف يُعد إقرارًا ضمنيًا بتفوق التخطيط والتدريب المصرى، ونسفًا مباشرًا لأسطورة خط بارليف. الارتباك الميدانى والخسائر البشرية والمادية تتجاوز الاعترافات مسألة الصدمة الأولية لتسلط الضوء على حالة الارتباك التى سادت صفوف الجيش الإسرائيلى فى الأيام الأولى للحرب. كانت القوات الإسرائيلية غير مستعدة لهجوم بهذا الحجم، وكانت خطط الدفاع غير كافية لمواجهة الهجوم المتزامن من جبهتين. يعترف أحد القادة بأن «الجيش الإسرائيلى فوجئ بحجم الخسائر التى تكبدها فى الساعات الأولى للحرب». هذه الخسائر لم تقتصر على الأفراد فحسب، بل امتدت لتشمل تدمير عدد كبير من الدبابات والطائرات والمعدات العسكرية، مما أثر بشكل كبير على القدرة القتالية للجيش. الوثائق تُبرز أيضًا أن القادة الإسرائيليين كانوا يواجهون صعوبة فى فهم طبيعة المعركة الجديدة، التى كانت تتسم بالكثافة النيرانية واستخدام أسلحة حديثة لم يتوقعوها. «لقد كان التفكير الدفاعى لإسرائيل يعتمد على التفوق الجوى، ولم نكن مستعدين لحرب برية بهذا الحجم والشدة»، هكذا يلخص أحد الضباط الإسرائيليين الوضع. هذا الاعتراف يُشير إلى أن إسرائيل كانت تعيش فى وهم أن تفوقها التكنولوجى سيحسم أى مواجهة، دون تقدير لقدرة الجيوش العربية على التطور والتكيف. التأثير النفسى والسياسى لم تكن حرب أكتوبر مجرد هزيمة عسكرية، بل كانت زلزالًا نفسيًا وسياسيًا هزّ أركان المجتمع الإسرائيلى. تكشف الوثائق عن عمق هذا التأثير، حيث يشير أحد القادة إلى أن الحرب «أحدثت صدمة نفسية عميقة فى المجتمع الإسرائيلي»، وأنها «أظهرت هشاشة الأمن الإسرائيلى». هذه الصدمة أدت إلى فقدان الثقة فى القيادة السياسية والعسكرية، وشكلت نقطة تحول فى الوعى الجمعى الإسرائيلى. تُشير إحدى الوثائق إلى أن «ثقة الشعب فى القيادة تراجعت بشكل كبير بعد الحرب»، مما أدى إلى موجة من الاحتجاجات والمطالبة بالتحقيق فى الإخفاقات. اضطرت جولدا مائير، رئيسة الوزراء آنذاك، إلى الاستقالة فى نهاية المطاف، وتبعها العديد من المسؤولين العسكريين. هذه التداعيات السياسية تُؤكد أن الحرب لم تكن مجرد معركة على الأرض، بل كانت صراعًا على الشرعية والثقة داخل المجتمع الإسرائيلى. كما كشفت الاعترافات عن حالة من الاكتئاب واليأس التى سادت بين بعض القادة. يُذكر أن موشيه ديان، أحد رموز الانتصار فى 1967، أصبح بعد الحرب «شخصًا محطمًا، يشعر بالذنب والمسؤولية عن الخسائر». هذه التصريحات تُلقى الضوء على التكلفة البشرية والنفسية للحرب على صانعى القرار الإسرائيليين، وتُظهر أن النصر لا يأتى دائمًا بسهولة حتى لأقوى الجيوش. تغيير العقيدة العسكرية الإسرائيلية كانت حرب أكتوبر نقطة تحول حاسمة فى العقيدة العسكرية الإسرائيلية. فبعد الصدمة الأولية، أدركت إسرائيل أنها لا تستطيع الاعتماد فقط على التفوق الجوى والأسلحة التقليدية، وأنها بحاجة إلى إعادة تقييم شاملة لاستراتيجياتها الدفاعية والهجومية. تُبرز الوثائق أن «الحرب دفعت إسرائيل إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الدفاعية، والتركيز على تعزيز قدراتها البرية والبحرية، وتطوير تكتيكات جديدة لمواجهة الهجمات المتزامنة». هذا التغيير شمل أيضًا التركيز على الاستخبارات، وتطوير أنظمة إنذار مبكر أكثر فاعلية، وتحسين التنسيق بين مختلف فروع القوات المسلحة. الدروس المستفادة من حرب أكتوبر، وإن كانت باهظة الثمن، إلا أنها ساهمت فى إعادة بناء الجيش الإسرائيلى على أسس أكثر واقعية وتكيفًا مع التحديات المستقبلية.
إزالة أوهام التفوق تُقدم الاعترافات الصريحة للقادة الإسرائيليين حول حرب أكتوبر 1973 شهادة تاريخية لا تُقدر بثمن. هذه الوثائق لا تُبرز فقط حجم الانتصار العربى، بل تُسلط الضوء أيضًا على انهيار «أسطورة الجيش الذى لا يُقهر» التى حاولت إسرائيل ترسيخها. لقد كشفت الحرب عن عيوب قاتلة فى الاستخبارات، وغطرسة فى التفكير الاستراتيجى، وارتباك فى الميدان، ما أدى إلى خسائر فادحة وتأثير نفسى وسياسى عميق على المجتمع الإسرائيلى. إن هذه الاعترافات، بعيدًا عن أى تحيز، تُعد تذكيرًا بأن الحروب لا تُحسم دائمًا بالتفوق التكنولوجى أو العسكرى وحده، بل بالروح المعنوية، والتخطيط الجيد، والاستعداد النفسى للمواجهة. حرب أكتوبر لم تكن مجرد انتصار عسكرى، بل كانت ولا تزال درسًا قاسيًا لإسرائيل، أجبرها على مواجهة واقعها وحقيقتها.. ويجعلها تخشى حتى بعد نصف قرن مواجهة من كسر عينهم وأسطورتهم.
6 وثائق تكشف تفاصيل عملية استخباراتية غير مسبوقة سبقت العبور العظيم: العملية جرانيت هندسة المفاجأة
تكشف مجموعة من الوثائق العسكرية الستار عن واحدة من أهم وأخطر العمليات الاستخباراتية التى مهدت لعبور القوات المصرية قناة السويس فى السادس من أكتوبر 1973. العملية التى حملت الاسم الكودى «جرانيت»، لم تُكشف تفاصيلها الكاملة من قبل، لكنها تمثل، كما توضح الوثائق، حجر الأساس فى هندسة المفاجأة الاستراتيجية التى أربكت العدو الإسرائيلى، وساهمت فى تحقيق التقدم الميدانى الخاطف للقوات المصرية.
«جرانيت».. بين السرية والتخطيط العبقرى لم تكن «جرانيت» مجرد عملية استطلاع أو خطة فرعية، بل كانت منظومة استخباراتية وعسكرية متكاملة هدفت إلى عدد من المحاور الاستراتيجية فى الحرب، متمثلة في: - شل قدرة العدو على التنبؤ - تأمين سرية التحركات المصرية - تضليل أجهزة الرصد الإسرائيلية - دمج جهود الاستطلاع والمعلومات فى مركز قيادة محورى الوثائق الست، التى تم رفع السرية عنها، تسلط الضوء على أعقد مستويات التنسيق بين أفرع القوات المسلحة، وتوضح كيف تم بناء جدار صلب من الخداع المعلوماتي، غلف ضربة العبور الأولى بالغموض حتى اللحظة الأخيرة. الإعداد المسبق.. عيون لا تنام تكشف الوثائق عن نشاط مكثف لفرق الاستطلاع خلف خطوط العدو، كانت ترصد وتجمع وتحلل المعلومات على مدار الساعة. فى إحدى المراسلات، يرد نص يشير إلى «عودة التزود من خط التقييد إلى مناطق التسوية الخلفية»، ما يعكس حركة ديناميكية لتدوير المعلومات اليومية وتحويلها إلى قرارات عملياتية دقيقة. وتبرز وثيقة أخرى أهمية القيادة والسيطرة، مؤكدة أن الربط بين مركز قيادة التشكيلات البحرية والقيادة العامة كان عنصرًا أساسيًا فى نجاح العمليات، خاصة فى مهام دعم القوات البرية من البحر. فن التضليل المحترف لم يكن الخداع مجرد أداة لحرب أكتوبر، بل كان عماد العملية «جرانيت». تشير إحدى الوثائق إلى «إخفاء 21 ملفًا عن روافد التزود»، فى إشارة إلى أنه حتى بعض عناصر المنظومة العسكرية لم تكن تعلم الصورة الكاملة. تتحدث الوثائق أيضًا عن فرق استخباراتية تعمل كمجموعات مغلقة، يقدم كلٌ منها «رواية» مختلفة تُزرع ضمن خطط التضليل، بهدف تضارب المعلومات المسربة، بما يصعب على العدو فك الشيفرة الحقيقية. التكامل البرى والبحرى والجوى.. خطة على كل الجبهات «جرانيت» لم تكن عملية أرضية فحسب، بل غطت كل مسارح العمليات: فى البحر؛ كان هناك تنسيق وثيق مع التشكيلات البحرية لتنفيذ مهام إنزال، وتأمين خطوط الدعم. وفى الجو؛ كان يتم إعداد مواقع دفاعية سرية، وتحريك طائرات دون إعلان، وبناء مواقع تبدو دفاعية وهمية. وعلى الأرض؛ يتم تجهيز خرائط ومسارات تمويه، وتضليل ميدانى يتجاوز الخطوط الأمامية للعدو. فيما يشير أحد البنود إلى إنشاء نقاط قيادة ميدانية متنقلة، ضمن تكتيك التمويه الميدانى الشامل. الجبهة الموسعة إحدى الوثائق تتحدث عن «استخدام اللوحات الدفاعية للعدو الإسرائيلي» فى إشارة إلى تشغيل معدات إسرائيلية ضمن خطط التحليل أو التمويه. كما تبرز إشارة إلى «العملية 17» كمكون بحرى مشترك بين مصر والمغرب، عبر تنسيق بين القاعدة البحرية المصرية ومديرية البحرية المغربية، وهى معلومة غير متداولة سابقًا وتكشف عن عمق المشاركة المغاربية فى هندسة النصر. «جرانيت» كمنصة استخباراتية شاملة الوثائق تكشف أن «جرانيت» لم تكن عملية محدودة بل غرفة عمليات استخباراتية كاملة، تضمنت تحليل بيانات الاتصالات اللاسلكية للعدو، ودراسة البنية التحتية الجوية والبرية لإسرائيل، فضلا عن إعداد تقارير دورية لتحديث تقديرات الموقف العسكرى . كما تُظهر الوثائق تدريب وحدات خاصة على الإخفاء، والتضليل المعلوماتي، فى إطار خطة شاملة للحرب النفسية، استخدمت فيها أدوات التحليل الإلكترونى والميدانى بشكل متناغم. السيطرة المركزية وتفريغ القيادة إحدى الوثائق (رقم 15) تتحدث عن «تفريغ القاعدة بعد 64 ساعة و21 دقيقة»، فى إشارة إلى مغادرة مراكز القيادة المؤقتة بعد بدء العمليات لتفادى كشفها. الوثيقة ذاتها تشير إلى عمليات «إبرار بالصاعقة» تحت اسم «جرانيت»، مما يعكس أن العملية شملت عمليات إنزال خلف خطوط العدو، دعمتها غرف قيادة تبادلية مدربة على التعامل مع أقسى ظروف الحرب والمفاجآت التكتيكية.
جرانيت.. العبقرية فى الظل فى عالم الحروب، تُقاس القيمة العسكرية للعمليات الاستخباراتية بمدى تأثيرها على أرض الواقع. وبحسب ما تكشفه هذه الوثائق، كانت «العملية جرانيت» أداة النصر الصامتة، العملية التى لم تطلق رصاصة، لكنها أعدّت الطريق لعبور الرصاص والمدافع إلى الضفة الشرقية للقناة. لقد كانت «جرانيت» اسمًا حركيًا لخطة تفوق الوصف، ودرسا فى كيف تصنع الحرب بالمعلومة، لا بالسلاح فقط.