فى لحظة انقلبت فيها الموازين، وصمتت آلة الدعاية الإسرائيلية، وارتبكت غرف عمليات الاحتلال، سقطت غطرسة القوة تحت أقدام مقاتلين مصريين عبَروا ما اعتقدته تل أبيب المستحيل؛ خصوصًا حين شُقّت مياه القناة، وارتفعت صيحات العبور، ليولد نصر لا يشبه سواه، ويُكتَب تاريخ جديد بالبطولة والفداء.. إنه نصر حرب 6 أكتوبر 1973. ووسط الاحتفالات المصرية بالنصر العظيم كل عام، يوجد على الجانب الآخر من لا يزال أسيرًا لصدمته، تلاحقه شظايا الهزيمة فى كل ذكرَى. فى إسرائيل؛ حيث لم تكن حرب أكتوبر مجرد معركة خاسرة؛ بل كانت زلزالًا نفسيًا وعسكريًا، هز الثقة المفرطة، وترك جرحًا لا يندمل؛ ولأن السينما مرآة الوجدان؛ كان طبيعيًا أن تجد الهزيمة طريقها إلى شاشات العدو، ولو بعد سنوات من الإنكار. ورغم حضور خلفية الحرب بصورة أو بأخرى- فى العديد من المسلسلات والأفلام الإسرائيلية؛ فإن هناك عددًا من الأعمال التى لم تكتفِ بالإشارة؛ بل وضعت الهزيمة فى صلب الحكاية، تعاملت معها كألم لا يُنسَى، وصدمة لا يمكن تجاوزها، وشهادة داخلية على لحظة انكشاف تاريخية لم تعد تصلح معها الأكاذيب. هذه الأعمال، التى ظهرت على مدار عقود طويلة، عكست- بدرجات متفاوتة- اعترافًا قاسيًا بالفشل؛ ورغم وجود العديد من تلك الأعمال؛ فإن بعضها كان عرضًا فارقًا. (جولدا).. الهزيمة فى وجه قادة الاحتلال كان أحد أقوى الأفلام الحديثة التى رصدت الهزيمة الإسرائيلية، هو فيلم (جولدا)، الذى صدر فى عام 2023، أى فى الذكرى ال50 لحرب أكتوبر. فعندما اختارت السينما الإسرائيلية أن تعود إلى تلك الأيام المشئومة بالنسبة إليهم وجدت فى شخصية رئيسة الوزراء الإسرائيلية- حينها- «جولدا مائير» أرضًا خصبة لصناعة فيلم كأنه يضعها فى قفص الاتهام، بعكس ما يصورها الإعلام الإسرائيلى- عادة- بأنها المرأة الحديدية؛ إذ ركزت قصة الفيلم عليها باعتبارها امرأة تطاردها الأخطاء، وتنهار أمام تسونامى من الفشل الاستخباراتى والعسكرى. ففى فيلم السيرة الذاتية المحدّد المقتصر، الذى لم يقدم تفاصيل تاريخية عن حياة «مائير»، دارت قصته خلال أيام قليلة من اللحظات المميتة التى عاشتها رئيسة حكومة الاحتلال الإسرائيلى قبيل الحرب، وأحلك لحظاتها الصعبة التى عاشتها مع حكومتها، إثر المفاجأة التى تعرّضوا لها من الهجوم المصرى والسورى، والفشل الإسرائيلى الذريع فى معرفة وقت الحرب، التى برزت فى مشهد اجتماع الحكومة بعد الهجوم المفاجئ؛ حينما قال أحد المسئولين الإسرائيليين إنهم دفعوا- حينها- 100 مليون دولار لبرنامج الاستماع التجسُّسى، من أجل التحذير قبل 72 ساعة من ساعة الصفر للهجوم. ومع ذلك، كان الغرض من الفيلم المستمر لأكثر من 100 دقيقة أن يخلق نوعًا من التعاطف مع «مائير»، ووزير الدفاع الإسرائيلى «موشى ديان»، والعدو الإسرائيلى بشكل عام.. وذلك، بعد أن تكبدت إسرائيل خسائر فادحة، وتعرضت «مائير» لانتقادات لاذعة؛ بسبب افتقار الحكومة الإسرائيلية إلى الاستعداد، والبطء فى اتخاذ القرار والتصرف. وكان من أبرز المَشاهد التى صدرت صور الهزيمة، «جولدا» وهى تجرح إصبعها بأظافرها من شدة الضغط عليها نتيجة للتوتر الشديد أثناء سماعها أصوات جنود الاحتلال، وهم يستغيثون من هجوم القوات المصرية؛ بالإضافة إلى نظرة الذهول فى عينيها حين أخبرها رئيس الموساد أن الهجوم قادم لا محالة؛ فضلًا عن العرض الدرامى الصادم للشلل الذى أصاب القيادة، ما كشف حجم الكارثة. باختصار؛ إن هذا الفيلم أكد أن أول أيام الحرب لم تكن سوى إعلان رسمى لهزيمة لم تتوقعها إسرائيل، ولم تنساها منذ خمسين عامًا. (الرصيف) حكاية الهزيمة من قلب الحرب فى العام نفسه عرض فيلم إسرائيلى مستلهمًا واحدة من أكثر القصص الواقعية من قلب الجبهة المصرية، فيلم (الرصيف)، الذى تطور- لاحقًا- إلى مسلسل درامى من خمسة أجزاء، يقدم قراءة إنسانية، سياسية ونفسية لمأساة الحرب، ويركز بشكل واضح على طعم الهزيمة، لا كمفهوم عسكرى فقط؛ بل كأزمة أخلاقية وهوية جماعية، وكذلك الفشل الإدارى والقيادى الذى أدى إلى هذه الهزيمة. تدور أحداث الفيلم فى صباح يوم السادس من أكتوبر 1973، حين تفاجأ 42 جنديًا إسرائيليًا بالهجوم المصرى الكاسح، تمامًا مثلما فوجئ الجيش الإسرائيلى بأكمله. ومع تصاعد المعارك، يجد الجنود أنفسهم معزولين تحت حصار خانق، ومع مرور الأيام ونفاد الإمدادات والدواء، يتصدع ثباتهم النفسى والجسدى. فى قلب الفيلم، يقف طبيب احتياط من تل أبيب، رجل علمانى براجماتى، يرى أن الاستسلام هو المَخرج الوحيد من الموت البطىء؛ خصوصًا للجرحى الذين لا تتوفر لهم رعاية. فى المقابل؛ يرفض قائد الموقع المتدين، فكرة الاستسلام، ما ولد الصراع الأخلاقى المركزى للفيلم. ومع تعمق الأزمة، يتحول الفيلم إلى تأمل فى معانى الفشل العسكرى والانكسار الداخلى. ويرصد الفيلم حالة الفوضى والارتباك التى سادت على الجبهة، مع تسليط الضوء على اللحظات الصعبة التى عاشها جنود الاحتلال، الذين وجدوا أنفسهم فى مواجهة خيارات صعبة لا مفر منها، وهى: الموت على أرض المعركة، أو الاستسلام للجيش المصرى كأسرَى، والعودة إلى وطنهم وهُم يحملون وصمة الهزيمة والخذلان، مما يعرضهم لانتقادات اجتماعية وقهر نفسى إضافى. كشف الفيلم- بشكل واضح- عن عدم قدرة القيادة العسكرية والسياسية فى إسرائيل على احتواء الموقف؛ حيث لم ترسل الدعم اللازم فى الوقت المناسب، مما زاد من حجم المعاناة وساهم فى الانهيار المعنوى على أرض المعركة. يُذكر؛ أنه عقب صدور الفيلم، حدثت صدمة فى الأوساط السينمائية والإعلامية الإسرائيلية؛ حيث انقسمت الآراء بشكل حاد؛ إذ رآه البعض تعبيرًا صادقًا عن واقع الهزيمة والصدمة التى أصابت جنود الاحتلال، بينما اعتبر آخرون أن الفيلم يسىء لصورة جيش الاحتلال الإسرائيلى. على كلٍّ؛ كان الفيلم بمثابة مقدمة لمشروع أكبر، وهو مسلسل بنفس الاسم أنتج بالتوازى معه، إلا أنه عُرض لأول مرة على شاشة «كان 11» الإسرائيلية فى أبريل 2025، بعد تأجيلين، الأول بسبب اندلاع العدوان الإسرائيلى على «غزة» فى أكتوبر 2023، والثانى إثر انشغال الإعلام بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرَى فى فبراير 2025. بشكل عام؛ أعاد المسلسل- على مدار خمس حلقات- رسم التفاصيل الدقيقة للحصار؛ استنادًا إلى وثائق من أرشيف جيش الاحتلال الإسرائيلى، وتسجيلات لا سلكية، ويوميات المقاتلين، مع اعتماد أسماء حقيقية لأغلب الشخصيات. وبعكس الفيلم، أتاح المسلسل وقتًا أطول لرصد التوتر النفسى، والعلاقات بين جنود الاحتلال، وإبراز شدة مشاعر الانكسار، العزلة، والخذلان، التى عاشها جنود الاحتلال المحاصرون؛ كما منح المسلسل مساحة لعرض ما حدث بعد الاستسلام، وهو جانب لم يُتناول بوضوح فى الفيلم. بشكل عام؛ لم يقدم (الرصيف) فى نسختيه ملحمة بطولة؛ بل يُفكك صورة الجندى الذى لا يُقهَر، ويضع المُشاهد أمام أسئلة مزعجة، دون تقديم إجابات. (أبواق الصمت) الهزيمة التى سبقت الحرب يُعَد فيلم (أبواق الصمت) واحدًا من أبرز الأعمال السينمائية الإسرائيلية التى تناولت الأيام التى سبقت حرب أكتوبر 1973 من وجهة نظر داخلية، ناقدة وموثقة فى آنٍ معًا. فى الذكرى الثلاثين لحرب أكتوبر عرضت القنوات الإسرائيلية فيلمًا تليفزيونيًا ركز على الأسبوع الذى سبق اندلاع الحرب، حين كانت إسرائيل تعيش وهْمَ الاستقرار والقوة، بينما كانت مصر وسوريا تحضّران لهجوم مباغت كسَر توازن القوة فى المنطقة. ورغم أن مدة الفيلم لا تتجاوز 70 دقيقة؛ فإنه حمل فى طياته عبء ما فشلت القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية فى التنبؤ به، رغم توفر المؤشرات الواضحة؛ إذ لا يَعرض الفيلم مَشاهد معارك أو اشتباكات عسكرية؛ بل يركز على غرف الاجتماعات المغلقة، وأجواء التوتر السياسى، والانقسامات فى الآراء داخل القيادة الإسرائيلية؛ خصوصًا مع تصاعد التحذيرات من اندلاع حرب وشيكة، وهو ما جعله أقرب إلى عمل سياسى نفسى أكثر من كونه فيلمًا حربيًا. إن أكثر ما يميز الفيلم عن غيره من الأعمال الإسرائيلية، أنه ابتعد عن أسلوب استدرار التعاطف وتصوير الذات كضحية، واتجه نحو تشريح عقلية المؤسّسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية آنذاك؛ انطلاقًا من اعتماده- فى كثير من تفاصيله- على وثائق حقيقية، وتسجيلات اجتماعات، ومحاضر رسمية، مما يجعله أقرب إلى دراما توثيقية ذات طابع تحقيقى، تكشف كيف ساد مناخ من الإنكار والثقة المفرطة فى التفوق العسكرى الإسرائيلى، حتى اللحظة الأخيرة، وصولًا للصدمة. (أبواق الصمت) كان محاولة من السينما الإسرائيلية للاعتراف بأن الهزيمة بدأت قبل إطلاق أول رصاصة، نتيجة غرور القيادة داخل غرف القيادة لحكومة الاحتلال، والاعتماد المفرط على التفوق العسكرى، دون الاستعداد الحقيقى لاحتمال الاختراق؛ رغم ميزانيته المتواضعة وطابعه التليفزيونى، نجح الفيلم فى فتح جرح وطنى لم يندمل بعد. (كيبور).. وجه الحرب الخاسر يُعَد فيلم (كيبور) الذى عرض عام 2000، عملاً سينمائيًا إسرائيليًا من نوع الدراما الحربية الواقعية، استندت قصته إلى التجربة الشخصية المريرة التى عاشها مخرج الفيلم نفسه «عاموس جيتاى» خلال الحرب؛ حيث كان جنديًا، ضمن طاقم إنقاذ مروحى فى الجبهة السورية، وشهد بأم عينه فوضى القرار، وانهيار الخطط، والارتباك الذى اجتاح جيش الاحتلال الإسرائيلى فى الأيام الأولى من الحرب. إن الفيلم- الذى قدّم الحرب من عين المنهزم التائه- تدور أحداثه فى يوم 6 أكتوبر، حين اندلعت الحرب على الجبهتين المصرية والسورية، من خلال شخصيتين رئيسيتين، وهما «وينراوب، وروسو»، اللذان انطلقا من «حيفا» باتجاه الشمال بحثًا عن وحدتهما الاحتياطية، لكن لا أحد يعرف أين يجب أن يذهب. وفى ظل فوضى التنسيق وتخبط جيش الاحتلال، لا يجد الرجلان طريقًا للانضمام، فيقرران التطوع فى فريق إنقاذ مروحى، هدفه نقل الجرحى والقتلى من ميادين القتال، وفى إحدى الطلعات داخل سوريا، تُصاب مروحية الفريق بصاروخ، يُقتل أحد الطيارين، ويُصاب البقية، من بينهم «وينراوب وروسو»، لينقلوا إلى مستشفى ميدانى، وتنتهى مشاركتهم الفعلية فى الحرب. ركز الفيلم على مَشاهد الهزيمة التى تجلت فى نقل الجثث، وتدمير المروحيات، ومقتل الطيارين، وانهيار جنود الاحتلال من فرط الضغط النفسى والجسدى. (ساعة الإغلاق).. لحظة الانفجار فى وقت الغفلة وبعيدًا عن شاشات العرض الكبيرة، والأفلام الطويلة، كانت حرب 6 أكتوبر بارزة- أيضًا- على الشاشات الصغيرة؛ فإلى جانب مسلسل (الرصيف) المذكور سابقًا- كان هناك العديد من المسلسلات التى تناولت الهزيمة الإسرائيلية المريرة من الحرب، ومن بينها (ساعة الإغلاق)، وهو مسلسل درامى حربى إسرائيلى من إنتاج 2020، ويُعتبر من أضخم إنتاجات الدراما فى إسرائيل، عُرض لأول مرة على قناة «كان 11» الإسرائيلية، ثم نُقل إلى منصة (HBO Max) تحت مسمى- بالإنجليزية- (Valley of Tears). تدور أحداث المسلسل خلال حرب أكتوبر 1973 بشكل عام، وعلى الجبهة الشمالية فى مرتفعات «الجولان» السورى بشكل خاص. ويتناول المسلسل بأسلوب درامى مأساوى الصدمة النفسية، والانهيار العسكرى الإسرائيلى فى الأيام الأولى من الحرب، من خلال ثلاث قصص متوازية لجنود احتلال يخوضون المعارك.. الأولى فى موقع جبل الشيخ؛ حيث يحاول جندى استخبارات التحذير من الهجوم السورى دون جدوى، لينتهى به المطاف هاربًا مع ضابط جريح؛ والثانية تحكى قصة ثلاثة جنود احتلال يصارعون الموت، والانشقاقات، والانهيارات فى كتيبة دبابات؛ والثالثة تدور فى غرفة العمليات بإحدى قواعد الاحتلال؛ حيث يسعى كاتب يسارى شهير للعثور على ابنه المجند بجيش الاحتلال، وسط فوضى قيادية وتخبط فى إدارة المعركة. ينتقد المسلسل بشكل مباشر الإخفاق الاستخباراتى والعسكرى الإسرائيلى؛ إلا أنه يسعى فى الوقت ذاته- لإبراز الجانب الإنسانى من معاناة الجنود بهدف استقطاب مشاعر التعاطف مع الاحتلال!! وظهر ذلك فى تسليط الضوء على أعراض الصدمة النفسية.. على كلٍّ؛ وحّدت نهاية المسلسل القصص الثلاثة فى مشهد مأساوى تتداخل فيه مشاعر الفقد، الصدمة، والندم؛ ليكسر أيضًا- الصورة النمطية عما ادعاه الاحتلال ب(الجيش الذى لا يُقهر)؛ بل طرح تساؤلات حول القيادة، المسئولية، وتكلفة الحرب الحقيقية. يُذكر؛ أن مع أعطى المسلسل زخمًا،هو أنه مقتبس عن شهادات وحوادث واقعية عانى جيش الاحتلال فيها من الهزيمة القاسية. فى النهاية؛ كشفت الأعمال السينمائية الإسرائيلية- على مر العقود- عن هزيمة مريرة تركت جرحًا عميقًا فى الوعى الإسرائيلى، بصورة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها.. فهذه الحقائق تؤكد أن حرب 6 أكتوبر 1973 ستظل درسًا خالدًا من المستحيل نسيانه. 2 3