سحر خاص يتميز به التاج البريطانى وهو سحر يتخطى حدود السياسة ويترك أثرًا حتى على أكثر الزعماء براجماتية. هذا بالضبط ما نقلته الصحف العالمية بعد أن رصدت الكاميرات ابتسامة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» وسعادته عندما سلم رئيس الوزراء البريطانى «كير ستارمر» خطابًا موقعًا من الملك «تشارلز الثالث» يدعوه إلى زيارة رسمية. وتعد هذه هى الزيارة الرسمية الثانية التى يقوم بها «ترامب» إلى القصر الملكى البريطانى. كانت الزيارة الأولى خلال فترته الرئاسية الأولى عام 2019 فى عهد الملكة «إليزابيث». ومن المعروف، وفقًا للبروتوكولات الملكية البريطانية، أن القصر لا يستقبل رئيسًا خلال فترته الثانية ،ولذلك وصف «ستارمر» الزيارة بأنها «تاريخية وغير مسبوقة». فقد اعتاد القصر دعوة الرؤساء خلال فترتهم الثانية لتناول العشاء أو الشاى فقط لكن الدعوة الرسمية تتضمن لقاءً خاصًا وحديثًا طويلًا مع الملك. أما هدف الزيارة فهو وفقًا لما جاء فى رسالة «تشارلز»: «لمناقشة عدد كبير من القضايا ذات الاهتمام المشترك». وهنا يظهر جليًا الدور الذى طالما لعبه القصر والذى يعد من أبرز أدوات السياسة البريطانية بل هو «القوة الناعمة» ل(بريطانيا) حيث يجمع بين هيبة التاج ورمزيته التاريخية وبين قدرته على فتح قنوات الحوار». وقد ارتبطت صورة (بريطانيا) فى العالم بالعرش والتاج. وعلى الرغم من تقليص الدستور البريطانى لصلاحيات الملوك،إلا أن هذا النوع من التقييد قد فتح الباب أمام مجال جديد من النفوذ الملكى وهو القدرة على التأثير عبر الصورة والرمز..فهم يؤدون دورهم السياسى والدبلوماسى فى حدود ما تسمح به القوانين من خلال لقاءات وزيارات رسمية واحتفالات. حين يخالف البروتوكول الأعراف لم تأتِ زيارة «ترامب» الثانية إلى «لندن» عبثًا، أو بغرض المجاملة، بل جاءت استجابة لظروف دولية ملتهبة، مثل: الأزمة الأوكرانية، الأزمات التجارية بين «لندن»، و«واشنطن»، وتوتر العلاقات الأوروبية مع «المملكة المتحدة» فى بعض القضايا بعد خروج «بريطانيا من «الاتحاد الأوروبى» (بريكست)، إلى جانب مساعى «لندن» للحصول على ضمانات أمنية وتجارية جديدة، ما جعل «المملكة المتحدة» بحاجة ماسة إلى تجديد موقعها على طاولة الكبار، بعد أن أضعفها خروجها من «الاتحاد الأوروبى»، وهز صورتها السياسية على المسرح الدولى. وهنا تكشف هذه الخطوة عن استثمار بريطانى ذكى فى (القوة الناعمة) التى يمثلها (التاج) فى وقت قد تعجز فيه، لذا فإن دعوة «ترامب» الرسمية جاءت توظيفًا للملكية كأداة دبلوماسية ناعمة، لدفع أجندات تتجاوز صلاحيات الحكومة وحدها عن التقدم فى ملفات حساسة عبر قنواتها الرسمية. الملكية كذراع دبلوماسية غير رسمية تاريخيًا، لم تكن الملكية البريطانية مجرد واجهة احتفالية، بل لطالما- لعبت أدوارًا محورية فى فتح الأبواب المغلقة، وتليين المواقف، وإضفاء الشرعية على خطوات سياسية دقيقة. أول زيارة ملكية للصين ومن بين أبرز المحطات التى تؤكد ذلك: زيارة الملكة «إليزابيث» الثانية إلى «الصين» فى عام 1986 فى أول زيارة من نوعها لملك بريطانى إلى هذا البلد. وجاءت الزيارة بعد توقيع الاتفاق البريطانى الصينى بشأن مستقبل «هونج كونج»، والذى نص على إعادة المدينة إلى السيادة الصينية عام 1997. ورغم أن الحكومة البريطانية –حينها- كانت أنجزت الجزء الفنى من الاتفاق، إلا أن زيارة الملكة كانت بمثابة (ختم ذهبى) على التفاهم بين الحضارتين، ومهدت لعلاقات دبلوماسية وتجارية متطورة، استفادت منها شركات بريطانية كبرى فى مجالات متعددة؛ كما أثمرت الزيارة فى توقيع عدد من الاتفاقيات التجارية الصغيرة، التى مهدت الطريق لعقود استثمارية مستقبلية. قمة الكومنولث فى ناساو فى سياق آخر شهدت قمة رؤساء دول «الكومنولث» عام 1985 فى «ناساو» بالباهاما لحظة مفصلية فى التاريخ السياسى الحديث، حين انقسمت الدول الأعضاء حول كيفية التعامل مع نظام الفصل العنصرى فى «جنوب إفريقيا». ففى وقت كانت فيه رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة «مارجريت تاتشر» تعارض فرض عقوبات اقتصادية شاملة، لعبت الملكة «إليزابيث» دورًا غير مباشر ولكن حاسم فى المفاوضات، عبر دعمها للمسار التوافقى، حيث ساعد حضورها الرسمى ودعمها للمبادرات التوافقية على خلق أجواء أكثر هدوءًا. وبعدها، تمكنت القمة من إصدار بيان، أدى –لاحقًا- إلى إصدار بيان أقوى يدين (الأبارتايد)، ويطالب بالإصلاح، وهو ما ساهم فى تمهيد الطريق لانتهاء ذلك النظام العنصرى. أول زيارة ملكية لإيرلندا بعد استقلالها فى شأن آخر، زارت الملكة «إليزابيث» جمهورية «إيرلندا» فى مايو 2011، بعد عقود من العداء التاريخى، فى خطوة وصفتها الصحافة العالمية آنذاك- بأنها تاريخية وشجاعة.. حيث كانت أول زيارة من ملك بريطانى لإيرلندا منذ استقلالها. وبدت الزيارة كمبادرة مصالحة راقية، تُعلى من صوت التاريخ المشترك، وتعترف بالماضى، وأسفر ذلك عن فتح الباب لتعاون اقتصادى وأمنى أكبر، ما أثر إيجابيًا على المفاوضات حول السلام فى «إيرلندا الشمالية». زيارة ترامب الأولى فى 2019، استقبلت الملكة «إليزابيث» الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» فى أول زيارة له للتأكيد على قوة العلاقة الخاصة بين البلدين. وحول الدور المهم للملكة قال «ترامب» حينها- إن «الولاياتالمتحدة» مستعدة لتوقيع اتفاقيات تجارية ثنائية مع «بريطانيا»، بعد الخروج من «الاتحاد الأوروبى»؛ مشيرًا إلى أن الملكة «إليزابيث» الثانية كانت جزءًا أساسيًا من هذه الاستراتيجية، من خلال دورها فى تعزيز العلاقة الخاصة بين البلدين على مستوى البروتوكولات الملكية. واعتبر المحللون السياسيون أن زيارة «ترامب» الأولى إلى «المملكة المتحدة» كانت مثالًا على استخدام الملكية البريطانية كأداة دبلوماسية ناعمة. استقبال «جاكلين كينيدى» و«ميشيل أوباما» و«نيلسون مانديلا» وجدير بالذكر أن بعض الدعوات تم توجيهها لشخصيات عامة ورؤساء بهدف تلميع صورة بريطانيا وهو ما حدث فى زيارة الرئيس الأمريكى كينيدى حيث أدى ظهور الملكة إليزابيث إلى جانب «جاكلين كينيدى»، التى كانت تعد أيقونة للموضة والثقافة، إلى جذب أنظار الإعلام العالمى مما ساعد بريطانيا على تعزيز مكانتها كقوة ناعمة مؤثرة وأنيقة. أما «ميشيل أوباما» فقد كانت من أكثر زوجات الرؤساء الأمريكيين شعبية، ولذلك فقد كانت دعوة الرئيس أوباما وقرينته إلى القصر خطوة مهمة من أجل الحصول على تغطية إعلامية واسعة للعائلة المالكة. وكذلك كان استقبال الملكة للزعيم الراحل «نيلسون مانديلا» الذى أعطى صورة لبريطانيا كداعم للتحرر. «تشارلز» يسير على نفس الدرب زيارة ألمانيا وفرنسا الأمر نفسه سار عليه الملك «تشارلز» الثالث بعد توليه العرش فى عام 2022، خاصة بعد أن أدرك أن العلاقات مع «أوروبا»، خاصة مع «ألمانيا، وفرنسا»، شهدت توترًا بسبب خروج «بريطانيا» من «الاتحاد الأوروبى»، ما أثر سلبًا على التجارة والتعاون السياسى بين «بريطانيا» وأهم شريكين أوروبيين. فكانت زيارته إلى «ألمانيا» من أبرز المحطات الدبلوماسية، إذ قام بزيارة رسمية إلى «برلين» فى أواخر 2023؛ وألقى فى البرلمان الألمانى (بوندستاج) خطابًا باللغة الألمانية، وهو أمر نادر وغير مسبوق من ملك بريطانى.. وهو ما لاقى استحسانًا كبيرًا فى «ألمانيا»، واُعتبر كخطوة رمزية لتعميق الروابط وإزالة الغموض الذى أحدثه (بريكست). استقبال زيلينسكى فى المقابل، استضاف الملك «تشارلز»، الرئيس الأوكرانى «فولوديمير زيلينسكى» مرتين، الأولى فى قصر «باكنجهام» العام الماضى، والثانية فى قصر ساندرينجهام العام الجارى. ففى زيارة فبراير 2024 إلى «باكنجهام»، استضاف «تشارلز»، «زيلينسكى» فى زيارة حملت رمزية كبيرة وسط الصراع المستمر مع «روسيا»، وأشار «تشارلز» إلى أهمية الوحدة الأوروبية فى مواجهة «روسيا»؛ مؤكدًا أن (التاج البريطانى) يقف مع «كييف». الملكية وسيلة لتجاوز الجمود السياسى بالعودة لزيارة «ترامب» الأخيرة إلى «المملكة المتحدة»، يبدو أن الحكومة البريطانية قد وجدت فى (التاج) أداة لتجاوز قيود العمل التنفيذى، والاصطفافات السياسية الداخلية. فى النهاية.. يمكن القول إن زيارة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» الثانية إلى «المملكة المتحدة» لا تمثل مجرد حدث دبلوماسى تقليدى، بل هى تجسيد لقوة (التاج البريطانى) الناعمة، التى تتجاوز حدود البروتوكولات والاتفاقيات الرسمية. 2