لطالما اعتُبرت اللقاحات قصة نجاح كبرى في تاريخ البشرية، فقد أنقذت ملايين الأرواح وساهمت فى القضاء على أمراض فتاكة. ورغم الإنجازات الهائلة التي حققتها حملات التطعيم، لا سيما في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، تواجه هذه الجهود اليوم تحديات غير مسبوقة. فبعد جائحة كورونا، شهد العالم ارتفاعًا ملحوظًا في التشكيك بجدوى اللقاحات، ما أدى إلى تراجع معدلات التطعيم وعودة ظهور بعض الأمراض التى كان يعتقد أنها تحت السيطرة. هذا التقرير يستعرض التحديات التى تواجه جهود التطعيم العالمية، ويكشف كيف يمكن للمعلومات المضللة، والتفاوت الجيوسياسى، ونقص البنية التحتية أن تهدد مكاسب الصحة العامة التى تحققت خلال العقود السابقة. تحديات جسيمة نشر مجلس العلاقات الخارجية» مركز أبحاث أمريكى مستقل» دراسة بشأن التطعيمات أكد فيها أنها تُعتبر قصة نجاح على نطاق واسع فى مجال الصحة العامة. فمنذ أن كان إدوارد جينر رائدًا فى تطوير لقاح الجدرى فى القرن الثامن عشر، ساهمت هذه الحملات فى خفض معدلات الإصابة بالأمراض بشكل كبير فى جميع أنحاء العالم، ويُنسب إليها الفضل فى إنقاذ ملايين الأرواح، لا سيما فى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. زيادة الشكوك في السنوات التى أعقبت جائحة كورونا (كوفيد-19)، ازداد عدد المشككين فى جدوى اللقاحات، ما أدى إلى ارتفاع ملحوظ فى حالات تفشى الأمراض. ويشير الخبراء إلى أن المعلومات المضللة حول الآثار الجانبية هى السبب الجذرى لذلك. وحتى في البلدان ذات معدلات الأمراض المعدية المنخفضة، تزداد صعوبة الوقاية من الأمراض مع إحجام الناس عن التطعيم. ويتمثل أحد التحديات الرئيسية الأخرى في عدم المساواة الجيوسياسية بين الدول الغنية، كونها المنتج الرئيسى، ولكنها بطيئة فى توزيع الجرعات. وقال خبراء الصحة إنه لكى تؤدى اللقاحات وظيفتها، يتعين على الدول تعزيز جهودها لمواجهة التضليل الإعلامى، وإعطاء الأولوية لدعم البلدان منخفضة الدخل التى تُكافح الأمراض، من مرحلة الإنتاج إلى التوزيع. وفى هذه الأثناء، فى الولاياتالمتحدة، يعمل رئيس السياسة الصحية، روبرت ف. كينيدى جونيور، على تحويل البلاد بعيدًا عن تاريخها فى إبقاء اللقاحات على جدول أعمال الصحة العامة، من خلال إلغاء توصيات وعقود اللقاحات وطرد المسؤولين الخبراء. كيف تعمل اللقاحات؟ تتوافر حاليًا لقاحات للوقاية من خمسة وعشرين مرضًا مهددًا على الأقل حول العالم، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية (WHO). وتُدرّب اللقاحات الجسم على بناء أجسام مضادة، وهي بروتينات ينتجها الجهاز المناعى لمحاربة الأمراض. وتحتوى هذه الأجسام المضادة على أجزاء ضعيفة أو غير نشطة من مسبّب المرض (المعروف باسم المستضد)، مما يحفّز استجابة مناعية داخل الجسم، ليتمكن من التعرّف على المرض عند مواجهته وإيقافه. وتُعدّ بعض اللقاحات مهمة لتحقيق «مناعة القطيع»، أى أنه فى حال تطعيم جميع السكان تقريبًا، لا يمكن للمرض أن ينتشر بسهولة. وهذا أمر بالغ الأهمية بشكل خاص للأشخاص غير القادرين على التطعيم، مثل أولئك الذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة، أو الحوامل، أو صغار السن أو كبار السن جدًا الذين لا يُعد التطعيم آمنًا لهم. من يشرف على تطوير اللقاحات وتوزيعها؟ الهيئات التي تُشرف على استخدام اللقاحات وتطويرها خاصة بكل بلد. فالهيئات التنظيمية الوطنية لها الكلمة النهائية في إمكانية استخدام اللقاح داخل حدود الدولة. وفي الولاياتالمتحدة، تُدار هذه العملية من قِبل إدارة الغذاء والدواء (FDA)، وبشكل عام، تتبع العملية مسارًا يشمل: البحث والاكتشاف، والاختبار، والتصنيع، والموافقة، والتوصية بالاستخدام، ومراقبة السلامة بعد الموافقة. هناك بعض الاختلافات بين البلدان.على سبيل المثال، تعتمد عملية المراجعة في المملكة المتحدة على التحليلات التي يجريها مصنّعو اللقاحات، بينما في الولاياتالمتحدة، تُجرى الجهات التنظيمية تحليلاتها الخاصة باستخدام البيانات الخام. يمكن لمنظمة الصحة العالمية إدراج لقاح للاستخدام الموصى به، وتُصدر المنظمة هذا الختم عندما يثبت أن معدل فعالية التطعيم 50 % أو أعلى، ولا يمكنها الموافقة على دواء للاستخدام في أى دولة، ولكن يمكن لمصنّعى اللقاحات طلب التأهيل المسبق من منظمة الصحة العالمية لضمان حصوله على تأييد كبير للدول. كما يمكنها المساعدة فى صرف الأموال، إذ يتمثل أحد الأهداف الرئيسية للمنظمة فى مساعدة الدول على تحقيق تغطية عالمية لا تقل عن 90 % للقاحات الأساسية بحلول عام 2030. قد تكون عملية الحصول على لقاح من مرحلة التطوير إلى مرحلة الموافقة عملية دقيقة وتستغرق وقتًا طويلًا، حيث تُشير معظم التقديرات إلى أن هذا الإطار الزمنى يستغرق حوالى عشر سنوات. وكانت لقاحات كوفيد-19، التى شهدت إنتاجًا مسرعًا فى حالة طوارئ صحية عامة نشطة، استثناءً ملحوظًا. وكان أسرع وقت قياسى قبل كوفيد للعملية بأكملها هو أربع سنوات. وهناك جهود لتقليص هذا الوقت إلى مائة يوم في حالات الطوارئ الصحية المستقبلية، وفقًا لمدير الصحة العالمية في مجلس العلاقات الخارجية، توماس جيه. بوليكى. عملية السرعة الفائقة عندما بدأ فيروس كوفيد-19 بالانتشار فى جميع أنحاء العالم فى ربيع عام 2020، لم تكن هناك لقاحات للحماية من الفيروس. ولتسريع هذه العملية، أطلقت الحكومة الأمريكية «عملية السرعة الفائقة» فى مايو 2020، وكان برنامجًا مبتكرًا يهدف إلى اكتشاف كيفية «الحصول على لقاح فى سبعة أشهر بدلًا من استغراق ثمانى إلى اثنى عشر عامًا»، وفقًا لوزير الصحة والخدمات الإنسانية آنذاك، أليكس عازار. كان البرنامج شراكة بين القطاعين العام والخاص، دعمت العديد من مطورى اللقاحات بناءً على أدلة أولية على النجاح والممارسات الجيدة. وتطلب الأمر تنسيقًا بين الوكالات، بما فى ذلك مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، وإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، والمعاهد الوطنية للصحة، ووزارة الصحة والخدمات الإنسانية، ووزارتي الزراعة والدفاع، وغيرها. بدأت الولاياتالمتحدة لأول مرة في إعطاء لقاحات كوفيد فى ديسمبر 2020 للمجتمعات المعرضة للخطر، وتم اعتماد أول لقاح للاستخدام العام على نطاق واسع في أغسطس 2021. ومنذ ذلك الحين، قال الباحثون إنه تم تجنب ملايين الإصابات والاستشفاء والوفيات بفضل حملات التطعيم. حققت العملية نجاحًا فى إنتاج لقاحات في وقت قياسى بطريقتين، من ناحية التطوير، استخدمت تقنية mRNA، وهو جزيء مشارك في تخليق البروتين، كآلية توصيل تمكّن اللقاح من تحقيق نتائج سريعة خلال الاختبارات. تحديات التطعيم تشمل العوامل التى تُعقّد عملية التطعيم ما يلى: توافر الإمدادات: إذا لم تكن الحكومة مستعدة لتفشى مرض، فقد يستغرق الأمر وقتًا طويلًا، غالبًا عشر سنوات على الأقل، إما لإنتاج لقاح أو توزيع الكمية اللازمة للسكان. ويُعد تكافؤ فرص الشراء مصدر قلق آخر فيما يتعلق بالإمدادات، تاريخيًا، كانت الدول الأقل نموًا فى «الجنوب العالمى» هي الأقل حصولًا على اللقاحات، نظرًا لأن مراكز تطوير اللقاحات الرئيسية تميل إلى التواجد في الدول الأكثر ثراءً وتقدمًا. ويؤدى هذا التأثير إلى إثارة الاستياء والتوترات السياسية وانعدام الثقة، وهى ظاهرة أطلق عليها المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، «الفصل العنصري في اللقاحات»، فى إشارة إلى جائحة كوفيد- 19. الإدارة: يُعدّ نقص الوصول إلى الرعاية الصحية أحد أهم القيود. يقول براشانت ياداف، الزميل الأول في مجلس العلاقات الخارجية لشؤون الصحة العالمية، إن اللوجستيات الهائلة للوصول إلى العيادات، مثل تلك الموجودة في المناطق النائية والريفية، وتحديد المواعيد، تشكل عائقًا كبيرًا. •الطلب: تسبب ارتفاع عدد الأشخاص - الذى يقارب ضعف عددهم في عام 2021 وفقًا لاستطلاعات الرأى الأخيرة للبالغين في الولاياتالمتحدة - الذين إما يعارضون اللقاحات أو يخشونها فى مشاكل فى حماية السكان من الأمراض. كيف يمكن للدول المساهمة في تحقيق أهداف التطعيم العالمية؟ أكد خبراء الإغاثة أن بإمكان الدول الغنية توجيه المزيد من الدعم للدول الأخرى عند ظهور الأمراض، ومثال على ذلك، تدخلت الولاياتالمتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي ودول أخرى مبكرًا لتوصيل اللقاحات إلى عدة دول للمساعدة في مواجهة ارتفاع حالات الإصابة ب MPOX في عام 2024. وقال الخبراء إن إرسال اللقاحات إلى الدول المحتاجة ليس سوى الخطوة الأولى، ثم تخصيص الأموال لتوزيعها، مما يضمن وصولها إلى الصيدليات والعيادات بعد تسليمها. ومن الحلول المهمة الأخرى لهذه القضايا مساعدة الدول الغنية للمناطق ذات الدخل المنخفض على إنتاج لقاحاتها الخاصة وبناء بنيتها التحتية الصحية. هل تتخلى الولاياتالمتحدة عن ريادتها في مجال اللقاحات؟ لطالما كانت الولاياتالمتحدة أكبر مانح لمبادرات الصحة العالمية، بما في ذلك برامج التطعيم، في عام 2024، بلغت ميزانية الولاياتالمتحدة للصحة العالمية 12 مليار دولار، أى ما يعادل 0.1 % فقط من إجمالي ميزانية الحكومة الأمريكية. حذر خبراء الصحة من أن هذا التقدم قد يكون في خطر،ففى أول يوم له في منصبه، انسحب ترامب من منظمة الصحة العالمية، مما قد يؤدى إلى فقدان المنظمة ما يقرب من خُمس تمويلها. وقد أغلقت المنظمة بالفعل ما لا يقل عن 83 % من البرامج - التي قدم الكثير منها دعمًا صحيًا حيويًا - التابعة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. قال ياداف: «بدون شراكة قوية مع منظمة الصحة العالمية، لن يُثمر بعض هذا الجهد في مجال العلوم المتقدمة بنفس السرعة». قد تصبح منظمة الصحة العالمية أقل ميلًا إلى تأييد اللقاحات الأمريكية الصنع، وقد تقل ثقة الدول الأخرى بها. كما أوقف ترامب أى تمويل أمريكى لتحالف غافي، الذى يلقّح ما يقرب من 70 مليون طفل سنويًا. إن وقف تمويل الجهود الصحية في الخارج يضر بالولاياتالمتحدة أيضًا حيث قالت ميشيل غافن، الخبيرة في شؤون أفريقيا بمجلس العلاقات الخارجية: «إن تحسين أنظمة إدارة الأمراض المعدية في الخارج يقلّل من احتمالية تحوّل أمراض معدية مرعبة، مثل الإيبولا، إلى مشكلة في الداخل». تقليص برامج اللقاحات من جانبه، اتخذ روبرت كينيدي سلسلة من الخطوات لتقليص برامج اللقاحات الحالية. ففي مارس، عين شخصًا مشككًا في جدوى اللقاحات، وقد فقد مصداقيته، للإشراف على مراجعة أي صلة بين اللقاحات والتوحد، وهو ادعاء دحض منذ فترة طويلة. وقبل أيام، استقال كبير مسئولى اللقاحات في إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، الذى شغل المنصب لفترة طويلة، بسبب ما وصفه ب»التضليل والأكاذيب» التى أدلى بها كينيدى. وبحلول مايو، أحدث روبرت كينيدى ضجة أخرى بإلغاء توصية لقاح كوفيد-19 للنساء الحوامل والأطفال، وفسخ عقدًا بقيمة 600 مليون دولار مع شركة موديرنا لتطوير لقاح إنفلونزا الطيور. وبعد شهر، اتخذ خطوة غير مسبوقة بفصل جميع الأعضاء السبعة عشر فى اللجنة الاستشارية للقاحات التابعة لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، متهمًا اللجنة بأنها «مبتلاة بتضارب المصالح». وفي أغسطس، ألغى عقود منح بقيمة 500 مليون دولار لتطوير الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA). وقد وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على لقاح كوفيد-19 المحدث فى وقت لاحق من ذلك الشهر، لكنها اقتصرت على كبار السن أو من يعانون من أمراض كامنة. وفى اليوم نفسه، أُقيلت سوزان موناريز، مديرة مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، بعد شهر واحد فقط من توليها المنصب، بعد رفضها الاستقالة تحت ضغط من روبرت كينيدى لتغيير سياسة اللقاحات. ورد فريقها القانونى، ردًا على الإعلان، بأن روبرت كينيدي «يستغل الصحة العامة لتحقيق مكاسب سياسية» و»يعرض حياة ملايين الأمريكيين للخطر». 2