تمر اليوم السبت 30 أغسطس ذكرى وفاة الأديب العالمى «نجيب محفوظ» (1911 – 2006)، الحاصل على جائزة نوبل للآداب وهو أحد أهم رموز الثقافة العربية فى القرن العشرين. محفوظ الذى شكل برواياته مرآة دقيقة للمجتمع المصرى وتحول إلى أيقونة أدبية تجاوزت حدود اللغة العربية إلى العالمية، كان حاضرًا ومؤثرًا فى السينما، إذ تحولت عشرات من رواياته وقصصه إلى أفلام ومسلسلات، تركت أثرًا لا يُمحى فى وجدان الجمهور. ورغم هذا الكم من النجاحات، إلا أن هناك بعضًا من الأعمال الروائية كانت أكثر تعقيدًا فى ترجمتها بصريًا على الشاشة الصغيرة والسينما أيضًا. إما لصعوبة بنيتها الأدبية، أو لتشعب أبعادها الرمزية والفلسفية، أو لجرأتها الفكرية التى اصطدمت بالرقابة والخوف من الجدل. وفى ذكرى رحيله التاسعة عشر، نتوقف أمام بعض من هذه الأعمال التى كانت صعبة الوصول إلى الشاشة وواجهت معارك شاقة.
الحب فوق هضبة الهرم: مأساة جيل كامل تعد قصة (الحب فوق هضبة الهرم) واحدة من أقصر وأكثف قصص «نجيب محفوظ»، التى نشرت للمرة الأولى عام 1979، لكنها كانت من أصعب ما ترجمت بصريًا على الشاشة إلى فيلم سينمائى عام 1986 من إخراج «عاطف الطيب» السيناريو والحوار ل«مصطفى محرم». القصة فى ظاهرها بسيطة للغاية، شاب وفتاة من الطبقة الوسطى يحلمان بالزواج، لكن الواقع الاجتماعى والاقتصادى يسحق أحلامهما حتى يجدان نفسيهما مطاردين فى لحظة حميمة على هضبة الهرم. لكن خلف هذه البساطة تختبئ إدانة كاملة لزمن كامل، وضغط أخلاقى وسياسى صاغه «محفوظ» بمهارة. وعندما قرر كاتب السيناريو «مصطفى محرم» والمخرج «عاطف الطيب» تحويل القصة إلى فيلم، واجهتهما معضلة حقيقية وهى كيف يمكن تقديم كل هذه الرمزية الاجتماعية والسياسية فى إطار درامى دون الوقوع فى فخ المباشرة. إضافة إلى ذلك، كان لا بد من تمرير الفيلم عبر الرقابة التى اعترضت على مشهد الشاب والفتاة على هضبة الهرم كموقع أثرى. وهو ما تطلب وقتها مفاوضات طويلة، حتى خرج الفيلم للنور ببطولة «أحمد زكى» و«آثار الحكيم». وظل فيلم (الحب فوق هضبة الهرم) واحدًا من أبرز الأفلام التى عبرت عن مأساة جيل الثمانينيات. «نجيب محفوظ» كان حاضرًا للعرض الأول للفيلم، وصرح فى إحدى اللقاءات الصحفية بعدها، بأنه سعيد بالفيلم، لأنه لمس بصدق جوهر القصة وروحها المأساوية، وأشاد بأداء «أحمد زكى» و«آثار الحكيم»، واعتبرهما الأقرب إلى ما تخيله فى شخصياته. وأضاف أيضًا أن القصة القصيرة لا تكفى وحدها لفيلم طويل، فالسيناريست يوسعها، والمخرج يضيف من رؤيته... لكن المهم أن تظل الفكرة الأساسية موجودة وهو ما رآه متحققًا فى الفيلم.
قلب الليل: الفلسفة فى مواجهة الدراما أما رواية (قلب الليل) والتى صدرت عام 1975 فكانت من أكثر نصوص «نجيب محفوظ»عمقًا وتعقيدًا. وقد شكلت تحديًا من نوع آخر، فالرواية فلسفية فى جوهرها، وتأملية فى الحرية والقدر والتمرد وفى أسئلة الجبر والاختيار، والعلاقة بين الانسان والمجتمع، وبين السلطة والمعرفة. وعندما قرر المخرج «عاطف الطيب» والسيناريست «محسن زايد» تحويلها إلى فيلم، كان عليهما اختزال الصفحات الثقيلة إلى حبكة درامية تحتمل المشاهدة، وتخلق توازنًا بين البعد الفكرى والمستوى البصرى، لكن بقيت الرواية أعمق من أن يتم اختصارها على الشاشة. فكانت النتيجة فيلمًا شديد الجدية، وصدم جمهور لأنه لم يكن معتادًا على هذا النوع من الأفلام الفلسفية الثقيلة. الكثير من النقاد اعتبروا أن الفيلم كشف محدودية السينما المصرية أمام نصوص محفوظ الفكرية، وأن (قلب الليل) سيظل كتابًا يُقرأ أكثر مما يشاهد.. الفيلم قام ببطولته «نور الشريف» وعرض عام 1989.
أفراح القبة: مرآة قاسية للمسرح والواقع
حين كتب محفوظ (أفراح القبة) عام 1981، كان يضع القارئ أمام نص مسرحى داخل الرواية، يفضح أبطاله أنفسهم من خلال عمل فنى يجسد حياتهم الحقيقية. نص معقد يعتمد على تداخل السرد والخيال والواقع، ويتطلب لغة مسرحية ذات أبعاد نفسية. الرواية كانت مثل كابوس للمخرجين، لأن النص قائم على مسرح داخل المسرح، حيث يكشف الممثلون على الخشبة فضائحهم الشخصية عبر الأدوار التى يؤدونها. فى فترة ما بعد نشر الرواية لم تكن السينما المصرية جاهزة لاستيعاب هذه البنية الدرامية المعقدة، لذلك تم تهميش النص لسنوات طويلة، إلى حين أن قرر المخرج «محمد ياسين» تحويلها إلى مسلسل عام 2016 ومن ثم كان التحدى مضاعفًا فى كيفية الحفاظ على البنية «المسرحية» المكثفة دون أن يفقد المشاهد حس المتابعة الدرامية.
حديث الصباح والمساء: ملحمة لم تكتمل أما رواية (حديث الصباح والمساء) التى كتبها «محفوظ» فى عام 1987 فتُعتبر عملًا فريدًا من نوعه، حيث كتبت على شكل معجم شخصيات، بالحروف الأبجدية، وتعرض تاريخ مصر عبر سير عشرات الأفراد من عائلات مختلفة، يتقاطع مصيرهم مع التحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى منذ نهايات القرن التاسع عشر، وحتى بدايات القرن العشرين. تم تحويل الرواية إلى مسلسل عام 2001 إخراج «أحمد صقر»، وكتب السيناريو والحوار «محسن زايد»، الذى نسج معالجة درامية بديعة، فأعاد صياغة الرواية المعقدة إلى سرد درامى ممتد عبر ثلاثة أجيال. نجاح المسلسل كان استثنائيًا، لكن الحلم بامتداد العمل إلى جزء ثانٍ، يغطى عقودًا لاحقة إلى فترة الثمانينيات، توقف فجأة بوفاة «محسن زايد»، الذى كان الوحيد القادر على تفكيك هذا البناء المحفوظى الصعب. وهكذا بقيت الملحمة ناقصة، تحمل فى طياتها ما يشبه الحزن على مشروع لم يكتمل.
ميرامار: تحد مختلف لتعدد الأصوات أما فيلم (ميرامار)، فالتحدى كان مختلفًا. لأن الرواية قائمة على تعدد الأصوات، حيث كل شخصية تروى الأحداث من منظورها الخاص، مع اختلاف التفسير والتحليل النفسي. والسينما بطبيعتها تميل للحبكة الخطية، لذا كان نقل هذا البعد النفسى والتعدد السردى إلى الشاشة صعب جدًا، ويحتاج معالجة إخراجية مبتكرة، مع تقنيات بصرية تعكس الصراع النفسى من غير أن يتحول الفيلم إلى مجرد حوار داخلى أو عرض مسرحى. من الناحية الإنتاجية، الفيلم واجه صعوبة فى تصوير الأماكن الضيقة وحركة الكاميرا المتواصلة لتعكس تعدد المنظورات، أما على الصعيد الرقابي، فكان هناك تحفظ على بعض الحوارات السياسية والاجتماعية التى تنتقد الفساد الطبقي، فاضطر المخرج لتعديل بعض المشاهد دون الإخلال بالجوهر. الفيلم اخرجه «كمال الشيخ» وسيناريو وحوار «ممدوح الليثى»، وكان العرض الأول له عام 1969.