بطاركة الكنيسة القبطية 118 بطريركًا تعاقبوا على كرسى مار مرقس منذ بداية النصف الثانى من القرن الأول الميلادى، وهو تاريخ دخول المسيحية مصر وحتى الآن، بداية من القديس مرقس الرسول إلى قداسة البابا تواضروس الثانى الذى يحمل الرقم 118، وخلال 20 قرنًا تقريبًا ارتبط هؤلاء البطاركة بالدولة والمجتمع المصرى، عبروا عنه وحملوا همومه. فى هذه السلسلة نقدم نبذة سريعة عن بطاركة الكنيسة القبطية للتعريف بهم وبدورهم ورسالة كل منهم.
على مدار عقود طويلة، خاضت الكنيسة المصرية صراعًا مريرًا ضد الوثنية وبطش الرومان، بالتوازى مع نشر المسيحية وتشجيع المؤمنين بها على مواجهة وتحمُّل الاضطهاد. ولضمان مجابهة كل التيارات الفكرية السائدة فى مصر آنذاك، كانت الكنيسة تحرص على اختيار بطاركتها من مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، التى أسَّسها مرقس الرسول. وقد كان الهدف من هذا الاختيار، هو ضمان أن يكون البطريرك ذا عِلْم واسع وقدرة على مجابهة الأفكار المخالفة. وفاة كلاديانوس عندما توفى البابا «كلاديانوس»- البابا التاسع للكنيسة القبطية- ، فى عام 169م، اجتمعت الأساقفة والإكليروس وبعض المؤمنين بالكنيسة، لانتخاب خلف له. واستقر رأيهم فى النهاية على رجل اشتهر بالتقوى والبر، هو «أغريبينوس». كان أغريبينوس يمتلك قدرًا كبيرًا من العلم وعقلًا مستنيرًا، مما أهله لتولى الكرسى المرقسى فى العام نفسه. استمرت ولاية البابا «أغريبينوس» منذ عام 169م حتى عام 181م،، واشتهر أثناء تقلده رئاسة البطريركية، بالزُهد والتقشف طوال فترة مكوثه على الكرسى، كما عُرف عنه التواضع الشديد. العلامة بنتينوس أثناء فترة بطريركيته، عَيَّنَ أغريبينوس، العلامة بنتينوس، مسئولاً عن مدرسة الإسكندرية اللاهوتية. كان بنتينوس رَجُلاً غزير العلم، واسع الثقافة والإطلاع. خلال فترة رئاسته للمدرسة، قام بنتينوس بترجمة الأسفار المقدسة من اللغات الأصلية إلى اللغة القبطية؛ ليصبح أول مَن ضبط وطوَّع اللغة القبطية لترجمة الأسفار المقدسة. أثناء سفر القديس «بنتينوس» إلى بلاد اليمن، عثر على نسخة الإنجيل الأصلية المكتوبة بيد القديس مَتَّى البشير بنفسه.اصطحب «بنتينوس» النسخة معه إلى الإسكندرية؛ حيث ترجمها من اللغة الآرامية إلى اللغة القبطية. عاصر البابا «أغريبينوس» أيضًا علامة بارز من مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، وهو الفيلسوف «أكليمندس الإسكندرى»، ذاع صيته فى مجال تدريس الفلسفة اللاهوتية آنذاك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وأخرج جيلاً عظيم الشأن فى هذا المضمار. رحيل أغريبينوس فى عام 181 م، رحل البابا «أغريبينوس»، ليخلفه رجلٌ تقىٌ يُدعَى يوليانوس، أصبح البطريرك الحادى عشر. اشتهر «يوليانوس» بامتلاك روح النبوة، إذ إنه حين دنت ساعة وفاته، جاءه إعلان من السماء، يُعلمه بموعد انتقاله. فى بعض مدونات مؤرخى الكنيسة القبطية، ورد أن «يوليانوس» تنبّأ بمَن يخلفه فى رئاسة الكرسى البابوى. خلف «يوليانوس»، رجل بار يدعى «ديمتريوس»، وشهرته «الكرام». كان «ديمتريوس» فلاحًا أُميًا، وبحسب الروايات كان الرَّب هو من انتقاه للجلوس على الكرسى البابوى خلفًا للبابا يوليانوس، لتقواه وصلاحه. روى أن «ديمتريوس»، عثر ذات يوم على عنقود عنب طرح فى غير أوانه، ففرح به، وقرر أن يُقدمه إلى البابا المريض. كان هذا الأمر بمثابة إشارة سماوية؛ حيث كان البابا يوليانوس، رأى فى منامه أن من سيأتيه بعنقود عنب فى غير موسمه، هو من سيخلفه فى الخدمة البابوية. البابا ديمتريوس الأول (الكرَّام) نشأ «ديمتريوس» بين الحقول يعتنى بالكروم، التى ورثها عن أبيه. ولمّا بلغ أشده أراد أبواه أن يزوجاه، فخضع لإرادتهما ظاهريًا، إذ لم يشأ أن يعارضهما، لكنه تعهد مع زوجته، التى كانت ابنة عمّه، أن يحفظ كل منهما بتوليته، فوافقته على هذا العهد. قيل إن ملاك الرب كان يظللهما أثناء نومهما. تولى «ديمتريوس» خلافة الكرسى البابوى، عقب رحيل البابا يوليانوس مباشرة؛ تنفيذًا لوصيته. بطريرك ومصلح تولى ديمتريوس الكرّام، الرجل البسيط والأمّى المتزوج، منصبَ البطريرك الثانى عشر للقديس مرقس، بعد أن رفض فى البداية هذه المسئولية الجسيمة. وعلى الرغم من أنه لم يكن يمتلك من العِلم سوى القدر الذى يمكّنه من القراءة والكتابة؛ فإنه بعد توليه الكرسى البابوى، سعى بجد لتحصيل العلوم الدينية والمدنية من أساتذة مدرسة الإسكندرية اللاهوتية. ونتيجة لرغبته الشديدة فى استكمال ما فاته من علم، تمكن البابا ديمتريوس فى وقت قصير من تحصيل قدر كبير من المعرفة، واستخدمها لوضع الحساب الأبقطى، وهو التوقيت الخاص بتحديد موعد عيد القيامة، الذى لا يزال معمولاً به فى الكنائس الشرقية حتى اليوم. وقبل هذا التوقيت، كان المسيحيون يصومون الأربعين المقدسة بعد عيد الغطاس مباشرة؛ اقتداءً بالسيد المسيح الذى صام بعد عماده، ثم يصومون أسبوع الآلام منفصلاً، ليكون الفصح المسيحى فى الأحد الذى يلى الفصح اليهودى. كما كان بعض المسيحيين يحتفلون بالفصح المسيحى فى الرابع عشر من أبريل، أى فى اليوم نفسه الذى يحتفل فيه اليهود، دون الالتفات إلى أن فصح المسيحيين كان بعد الفصح الموسوى. لهذا؛ اهتم البابا ديمتريوس بوضع قواعد ثابتة للأصوام والأعياد المسيحية، وضم الأربعين المقدسة إلى أسبوع الآلام. وقد أرسل هذه القواعد إلى أساقفة أورشليم وأنطاكية وروما وغيرهم، فاستحسنوها وعملوا بها حتى الآن، باستثناء كنيسة روما التى عدّلت عن ذلك فى القرن السادس عشر واتبعت التقويم الغريغورى. وبذلك يعود الفضل الأول فى توحيد موعد الاحتفال بعيد الفصح إلى بابوات الكنيسة القبطية، الذين كانوا يرسلون برسائلهم الفصحية إلى العالم أجمع؛ ليكون الاحتفال موحدًا والسرور عامًّا. الاضطهاد والنفى عاشت السنوات الأولى من بطريركية البابا ديمتريوس فى هدوء وسلام، لكن سرعان ما اشتد اضطهاد الإمبراطور الرومانى سبتيميوس ساويرس ضد مسيحيىّ مصر. وخلال هذا الاضطهاد، استشهد عدد كبير من المؤمنين، من بينهم ليونيداس والد العلامة أوريجينوس. كما اقتحم والى الإسكندرية كنيسة القديس مرقس وسلب كل ما فيها، ثم قبض على البابا ديمتريوس ونفاه إلى أوسيم؛ حيث بقى حتى انتهى زمن الاضطهاد. بعد عودته من المنفى، وجد البابا ديمتريوس أن مدير مدرسة الإسكندرية، إكليمنضس، قد توفى، فقام بتعيين أوريجينوس، الذى كان مشهودًا له بالشجاعة والغيرة والشغف بالعلم، خلفًا له، على الرغم من أن عمره لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة. كما واجَه البابا بعد عودته فكرة انتشرت فى بلاد العرب مفادها أن النفس تموت بموت الجسد. ولأن العلاقة بين هذه البلاد ومصر كانت قوية؛ حيث كان مسيحيوها خاضعين للكرسى السكندرى، أرسل البابا ديمتريوس أوريجينوس لإقناعهم بفساد هذه الفكرة. ونجح المعلم الكبير فى دحض هذه البدعة من أساسها، ثم عاد إلى الإسكندرية ليواصل نشاطه فى المدرسة اللاهوتية. لم يفتر البابا ديمتريوس عن تعليم المؤمنين وتثبيتهم فى الإيمان الصحيح، حتى عندما كبر وضعف، كان يُحمل على محفة إلى الكنيسة ليُعَلم الشعبَ. ورحل بسلام عن عمر يناهز المائة وخمس سنوات، قضى منها نحو اثنين وثلاثين عامًا فى البطريركية، وذلك قبل أن تشتعل نيران الاضطهاد التى أشعلها الإمبراطور مكسيميانوس. وهكذا؛ ظلت الكنيسة المصرية صامدة أمام الاضطهاد لفترة طويلة، وكان بطاركتها بمثابة صمام أمان لكل مَن يلجأ إليها، ليبدأ بذلك دورها الجديد فى حماية العقيدة وكل ما تسلمته من الآباء الأوائل.