تصفيق حار.. هتافات جماهيرية.. ومتسابقون يتعثرون، وينهضون، ويركضون نحو خط النهاية مشهد يبدو مألوفًا فى مباريات الأولمبياد، لكن الأبطال هذه المرة ليسوا رياضيين أو متسابقين عاديين، إنهم آلات معدنية بملامح صماء وخوارزميات ذكية.. أو ببساطة (روبوتات). فقد اجتمعت فى العاصمة الصينية«بكين»، العقول البشرية، والروبوتات، للمشاركة فى «دورة الألعاب العالمية الأولى للروبوتات الشبيهة بالبشر»، وهو حدث فريد يمزج بين الترفيه، التكنولوجيا، والطموح المستقبلى المفعم بالتطور. أولمبياد من نوع جديد ما أجمل أن يمتزج العلم بالمرح، والابتكار بالحماس، حين تتحول مفاهيم الذكاء الاصطناعى، والهندسة الصعبة، والخوارزميات المعقدة إلى منافسات مشوقة، ونتائج مبهجة.. ففى الحلبة الوطنية للتزلج السريع، التى بُنيت لأولمبياد 2022، انطلقت فعاليات «دورة الألعاب العالمية للروبوتات البشرية» يوم الجمعة الماضى، بحضور آلاف المتفرجين، ومشاركة 280 فريقًا من 16 دولة، بما فى ذلك: «الولاياتالمتحدة، ألمانيا، البرازيل»، وغيرها، إلى جانب «الصين» المستضيفة، التى دفعت ب192 فريقًا يمثلون جامعات وشركات خاصة رائدة فى مجال الذكاء الاصطناعى. وقد انطلقت الألعاب – التى استمرت 3 أيام –بعد 48 ساعة من اختتام مؤتمر (الروبوتات العالمى 2025) فى «بكين»، الذى كان موضوعه «من أجل روبوتات أكثر ذكاءً، روبوتات بشرية أكثر ذكاءً»، ليترجم النظريات والابتكارات التى طُرحت بالمؤتمر إلى منافسات حية تمشى على قدمين. لم تقتصر مسابقات الأولمبياد على العروض القتالية فحسب؛ بل شملت مسابقات عدة، بداية من الجرى لمسافات مختلفة، مرورًا بمباريات كرة قدم، وتنس الطاولة، وصولًا إلى عروض رقص جماعى ودق الطبول، وحتى الضيافة، ونقل المواد المختلفة، ومهام التنظيف. وبالنسبة للمدرجات فكانت تشتعل بمشاعر مختلطة بين الحماس والدهشة.. حيث قال «هونج يون» أحد المتفرجين لصحيفة «الجارديان» البريطانية: «كنت أظن أن البشر هم الأكثر إثارة، لكن ما شاهدته هنا تجاوز توقعاتى.. السباق كان أشبه بخيال علمى حى». يذكر أن تذاكر الفعالية تراوحت بين 128 و580 يوانًا؛ ورغم تفاوت الأسعار، إلا أن الحضور الجماهيرى الكثيف عكس اهتمامًا شعبيًا متناميًا بمجال الروبوتات، خاصة بين الشباب والعائلات. ركلات.. سقوط.. تصفيق من أبرز المشاهد وأكثرها تشويقًا وربما مرحًا، تلك التى رصدتها الكاميرات لمباريات (كيك بوكسينج) بين الروبوتات فى مشهد يمتزج بين الذهول والسخرية، بداية من رؤية روبوت ينفذ ضربة خاطفة سريعة من اليسار، والآخر ينفذ ركلة فى الصدر، تليها سلسلة من اللكمات المتقاطعة، بصورة أدت إلى ارتفاع صيحات الجمهور، بينما تتأرجح الروبوتات أمام بعضها. لكن -بطبيعة الحال- لم تأت النهاية ببراعة قتالية، بل بسقوط مفاجئ إثر ركلة (خاطئة)، أطاحت بروبوت أحد فرق الجامعات الصينية الكبرى أرضًا. وفى مباريات كرة القدم، لم يكن المشهد أقل إثارة أو طرافة، تحديدًا حينما اصطدمت 4 روبوتات ببعضها، وانهارت فوق بعضها البعض، مما أثار ضحكات الجمهور. بينما انهار أحد الروبوتات فجأة وهو يركض بأقصى سرعة، فى سباق 1500 متر، مما تطلب تدخلًا بشريًا لإعادته إلى وضعه الصحيح. لكن، المثير للدهشة فى تلك السباقات أن عددًا من الروبوتات نجح فى النهوض دون مساعدة، وسط تصفيق الجمهور، الذى بدأ يعامل هذه الآلات كما لو كانوا رياضيين حقيقيين، يتمتعون بإرادة وعزيمة النجاح. يذكر، أنه طُبقت -لأول مرة- قاعدة عقوبة على الروبوتات التى تخرج عن المسار المحدد، ما أضاف مزيدًا من التحدى على دقة الحركة والتوازن فى الروبوتات المشاركة. منافسة علمية بوجه ترفيهى رغم المشاهد الطريفة، إلا أن الهدف العلمى كان حاضرًا بقوة.. حيث قال «ماكس بولتر» من فريق (HTWK Robots) الألمانى لكرة القدم: «جئنا لنلعب ونفوز، لكننا هنا -أيضًا- لاختبار أفكار جديدة. إن فشلنا وخسارة المباراة أمر مؤلم، لكنه أفضل من إهدار ملايين الدولارات على منتج لا يعمل»؛ مضيفًا أن مثل هذه الفعاليات توفر بيئة تجريبية حقيقية تُسرع من تطوير الخوارزميات والتصميمات الميكانيكية. أما «ليو جيندا» من فريق من شركة «Beijing Lingyi Technology» التى حصل الروبوت الخاص بها «Unitree H1» على المركز الأول فى سباق 1500 متر، مسجلًا زمنًا قدره 6 دقائق و34 ثانية، فأوضح أن الشركة قامت بتكرار وتحسين العديد من الإصدارات لهذا الروبوت حتى يصل إلى هذا الوضع المتطور؛ واصفًا هذه التجربة بأنها كانت ثرية للغاية. وبشكل عام، رأى المنظمون أن مثل هذه الألعاب تُعد منصات ذهبية، لجمع بيانات حيوية تستخدم لاحقًا فى تحسين أداء الروبوتات فى بيئات حقيقية، مثل: (خطوط الإنتاج، وخدمات المستشفيات، والرعاية المنزلية)، وغيرها. رغبة فى إثبات الهيمنة التقنية لكن تتوارى خلف هذه العروض الترفيهية والعلمية، أجندة سياسية ، حيث أصبحت الروبوتات رمزًا للتنافس التقنى المحتدم بين «الصين»، و«الولاياتالمتحدة». ففى الوقت الذى تفرض فيه «واشنطن» قيودًا على تصدير الرقائق المتقدمة، تدفع «بكين» بكل ما تملك نحو التطبيقات الواقعية، مثل: الروبوتات، إذ خصصت الحكومة الصينية مليارات الدولارات لدعم هذا القطاع؛ بينما أنشأت مدن صينية كبرى، مثل: «بكين، وشنجهاى» صناديق استثمار فى الروبوتات بقيمة 10 مليارات يوان؛ كما أعلن «بنك الصين» عن دعم مالى بقيمة تريليون يوان للذكاء الاصطناعى خلال 5 سنوات. هل الطريق لا يزال طويلًا؟ رغم التقدم المبهر الذى شوهد فى هذا النوع من الأولمبياد الجديدة، لا يزال الفارق بينها وبين البشر كبيرًا.. فالتعامل مع بيئة معقدة من صنع الإنسان، كالمطابخ، أو المستشفيات، يتطلب مهارات تتجاوز الحركة، أو الرؤية، مثل: (الأيدى الدقيقة). وفى هذا الصدد، يؤكد الخبراء أن اليد البشرية تتمتع -بما يعرف- ب27 درجة حرية (أى حركات مستقلة)؛ بينما أكثر الروبوتات تقدمًا، مثل «Optimus» من صنع شركة «تسلا»، يملك 22 فقط. كما أن تدريب الروبوتات على التنقل فى بيئات حقيقية، كصعود السلالم، أو تفادى الأطفال فى مطعم، يتطلب كميات بيانات ضخمة غير متوافرة حتى الآن. وعليه، قال الدكتور بجامعة «شيفيلد» الأمريكية «جوناثان أيتكن»، إن: «الروبوتات ليست جاهزة بعد للعمل فى بيئات غير خاضعة للسيطرة... لا يزال أمامنا الكثير». إن دقة اليد، تعد تحديًا واحدًا من عدة تحديات تقف أمام العلماء فى تطوير الروبوتات الشبيهة بالبشر، وعلى رأس تلك التحديات (المشاعر والأحاسيس) التى يصعب أن يمتلكها الروبوت وإن تم تحميله بملايين المعلومات. بين الطموح والواقع.. سباق لن يتوقف ما جرى فى «بكين» لم يكن مجرد استعراض روبوتات تتصارع أو تركض، بل كان إعلانًا واضحًا بأن مستقبل الذكاء الاصطناعى ليس محصورًا فى شاشات مختلفة الحجم ومتعددة الاستخدامات، بل صار الذكاء الاصطناعى والتطور التكنولوجى يسير على قدمين، يخطئ، ويتعثر، والأكثر إثارة للاهتمام أنه يتعلم، ويعود للنهوض مرة أخرى. فالصين اليوم تراهن على أن الروبوتات لن تكون مجرد رموز للابتكار، بل أدوات لحل أزمات الغد، بداية من المصنع إلى المنزل، ومن ملاعب الكرة إلى غرف رعاية المسنين، ما يثير تساؤلات حول محدودية الأدوار البشرية فى المقابل. فى النهاية.. قد لا تكون الروبوتات جاهزة بعد، لكن الشئ الأكيد، هو أن السباق قد بدأ بالفعل، ومن يصل أولًا، سيعيد تشكيل العالم بشكل كبير. 2 3