السيسي: غزة تعانى من كارثة إنسانية غير مسبوقة والعالم لا يتحرك «أتوجه برسالة للرئيس ترامب، أرجو أن يبذل كل جهده لوقف هذه الحرب والسماح بدخول المعونات... الوضع داخل قطاع غزة أصبح مأساويًا وغير محتمل. هم بحاجة يوميًا إلى 600-700 شاحنة مساعدات على الأقل». بهذه الكلمات، وفى خطابه الأخير، خاطب الرئيس عبد الفتاح السيسى الرأى العام المصرى والعربى والدولى. فى لحظة يتقاطع فيها الألم مع الغضب، والمأساة مع الجمود الدولى، خرج صوت الرئيس المصرى ليتحدث بلغة الضمير، لا بلغة البيانات الدبلوماسية المعتادة. وجه نداءً إلى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فى تحول لافت بالموقف المصرى، داعيًا إلى التدخل لوقف الحرب على غزة، وفتح ممرات آمنة لدخول المساعدات. لم تكن هذه المناشدة عملًا سياسيًا عابرًا، بل صرخة إنسانية تنبع من إدراك عميق لمدى التدهور الذى بلغه الوضع فى القطاع، حيث بات الجوع والسُقام يهددان حياة أكثر من مليونى فلسطينى محاصرين داخل حدود الموت. جسر الأمل: قوافل الإغاثة المصرية تتحدى الصعاب منذ اليوم الأول للحرب، التى اندلعت فى السابع من أكتوبر 2023، لم تقف مصر موقف المتفرج. ومع تتابع الضربات الجوية والانهيارات المتتالية للبنى التحتية، فتحت مصر معبر رفح لاستقبال الجرحى والمرضى، وبدأت فى تسيير قوافل مساعدات إنسانية تحمل الغذاء والدواء ومستلزمات الطوارئ. ولأول مرة منذ سنوات، عادت سيناء لتكون ممرًا حيًا للرحمة، لا حدودًا جافة تُغلق أمام المعاناة. دخلت أولى شاحنات المساعدات إلى القطاع عبر معبر رفح يوم 21 أكتوبر 2023، بعد مفاوضات معقدة شاركت فيها أطراف دولية. وبحسب إحصاءات الأممالمتحدة (UN OCHA)، بلغ عدد الشاحنات التى دخلت من الجانب المصرى بين 21 و31 أكتوبر وحده أكثر من 240 شاحنة، محملة بالمواد الغذائية والمياه والوقود. غير أن ما كان يُرسَل إلى غزة كان «قطرة فى محيط من الاحتياج»، كما وصفت منسقة الشئون الإنسانية للأمم المتحدة. ورغم التحديات اللوجستية والتنسيق المعقد مع الجانب الإسرائيلى، استمرت القاهرة فى إرسال المساعدات، عبر الهلال الأحمر المصرى الذى أنشأ غرفة عمليات طارئة فى مدينة العريش، لتجهيز وتوزيع المساعدات بالتعاون مع منظمات دولية كالصليب الأحمر وبرنامج الغذاء العالمى. ومع نهاية 2024، كانت مصر قد نجحت فى تمرير أكثر من 15 ألف شاحنة مساعدات إنسانية عبر معبر رفح، وفقًا لتقرير مشترك صادر عن الأممالمتحدة والهلال الأحمر، وذلك رغم كل الصعوبات التى واجهتها من جانب المحتل الإسرائيلى، خاصة بعد تدمير المعبر من الجانب الآخر من قطاع غزة عدة مرات. «لن نترك أرضنا»: رفض التهجير ودعم الموقف الفلسطينى لكن ما يميز الموقف المصرى لم يكن فقط الكَمّ، بل الكيف. ففى وقت تحدثت فيه بعض الأطراف الدولية عن «ممرات آمنة مؤقتة»، رفضت القاهرة أى حلول تتضمن تهجير سكان القطاع إلى أراضيها. فى 18 أكتوبر 2023، أكد الرئيس السيسى أن «مصر ترفض التهجير الجماعى للفلسطينيين رفضًا قاطعًا»، مضيفًا أن «أمن سيناء جزء لا يتجزأ من الأمن القومى المصرى، ولن نسمح بجعلها بديلًا لغزة». جاءت هذه التصريحات ردًا مباشرًا على ضغوط دولية غير معلنة، سعت إلى دفع مصر للقبول بخطط إجلاء سكان شمال القطاع، بعد تحذيرات إسرائيلية لسكان غزة بإخلاء مناطقهم. كان الموقف المصرى فى هذا الصدد حاسمًا: لا تهجير، ولا تخلٍ عن الحقوق، ولا مقايضة للمعاناة الفلسطينية بسياسات الحدود. لم تكن القاهرة وحدها من تألمت لغزة، لكنها كانت من القلائل الذين تحركوا بالفعل. ففى شهور القصف الممتدة، أقامت مصر مستشفيات ميدانية فى مدينة رفح، واستقبلت آلاف الجرحى فى مستشفيات الإسماعيليةوالعريشوالقاهرة. كما أرسلت فرقًا طبية وعيادات متنقلة إلى المعبر لتقديم الإسعافات الأولية للحالات الطارئة، وهو جهد وصفته منظمة الصحة العالمية ب«الخط الأمامى الأهم فى الإغاثة الطبية لغزة».
مناشدة رئيس البيت الأبيض ومع تدهور الأوضاع فى 2025، وظهور مؤشرات المجاعة فى شمال القطاع، حيث أُعلن رسميًا عن وفاة أول طفل بسبب الجوع فى مارس الماضى، تكثفت التحركات المصرية على المستوى الدولى. دعت القاهرة إلى قمة عربية طارئة فى بغداد فى مايو 2025، وقدمت خلالها «خطة مصرية لإدارة ما بعد الحرب»، تضمن وصول المساعدات، ومنع الفوضى، وإعادة إعمار القطاع بإشراف فلسطينى ومشاركة عربية واسعة، دون أن يُفرض على أهله نموذج دولى أو وصاية أجنبية. وفى يوليو الجارى، بينما يتواصل القصف الإسرائيلى على مناطق جنوب القطاع، خرج الرئيس السيسى بتصريح جديد حمل أبعادًا إنسانية وسياسية. خاطب ترامب بالاسم، لأول مرة منذ عودة الأخير إلى السلطة، قائلًا إن «بيده وقف الكارثة الإنسانية فى غزة»، واصفًا الوضع بأنه «خارج عن نطاق التحمل البشري». وتأتى هذه المناشدة بعد رفض رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الاعتراف بوجود مجاعة فى غزة، رغم توثيق الأممالمتحدة لأكثر من 250 ألف حالة سوء تغذية حاد بين الأطفال. ردود الفعل الدولية على خطاب السيسى لم تتأخر. صحيفة «ذا جارديان» البريطانية وصفت التصريحات بأنها «النداء الأصدق منذ بداية الحرب»، فيما أشار تقرير ل«أسوشيتد برس» إلى أن إدارة ترامب الجديدة بدأت فعليًا مراجعة سياسات التنسيق مع إسرائيل بشأن دخول المساعدات من معبر رفح، وسط ضغوط أوروبية متزايدة لإيجاد ممر دائم وخالٍ من العوائق. أخيرًا، حاول الرئيس السيسى فى خطابه الأخير أن يكون أكثر تأكيدًا أن مصر تحاول استنهاض موقف عالمى يعيد للإنسان الفلسطينى كرامته، وأن صوتها اليوم لا يسعى فقط للضغط الدبلوماسى بل لزرع الأمل بين الركام والوجع. لقد حاولت مصر – عبر قوافل وإرادة وبيانات لا تعرف الاستكانة – أن تصنع من معبر رفح ممرًا لنَفَس إنسانى حقيقى. إنه موقف لا يقلق أمام القراءة السياسية فحسب، بل يتصل بعقد تاريخى بين أمة وشعب تحت مظلة الأخلاق والضمير؛ موقف يثبت أن الإنسانية لا تباع، وأن الكرامة ليست ذلًا تُهان. مصر اليوم لا تتحرك بدافع القرب الجغرافى فقط، بل بإحساس تاريخى عميق بأن ما يحدث فى غزة ليس شأنًا داخليًا فلسطينيًا، ولا حتى قضية عربية فقط، بل امتحان أخلاقى للعالم، ومؤشر على من تبقى إنسانًا فى هذا العالم المنهك. وفى زمن تراجع فيه صوت الحق، ارتفع صوت الإنسانية من معبر رفح، ليقول: «هنا لا يُباع الصمت، وهنا لا يُشترى الشرف». 2