أديب الأسرى عمار الزبن «أبو البشائر»، الذى تحمل ثقل 30 عامًا فى جحيم السجون الإسرائيلية، وأصبح مثالًا لإرادة الصمود والعزيمة. حول «أبو البشائر» جدران زنزانته إلى فضاء للإبداع وكتابة فصلٍ من فصول أدب السجون، ليصبح القلم سلاحًا، والكلمة رصاصة، والذاكرة سجلًا يُوثق الصمود، وعبر سبع روايات منها «عندما يزهر البرتقال»، «من خلف الخطوط» سجل تجربته مع سجان جبان وقلب مكسور لرحيل والديه وفراق الأحباب. عن طفولته فى ظل الاحتلال الغاشم يقول: عشت كأى طفل فلسطينى يعيش كل تفاصيل الحياة اليومية، خاصة إذا كان من عائلة تعيش الهم الوطني- والدى أسير سابق، وجدى لوالدتى لم يسلم بندقيته بعد هزيمة عام 1967، وبحثت عن تلك البندقية ولم أجدها. ولأننى أعيش فى مدينة نابلس جبل النار ونبض المقاومة، والتى منها أعلن عن إضراب 1936 الشهير إلى جانب يافا، وفيها ولدت أولى الأحزاب الفلسطينية مطلع القرن العشرين، ومنها الشعراء إبراهيم طوقان وشقيقته فدوى، هذه الأجواء والبيئة تحت الاحتلال، صنعت لدى وعيًا مبكرًا، وعندما كنت فى السابعة من عمرى جاءت أول صدمة حقيقية فى قلبى بمشاهدة مجزرة صبرا وشاتيلا ضد أهلنا فى مخيمات لبنان على التليفزيون، وكان المشهد الأكثر قسوة عندما صفع أحد جنود الاحتلال والدى يوم العيد، فأقسمت أن أقطع يده لأن أطفالنا يولدون رجالًا. يضيف الأسير المحرر عمار الزبن أبو البشائر بأن انضمامه للمقاومة كان مبكرًا «عندما كنا فى المرحلة الابتدائية كنا نضع المتاريس الحجرية فى الشارع لإعاقة دورية الاحتلال ونهرب، وكنا نسرق ملابس أهلنا لحياكة العلم الفلسطينى منها ببراءة الأطفال، ثم نقوم بتعليقه على الأسلاك الكهربائية، وكان ذلك يصيب المحتل بالجنون، حتى إذا ما أصبحنا فى عمر العاشرة عام 1985 أصبح إلقاء الحجارة على سيارات المستوطنين والجيش هوايتنا المفضلة. وعندما بدأت – انتفاضة الحجارة – عام 1987 وكنت فى حينها أبلغ الثالثة عشرة من العمر أصبحت المقاومة الشعبية بوسائلها المتواضعة وأبرزها الحجر، تشكل هويتنا الثورية، وتُنضج المفاهيم أكثر فأكثر لدينا، وفى منتصف عام 1988 التحقت بقسم الأشبال فى حركة حماس أسوة بأقرانى الذين كانوا ينضمون تحت لواء الفصائل الفلسطينية المختلفة لتغيير الواقع، وأبرزها حركة فتح، حيث شكلت انتفاضة الحجارة منطلقًا حقيقيًا ضد ما صنعه الاحتلال بفلسطين، وأصبحت بمرور الوقت ناشطًا مركزيًا فى مقاومة الاحتلال، إلى جانب فصائل الشعب الفلسطينى». وعن تجربة الاعتقال أضاف أديب الأسرى عمار الزبن: لقد تم اعتقالى أنا ومجاهد آخر أثناء إلقاء زجاجات المولوتوف على مجموعة من جنود الاحتلال بعد تنفيذ عدة هجمات سابقة، وقضيت فى الأسر 26 شهرًا بتهمة القيام بفعاليات الانتفاضة، حيث تعرضت للتعذيب فى سجن جنين، رغم أنه فى عُرف المواثيق الدولية من المفترض أننى ما زلت طفلًا. وفى انتفاضة الحجارة وأطفالها الشجعان خذلنا العالم وتواطأ مع العدو الذى كان يقتل الناس فى الشوارع، وينسف المنازل ويعتقل مئات الآلاف، ويقتل الطفولة فى فلسطين، وعندما فشل فى إخماد ثورة شعبنا وبسالة أبنائه وبناته، دخلنا معاهدة سلام فى مؤتمر مدريد عام 1991 ثم أوسلو 1993، وللأسف انخدع الكثيرون بذلك، لكننا لم ننخدع وبقينا نتطلع إلى إحداث التوازن فى موازين القوى، ولو من ناحية واحدة. وأشار إلى أن شقيقه الأكبر ورفيقه فى المواجهة وعقله وقلبه، سجن قرابة أربع سنوات ولم يبلغ السابعة عشرة بعد، واستشهد عام 1994 بعد تحرره بعشرة أشهر، «كانت صدمة قاسية رغم تعاهدنا على الشهادة معًا». وحول تجربته فى أسر جنود الاحتلال أضاف الأسير المحرر عمار الزبن، بأن أسر الجنود كان ثقافة لدى كتائب القسام، ورثناها عن الثورة الفلسطينية فى لبنان، وتأصلت لدينا، وتمكنت من أسر الجنديين آفى سسبورتس وإيالن سعدون عام 1993، والكثيرين ممن قتلوا أثناء المحاولة 1988، وطوفان الأقصى دللت بأن قيمة الإنسان لدى المقاومة تفوق كل الاعتبارات، فى الوقت الذى تُرك فيه الأسرى عشرات السنين دون أى اهتمام. من أبرز قيادات فلسطين الذين قابلهم أديب الأسرى عمار الزبن فى السجن، قال إنه فى هذه المدة الطويلة التى أمضاها فى السجن التقى بالكثير من الإخوة الذين جمعتهم وإياه الزنزانة والقيد والمعاناة المشتركة، فالقائد الحقيقى هو الذى يعمل بصمت بعيدًا عن الأضواء «شرفت بلقاء يحيى السنوار وروحى مشتهى وأحمد سعدات وعبد الناصر عيسى ومروان البرغوثى، وغيرهم ممن تشرفت بالتعرف عليهم»، وقد كان الأسر فرصة ثمينة لتطوير حبى للكتابة، حيث مكثت على قراءة الأدب العربى، حتى أصدرت روايتى «عندما يزهر البرتقال» والتى افتتحت بها رواياتى السبع فى أدب السجون أو المقاومة، والتى نُشر منها أربع، منها «من خلف الخطوط» و«الطريق إلى شارع يافا».. ومن الموقف الجميلة التى أفتخر بها وقمت بها فى أول فرصة بعد التحرر، هى زيارة مقهى نجيب محفوظ وخان الخليلى ثم مكتبة الإسكندرية. ويصف أديب الأسرى عمار الزبن، معاناة العائلة خلال الزيارة بأنها معاناة مُركبة، يلخصها الاستيقاظ مبكرًا والانطلاق بعد الفجر مباشرة إلى الحافلة، والعودة إلى البيت بعد الساعة الحادية عشرة ليلًا، وما يتخللها من إذلال على الحواجز والتفتيش العارى أحيانًا، أو إرجاع الأهل بحجة المنع الأمنى من الزيارة، لكن المؤلم أن يمنعك العدو من الزيارة مدة خمس سنوات متواصلة، كما حدث معى، مبدأ الأسر وتقييد الحرية أصعب من الصعوبة، غير أن فقدان الأحبة كان للوهلة الأولى هو الأصعب كفقدانى والدتى عائشة الزبن، والتى استشهدت أثناء تضامنها معنا فى إضرابنا عن الطعام عام 2004، وذلك فى اليوم الخامس عشر من الجوع، إلا أن عدم تحررى فى صفقة وفاء الأحرار عام 2011 رغم وجعى الكبير بفقدان والدتى ثم والدى بعدها بخمس سنوات – كان الأشد إيلامًا وصعوبة، وما أصعب أن يقتلك العجز والقهر وأنت تسمع وترى ما يحدث لشعبك دون أن تقوى على فعل شىء، وقد كنت ورفاقك بالأمس تزرعون الرعب فى شوارع وبيوت العدو، وما أروع نسمات الحرية. ويعتبر أديب الأسرى عمار الزبن، الحرية كمن صافح النبى وعانق الملائكة. «فى الثالثة فجرًا كان زميلى فى الغرفة يوقظنى بهدوء ليخبرنى أن أسماء بعض من وردت أسماؤهم فى صفقة وفاء الأحرار المعاد اعتقالهم، قد تكررت مرة أخرى فى صفقة أخرى، لم أتفاعل كثيرًا لأن المشهد تكرر ست مرات فى تلك الفترة، ولكن بعد بضع دقائق وقف السجان على باب الغرفة الأقرب لمكان نومى، فنهضت مباشرة بشغف ودقات قلبى تتسارع كعداء فى حلبة سباق، وسألته من تريد؟ فقال «عمار»، نطق اسمى بشكل خاطئ، فنطق حريتى بفمه رغمًا، فسجدت على الأرض شاكرًا لله، ولم أزل أتذكر اللحظة، بعد ثلاثة أشهر من الحرية». أما المشهد الآخر والذى حفر فى وجدانى فكان عندما وصلنا معسكر جنود العدو على الحدود والخوف والرعب من فكرة العودة مجددًا للسجن، كما فعلوا بنا قبل ستة أيام، تسيطر على أعصابنا، ًفقد أبلغنا الصليب الأحمر أن هناك خمسين أسيرًا من بيننا سيبقون ًمحتجزين إذا اتضح وجود خطأ فى تشخيص قتلى العدو، وجميعنا يخشى أن يكون واحدًا منهم. «وبقينا نلح بالدعاء والدموع تسبق اللسان، حتى جاءت اللحظة الأكثر رعبًا عندما بدأ الجنود بإنزالى من الحافلة، وأنا أحاول حماية نفسى من الضرب كما يفعلون بنا خلال العشرة أيام الفائتة منذ خروجنا من سجن نفحة إلى سجن النقب، حيث كسروا عظام القفص الصدرى وأشبعوا ساديتهم المتوحشة، وفجأة وجدت نفسى داخل خيمة للجيش ورأسى وظهرى للأسفل لا أرى سوى أقدام الجنود وأيديهم تفك قيودى، وفى دقيقة سريعة رفعونى بسرعة باتجاه الباب الثانى للخيمة طالبين بوقاحة الصهاينة أن أسرع، فمشيت ثلاث خطوات فقط لأجد حافلة تلتصق بالخيمة وبابها الأوسط مفتوح، فلم أدر ما أفعل حتى رأيت يدًا تسلم علىّ بقوةٍ حانية قائلًا: «حمدالله على سلامتك».. «كان وجهه وكلماته ولهجته الأقرب إلى القلب منذ الطفولة، تصرخ فى وجدانى، لقد أصبحت حرًا، قالها أروع شاب التقيته فى حياتى، معلنًا أننى أصبحت فى أيٍد عربية مصرية، لن أنسى ما حييت وجه هذا الضابط المصرى، ودفء قبضته التى ما زالت تمدنى بالحب والأمن، متمنيًا أن تظل ممدودة كما كانت إلى شعبى الذى يتعرض لإبادة مستمرة. وأضاف: لن ننسى أيضًا أصعب تعذيب تعرضت له مع إخوتى الأسرى، كان أثناء حرب «طوفان الأقصى» من تكسير لعظام الصدر عدة مرات، والهجوم علينا بالكلاب البوليسية وإلقاء قنابل الصوت بيننا وحرماننا من ماء الشرب يومًا كاملًا، وحرب التجويع التى جعلتنا هياكل عظمية، ويبقى الأهم على الإطلاق وهو التحية للمقاومة وشعبنا العظيم ورأس حربته غزة بأطفالها وشيوخها ونسائها ورجالها البواسل، ثم عناق بناتى وأحفادى الثلاثة – وزوجتى وأبنائى مهند وصالح الدين، الذين منعوا من السفر حتى اللحظة.