عندما يبدأ زعيم ذو عقلية استبدادية يسيطر على أقوى جيش فى العالم فى التهديد العلنى بالحرب ضد جيرانه، فإن السؤال الأكثر وضوحًا وأهمية هو: هل ينوى المضى قدمًا؟ يحلم دونالد ترامب بالسباحة منتصرًا عبر قناة بنما على متن سفينة حربية ممسكًا بحدوده الكندية والمكسيكية بقبضة قوية، ومسيطرًا بقدمه على جرينلاند، وبعد هدم النظام العالمى، يعتزم ترامب الوقوف فوق أنقاض العالم.. منذ فوزه بولاية رئاسية ثانية، اتخذ دونالد ترامب منعطفًا غريبًا نحو نوع من الإمبريالية الاستعراضية، وتحول إلى قنبلة من التصريحات والأوامر أغلبها غير معقول فى غرابته، كونها تطال الأصدقاء والحلفاء قبل الأعداء، فبدأ يفكر فى الاستحواذ على جرينلاند من الدنمارك التى ليس لديها أى مصلحة على الإطلاق فى الانفصال عن الإقليم.
وبدأت إيماءاته المهددة فى التصاعد، والمقبول أصبح غير مقبول،ويطلبه بشدة وإلحاح ويهدد بعقوبات. نادرًا ما يقتصر هذا النوع من الروح الإمبريالية على الخطابة، فالتهديدات العسكرية تتجلى فى العمل العسكرى، شاهدًا على توسعات لا نهائية مستعيدًا إمبراطورية مفقودة، للتأكيد على مكانته الخالدة فى التاريخ. وصف دونالد ترامب العالم بأنه «عرين الأقوياء»، يمنح الأقوى حرية الهيمنة، فإذا كانت الولاياتالمتحدة تريد موارد جرينلاند، فهى تتمتع بحق إلهى فى ذلك! وإذا كانت تريد إعادة تسمية خليج المكسيك للإشارة إلى خضوع جارتها، فهى قادرة على ذلك وستفعله! كنداوالمكسيك بدأ ترامب فى السخرية من كندا بالإشارة إلى رئيس وزرائها باعتباره «حاكمًا» لولاية كندا العظيمة، وأن تناول العشاء بصحبته «متعة»، ثم شرع بتهديد «ترودو» بشكل غامض ومتكرر بضم كندالأمريكا لتكون الولاية ال 51! ثم أعلن أنه سيغير اسم خليج المكسيك إلى «خليج أمريكا» معلقًا: «ربما يتعين علينا ممارسة بعض الضغوط»! وعندما لم يجد أى بوادر بالموافقة على الضم، هدد ترامب بفرض رسوم مدمرة بنسبة %25 على جميع السلع والخدمات حتى تتوقف الهجرات غير الشرعية والمخدرات، خاصة «الفينتانيل» عن غزو أمريكا. ومنذ ذلك الحين تحاول كندا بكل الطرق الممكنة إثناء ترامب عن سريان هذا القرار الكارثى. التهديد بفرض التعريفات الجمركية الباهظة على الصادرات لم توجه لكندا وحدها، ولكن للمكسيك أيضًا حال لم تبذل الدولتان المزيد من الجهود لوقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين والمخدرات إلى الولاياتالمتحدة. إذا نفذ السيد ترامب تهديده، فسوف يقلب اتفاقية التجارة بين الدول الثلاث، ويدمر اقتصاد كندا الذى يعتمد بشكل كبير على الصادرات، خاصة النفط والسيارات إلى الولاياتالمتحدة. لم يستجب «ترودو» رئيس الوزراء الكندى للاستفزاز «الترامبى» وقال: «سنقاوم كما فعلنا قبل ثمانى سنوات، وسنرد بالطبع على التعريفات الجمركية غير العادلة، وما زلنا نبحث عن الطرق الصحيحة للرد». وأعلن رفضه هو ورئيس المكسيك لهذا التعنت، خاصة أنهما يعرفان جيدًا أن هذه القرارات العشوائية ستضر بالاقتصاد الأمريكى أولًا، ومع نقص العمالة غير القانونية سيصاب الاقتصاد الأمريكى بتضخم مؤلم. استمر ترامب فى السخرية من كندا ونشر صورة معدلة رقميًا لنفسه على قمة جبل مع العلم الكندى، مصحوبة بتعليق «أوه كندا»! قلل بعض الأعضاء البارزين فى حزب السيد ترودو الليبرالى من أهمية تعليقات ترامب الأخيرة، وعلق «ترودو» قائلًا: لقد كان يلقى نكات سيئة وليست قرارات، وأضاف مؤكدًا: ترامب ليست لديه خطة لشن حرب على نصف الكرة الأرضية، إن الاستيلاء على قارة أمريكا الشمالية أمر غير منطقى فى أى سيناريو فى العالم. ولكن فى الآونة الأخيرة، يبدو أن السيد ترودو يتحول نحو موقف أكثر حزمًا، ما يشير إلى أن كندا قد ترد برسوم جمركية انتقامية على الواردات الأمريكية. وأمضى ترامب الساعات الأولى من ولايته فى الوعد بفرض تعريفات جمركية بنسبة %25 على السلع القادمة من المكسيكوكندا بحلول الأول من فبراير، والإصرار على إنشاء «مصلحة الإيرادات الخارجية» لجمع التعريفات الجمركية و«الإيرادات الأخرى المرتبطة بالتجارة الخارجية». بينما أوضحت الرئيسة المكسيكية كلوديا شينباوم بغضب أن بلادها مستعدة للرد برسوم جمركية على السلع الأمريكية. ولا يعتقد خبراء الاقتصاد أن التعريفات الجمركية الشاملة فكرة جيدة، فلا يوجد نموذج سياسى جاهز يمكن تبنيه. وما يزيد الوضع تعقيدًا هو أن مرشح ترامب لمنصب وزير الخزانة، سكوت بيسنت، حاول طمأنة وول ستريت بأن تهديدات الرئيس بالتعريفات الجمركية ليست أكثر من تكتيك تفاوضى. وقال بيسنت لصحيفة فاينانشال تايمز: «وجهة نظرى العامة هى أنه فى نهاية المطاف، هو من أنصار التجارة الحرة، إنه تصعيد من أجل التهدئة». بنما إن استعادة قناة بنما هى هاجس قديم لدى اليمين الأمريكى، لقد أدرك الرؤساء الأمريكيون من كلا الحزبين، بدءًا من ليندون جونسون، الضرورة الاستراتيجية لإعادة القناة إلى الولاياتالمتحدة. ولم يدرك جونسون هذا الدرس إلا بعد إرساله قوات لقمع أعمال الشغب المناهضة لأمريكا فى عام 1964. وكان الرؤساء يدركون أن القناة إذا ظلت تحت سيطرة أمريكا، فسوف يضطرون إلى تكرار تدخل جونسون، ذلك أن الغضب إزاء الوجود الأمريكى لن يهدأ أبدًا. وبذل هنرى كيسنجر قصارى جهده فى التفاوض على اتفاق يتخلى بموجبه عن الممر المائى، لكن جيمى كارتر وحده كان يتمتع بالشجاعة السياسية اللازمة لدفع معاهدتين إلى مجلس الشيوخ الأمريكى. وصرح رونالد ريجان عند ترشحه للرئاسة: «لقد بنيناها؛ ودفعنا ثمنها؛ وسنحافظ عليها»، وكان هذا رثاءً لما أسماه جورج ويل «السيادة المختفية» لأمريكا. بالنسبة لرونالد ريجان، كانت المعاهدات مجرد موضوع للحديث أثناء الحملة الانتخابية، وبصفته رئيسًا لم يسع قط إلى عكس مسار كارتر، بل تراجع عن الحنين الخالص إلى الإمبراطورية الذى تبناه أثناء الحملة الانتخابية، وانضم إلى إجماع ثنائى الحزبية فى السياسة الخارجية، والذى كان يميل إلى النأى بنفسه عن التاريخ الإمبراطورى الأمريكى. ترامب يعتقد أن شروط المعاهدة التى وقعتها الدولة المضيفة قد انتهكت، وأنها تحت سيطرة الصين (وهذا ليس صحيحًا، على الرغم من أن الحكومة الصينية اكتسبت نفوذًا فى بنما). وكان التصريح الأكثر إزعاجًا على الأقل بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا على وجود رئيس أمريكى يحترم سيادة البلدان الأخرى، هو: «نحن نستعيدها». ورد الرئيس خوسيه راؤول مولينو قائلًا: «إن القناة بنمية وستظل كذلك»، ونبه الأممالمتحدة بشأن تصريحات ترامب. لقد قامت الولاياتالمتحدة ببناء القناة وإدارة الأراضى المحيطة بها لعقود من الزمن، حتى وقعت الولاياتالمتحدةوبنما سلسلة من الاتفاقيات ابتداء من عام 1977 والتى أعادت فى نهاية المطاف السيطرة البنمية الكاملة على القناة. تم توقيع معاهدة التنازل الأمريكى عن قناة بنما خلال رئاسة جيمى كارتر فى عام 1977. وحتى فى ذلك الوقت، عارض المحافظون هذا الأمر باعتباره خيانة غير وطنية من قبل الليبراليين السذج، وهو رأى ترامب الذى يردده دائمًا فى كل مناسبة. كولومبيا طالت المناوشات والتهديدات الترامبية كولومبيا وتدهورت العلاقات بين البلدين بسرعة، بعد أن رفضت الدولة الواقعة فى أمريكا الجنوبية استقبال طائرات عسكرية أمريكية تحمل مهاجرين مرحلين. واندلعت احتمالية نشوب حرب تجارية بين الولاياتالمتحدةوكولومبيا لفترة وجيزة، مما هدد بجعل القهوة والزهور والمواد الخام أكثر تكلفة بالنسبة للأمريكيين، ووضع مليارات الدولارات من المبيعات لمزارعى الذرة والشركات الكيميائية الأمريكية فى خطر. وردًا على ذلك، قال الرئيس ترامب إنه سيفرض على الفور تعريفات جمركية على جميع الواردات الكولومبية، وهدد رئيس كولومبيا، جوستافو بيترو، بفرض تعريفات جمركية خاصة به فورًا. والولاياتالمتحدة هى أكبر شريك تجارى لكولومبيا، لكن المنتجات الكولومبية تشكل حصة صغيرة نسبيًا من واردات الولاياتالمتحدة. جرينلاند رغبة ترامب فى توسيع مساحة الولاياتالمتحدة بأراضٍ تعادل تقريبًا مساحة ولايتى تكساس وألاسكا مجتمعتين، ليست بالأمر الجديد، فقد حاول خلال فترة رئاسته الأولى الحصول على جرينلاند، لكن محاولته قوبلت بالرفض، وغضب ترامب وألغى زيارته الرسمية المقررة للدنمارك فى عام 2019، ووصف رئيسة وزراء الدنمارك ميتى فريدريكسن بأنها «بغيضة» بعد أن قالت إن الفكرة «سخيفة». والمنطقة القطبية الشمالية المتمتعة بالحكم الذاتى مملوكة للدنمارك منذ عام 1814 لكن ترامب يعتقد أنها ستكون بمثابة أصل قيم فى المنافسة الاستراتيجية للولايات المتحدة ضد روسياوالصين. وذكرت صحيفة فاينانشال تايمز أن السيدة فريدريكسن، أخبرت ترامب بأنه على الرغم من «اهتمامه الكبير»، فإن جرينلاند ليست للبيع، وأصبح ترامب بعد ذلك «عدوانيًا»، وأشهر سلاح الجمارك وهدد بفرض رسوم جمركية عالية على الدنمارك ما لم يتم بيع جرينلاند للولايات المتحدة، ورفض ترامب استبعاد استخدام القوة العسكرية للسيطرة على جرينلاند، بحجة أن وجود قاعدة أمريكية فى القطب الشمالى مسألة أمن قومى. أفغانستان لم يسلم حلفاء الأمس من تهديدات ترامب، فما أن انتهى من تهديد الدنمارك، حتى التفت ناحية أفغانستان مطالبًا بإعادة الأسلحة الحديثة التى تركها الجيش الأمريكى قبيل انسحابه المفاجئ 2021، والتى تقدر ب 7 مليارات دولار، واتهم حكام أفغانستان الجدد بالتحول إلى تجار سلاح والتربح من بيع تكنولوجيا الأسلحة الأمريكية. وقال: «كنا ندفع مليارات الدولارات، الآن لن نعطيكم المال ما لم تعيدوا لنا معداتنا العسكرية»! وعلى الرغم من رفض حركة طالبان مطالب ترامب، إلا أنها تسعى إلى بداية جديدة، والحصول على 9 مليارات دولار من احتياطيات النقد الأجنبى المجمدة، وفى محاولة لإثبات حسن النوايا قامت بمبادلة مواطنين أمريكيين بأفغانى كان مسجونًا فى أمريكا، لكن ترامب العنيد يريد أسلحته ومعداته. غزة اقترح ترامب أن يغادر الفلسطينيون غزة إلى الدول المجاورة «لتطهير» القطاع بأكمله! ورفضت مصر والأردن اقتراحه وأدانوه باعتباره خطة تطهير عرقى، لأن ترحيل أعداد كبيرة من الفلسطينيين يعنى ضياع القضية الفلسطينية التى تعنى الأرض أولًا، كما هاجمه المحامون والناشطون العرب باعتباره اقتراحًا خطيرًا، وغير قانونى، وغير قابل للتنفيذ. ترامب كان يرغب فى انتقال مئات الآلاف من الأشخاص إلى الدول المجاورة، إما «بشكل مؤقت أو ربما على المدى الطويل». وإضاف إن الوجهات قد تشمل الأردن، الذى يستضيف بالفعل أكثر من 2.7 مليون لاجئ فلسطينى، ومصر. وقال ترامب للصحفيين على متن الطائرة الرئاسية: «أفضل أن أشارك مع بعض الدول العربية فى بناء مساكن فى موقع مختلف، حيث يمكنهم ربما العيش فى سلام». وكان عدد سكان غزة قبل الحرب 2.3 مليون نسمة. وقد أوضحت الأردن ومصر أنهما لن تستقبلا لاجئين من غزة. وقال وزير الخارجية الأردنى أيمن الصفدى إن رفض بلاده لأى تهجير للفلسطينيين «حازم ولا يتزعزع». فى غزة، لا توجد أى مؤشرات على رغبة السكان الذين عانوا أكثر من خمسة عشر شهرًا من القتال فى الرحيل بشكل دائم بأعداد كبيرة إذا ما استمر وقف إطلاق النار الحالى. وسوف يشكل التهجير القسرى للسكان جريمة حرب وبمثابة تطهير عرقى للشعب الفلسطينى، وتدفق الآلاف إلى نقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية، على أمل العودة إلى منازلهم فى الشمال بموجب شروط اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت والسماح لهم بالمرور. إن تطهير غزة مباشرة بعد الحرب سيكون فى الواقع استمرارًا للحرب، ولن يكون هناك ثقة كبيرة فى أى عرض للانتقال المؤقت خارج غزة للسماح بإعادة الإعمار، نظرًا لتاريخ النزوح المتكرر الذى بدأ بالنكبة عام 1948، حيث طُرد نحو 700 ألف فلسطينى من وطنهم بعد إنشاء إسرائيل. فى ذلك الوقت، اعتقد الكثيرون أنهم يغادرون مؤقتًا فقط، وظلوا لعقود من الزمان متمسكين بمفاتيح منازلهم التى يأملون فى استعادتها. وقال عمر شاتز، المحاضر فى القانون الدولى فى معهد الدراسات السياسية بباريس ومستشار المحكمة الجنائية الدولية، إن تعليقات ترامب كانت «دعوة للتطهير العرقى» والتى تردد صدى دعوات من السياسيين الإسرائيليين المتطرفين والشخصيات العامة التى يعود تاريخها إلى بداية الصراع. وقال: «إننا نشهد تصعيدًا خطيرًا للغاية، يشبه دعوات الإبادة الجماعية التى رأيناها من أكثر الأصوات تطرفًا داخل إسرائيل». وقدم شاتز تفاصيل مزاعم التحريض على الإبادة الجماعية من قبل ثمانية مسئولين وشخصيات عامة إسرائيلية فى القضية المرفوعة أمام المحكمة الجنائية الدولية. وقال: «يتجلى هذا فى حقيقة مفادها أن لا أحد يفكر فى ما يريده سكان غزة، عندما بدأوا للتو فى إزالة الأنقاض، والعثور على رفات أحبائهم المدفونين هناك. 2 3