ساهم آخر 4 رؤساء للولايات المتحدة فى تبديد فرص السلام، بحسب ما نشرت مجلة Responsible Statecraft الأمريكية للكاتب دانيال مكارثى، وقال إنهم شنوا حروبًا لم تحقق أهدافهم، ما يعنى أن السياسة واحدة لم تتغير رغم تغير الرؤساء. ويشير الكاتب إلى أن التاريخ سيذكر چو بايدن على أنه الرجل الذى انهار فى عهده النظام الدولى الليبرالى، وسبق أن شهدت الولاياتالمتحدة موجات تضخم، لكن إخفاقات الرئيس فى الداخل ستنطبع فى الأذهان، أولًا تبرز باعتبارها إخفاقات مميزة، أما فى السياسة الخارجية فقد كتب بايدن نهاية فصل ليس فى تاريخ أمريكا فقط، بل فى تاريخ العالم أيضا. وبعيدا عن تمثيل الأمل والتغيير وهو الشعار الذى انتخب على أساسه هو وباراك أوباما فى عام 2008، جسد بايدن الشعور باليأس والركود فى السياسة الخارجية للغرب فى حقبة ما بعد الحرب الباردة. ففى عام 2008، طالب الناخبون بالتغيير، ووثقوا فى خطة أوباما لتحقيقه. وتم بيع مشاريع تغيير النظام فى الحرب العالمية على الإرهاب فى عهد چورج بوش الابن للعامة باعتبارها نزهة وخلاصا للشعوب الأجنبية التى كانت ترحب بجنودنا بنثر الزهور عليهم. وبعد مرور سبع سنوات على الحرب فى أفغانستان، وخمس سنوات على الحرب فى العراق، كان من الواضح أن بوش ومن سار على دربه لا يملكون أى وسيلة للخروج من هذه الصراعات التى لم يتم خوضها من أجل تحقيق النصر، بل ببساطة من أجل تأجيل الهزيمة الحتمية، وكانت حروبا أبدية مفتوحة. وقد منح كل من أوباما وبايدن تفويضا بإنهائها ورسم مسار مختلف لها، إلا أنهما فشلا فى القيام بذلك، وبدلا من ذلك حافظا على الاتجاه الكارثى الذى تم تحديده فى أوائل التسعينيات. لم يكن چورج بوش الأب قادرا على إنهاء حرب الخليج عام 1991، التى استمرت فى عهد بيل كلينتون من خلال فرض منطقة حظر جوى وعقوبات، فى حين كانت واشنطن تنظر فى سلسلة من مخططات المحافظين الجدد لتغيير النظام فى العراق. فكان غزو العراق عام 2003 بمثابة تصعيد جذرى لحرب كانت قائمة بالفعل. وعلى الرغم من الإطاحة بصدام حسين، لم تتوقف الحرب، وكانت أهداف واشنطن المتمثلة فى بناء الدولة، وإحداث تغيير إقليمى وتعزيز الديمقراطية والليبرالية غير محددة وغير واقعية لدرجة أنه حتى الحرب المفترضة الناجحة لا يمكن أن تكون إلا مقدمة لمزيد من الصراع. وقد شكل العراق دليلاً واضحًا على مدى انحراف السياسة الأمريكية، إلا أن العقلية نفسها المتمثلة فى مضاعفة الالتزامات التى أسىء تقديرها كان من الممكن رؤيتها على نطاق أوسع أيضا. فعلى سبيل المثال، بعد كل سلسلة توسع لحلف شمال الأطلسى، كانت روسيا تصبح أكثر تهديدا. وإذا كان الغرض من توسّع الناتو هو جعل أوروبا أكثر أمانا، فإن التناقض بين الظروف الأمنية لعام 1992 والظروف الأمنية لعام 2025 يقدم دليلاً واضحًا، ولا سيما عندما يتعارض مع النجاح الذى يتمتع به حلف شمال الأطلسى الأكثر محدودية فى السيطرة على الاتحاد السوڤيتى حتى زواله. وقد اتبع رؤساء الولاياتالمتحدة فى حقبة ما بعد الحرب الباردة وفقاعة السياسة الخارجية لواشنطن أچندة ليبرالية جديدة شاملة، خاصة أچندة المحافظين الجدد، التى تضمنت توسيع نطاق عمل المؤسسات الدولية، وتعزيز التكامل الاقتصادى العالمى، وانتقاد الحركات القومية بمختلف أنواعها، ونشر القوات العسكرية الأمريكية من جنود ومختصين اجتماعيين فى مناطق الاضطرابات وفى كل مكان، وتعزيز تغيير النظام بأى وسيلة ضرورية فى بعض البلدان المستهدفة. وكل ذلك لم يتطلب استمرار أجهزة الاستخبارات والمراقبة الأمريكية أثناء الحرب الباردة فحسب بل مضاعفة جهودها أيضا. وبصفته عضوا فى مجلس الشيوخ، سار بايدن وفقا لإجماع واشنطن، مع بعض الاستثناءات القليلة التى وضعت قدرته على التفكير المستقل على المحك. فقد صوت ضد التفويض لحرب الخليج فى عام 1991، على سبيل المثال، ولكنه أيد بحماسة غزو العراق خلال المناقشات السياسية التى جرت فى عامى 2002 و2003. ثم أعرب فى عام 2006 عن معارضته لزيادة عدد القوات الإضافية فى العراق. والتفسير الواضح لهذه التقلبات هو أن بايدن كان يمارس اللعبة السياسية فحسب. فقد ترشح للرئاسة للمرة الأولى فى عام 1988، وربما بدت معارضة بوش فى عام 1991 بمثابة خطوة ذكية قبل محاولة الوصول إلى البيت الأبيض فى المستقبل. فى المقابل، كانت معارضة خطط بوش الابن لشن حرب جديدة فى السنوات التى تلت أحداث 11 سبتمبر مباشرة مكلفة من الناحية السياسية. وبحلول عام 2006، تغير المنطق السياسى مرة أخرى، وكان من الحكمة لأى منافس محتمل لترشيح الحزب الديمقراطى لعام 2008 أن يصنف نفسه على أنه مناهض للحرب نسبيا، وهو ما سعى بايدن لتحقيقه بالفعل. وكانت تلك الدورة التى هزم فيها أوباما، الذى عارض الحرب على العراق، هيلارى كلينتون المتشددة، وبايدن الذى كان يحاول أن يسترضى وجهات نظر الحزبين الحاكمين للفوز بترشيح الحزب الديمقراطى. بعد ذلك، نظرت الأحزاب السائدة إلى بايدن باعتباره مرشحًا لمنصب نائب الرئيس الذى من شأنه تحقيق التوازن، الأمر الذى منح أوباما الذى كان يفتقر إلى الخبرة والذى يبدو مثاليًا شخصية طويلة الأمد كمرشح لمنصب نائب الرئيس، وهو شخص يحظى بثقة نخب السياسة الخارجية فى واشنطن بطريقة لم يتمتع بها الوافد الجديد من إلينوى. ولم يكن هناك أى داعٍ للقلق، فقد سحب أوباما قواته من العراق، لكنه حافظ فى الكثير من النواحى الأخرى على اتجاه السياسة الخارجية الأمريكية التى تم تحديدها فى أوائل التسعينيات. وأبقى النظام على حاله، حتى عندما فتح العلاقات مع إيران وكوبا. وبالتالى، فإن التغيير الضئيل الذى أحدثه فى حزبه تجلى فى حقيقة مفادها أن خليفته كمرشح الحزب الديمقراطى للرئاسة كان هو المؤيد لحرب العراق نفسه الذى هزمه فى عام 2008. فكانت هيلارى كلينتون، وليس الأمل والتغيير إرث باراك أوباما. وبعد خسارة كلينتون فى عام 2016 أمام المرشح الجمهورى دونالد ترامب، لم يعد أمام الحزب الديمقراطى ونخب السياسة الخارجية فى واشنطن سوى مكان واحد يلجأون إليه. كان چو بايدن رمزا للماضى السياسى، وهذا بالضبط ما أرادته واشنطن: العودة إلى ما كان يعتبر وضعًا طبيعيًا منذ التسعينيات. لقد أدى كل من بايدن وأوباما دور القادة الذين كانت المصادر المطلعة تأمل فى أن يسمحوا بإحداث تغيير كافٍ للحفاظ على الوضع الراهن. إلا أن بايدن بدلا من ذلك، أشرف على انهيار هذا الوضع على غرار جورباتشوف. لقد انسحب بايدن من أفغانستان، ثم اتبع الرؤية الاستراتيچية نفسها التى فشلت هناك فى أوكرانيا. لم يكن هناك تعريف واقعى للنصر فى أفغانستان، ولم يكن لدى بايدن أى تعريف واقعى للنصر فى أوكرانيا. وبدلا من تحقيق هدف متاح، روجت النخبة فى واشنطن فى كلا الصراعين لأحلام مثالية وهى: تحويل أفغانستان إلى دولة ديمقراطية وليبرالية، وإعادة شبه جزيرة القرم إلى أحضان أوكرانيا ومنح هذه الأخيرة العضوية فى حلف شمال الأطلسى، وإضعاف روسيا وتخويفها. كذلك ورط بايدن الولاياتالمتحدة فى حرب جديدة مفتوحة، وكانت سياساته سلبية حتى بشروطها الخاصة. وإذا كان المقصود من الدعم الأمريكى هو كسب الحرب من أجل أوكرانيا، أو على الأقل توفير أقصى قدر من النفوذ، فإن تقديم أقصى قدر من المساعدة مقدما لهو الأمر المنطقى الذى ينبغى القيام به. إلا أنه بدلا من ذلك، اتبع بايدن نمطا من التصعيد التدريجى، ومنح أوكرانيا أسلحة أكثر قوة ومساحة أكبر لاستخدامها عندما تضعف فحسب؛ كأن الهدف المقصود للإدارة هو إطالة أمد الحرب لأطول فترة ممكنة، بغض النظر عن التكلفة فى أرواح الأوكرانيين أو خطر اتخاذ هذا الصراع منعطفا نوويا. وبينما كان بايدن يعمل على إطالة أمد حرب واحدة، اندلعت حرب أخرى فى منطقة الشرق الأوسط بعد 7 أكتوبر ورد هذه إسرائيل الشرس وواسع النطاق. وفى هذا الصراع أيضا، كانت إدارة بايدن فى حالة حرب مع نفسها؛ إذ كانت توبخ إسرائيل وتقوم بتسليحها من دون ممارسة أى تأثير فعال فى الوقت عينه. وكانت عملية نشر قوات أمريكية جنودا بصفتهم مختصين اجتماعيين فى ميناء غزة لأغراض إنسانية غير مجدية كما كان متوقعا وقصيرة، وانتهت قبل أن يموت الأمريكيون الذين يرتدون البزة العسكرية فى منطقة حرب يفعلون فيها كل شىء ما عدا القتال. إن بايدن رجل عجوز، والأهم من ذلك، هى وجهة النظر التى يمثلها. فبدءا من چورج بوش الأب وكلينتون، مرورا بإدارتى چورج بوش الابن وأوباما، وصولا إلى بايدن، اتبعت واشنطن طريقة عمل واحدة تمثلت فى محاولة هندسة نظام عالمى وتفضيل إطالة أمد الصراعات إلى أجل غير مسمى بدلا من الاعتراف بعدم إمكانية تحقيق الأهداف المثالية. وعندما حاول دونالد ترامب الابتعاد عن السياسة الخارجية الأيديولوچية الليبرالية نحو سياسة أكثر واقعية ومستعدة للتفاوض، بذلت وسائل الإعلام والمسئولون فى واشنطن جهودا استثنائية لمنعه. وخلال فترة ولايته الأولى، تعرضت سياسة ترامب الخارجية للإحباط من داخل إدارته من قبل المسئولين غير المنتخبين، وحتى من المسئولين المعينين من قبل الرئيس، الذين سعوا إلى منع أى عدول عن مسار الفقاعة الموصوف. إلا أن انتخابات نوڤمبر الماضى أعطت الأمريكيين خيارا بسيطا، بحيث وضعت ترامب وسياسته الخارجية فى مواجهة مؤسسة موحدة، مع حصول كامالا هاريس على دعم الديمقراطيين الليبراليين والجمهوريين المحافظين الجدد أمثال ليز تشينى. وقد اختار الأمريكيون ترامب بأعداد أكبر من أى وقت مضى، وفاز فى كل الولايات المتأرجحة، لقد خضع النظام القديم لاختبارات نهائية وفشل، سواء كان ذلك فى صناديق الاقتراع أو فى السجل الكارثى لإدارة بايدن. ويجسد بايدن النفس الأخير الذى لفظه عصر المحافظين الجدد والليبرالية الجديدة الذى حدد السياسية الأمريكية لعقود من الزمن وخسر السلام بعد الحرب الباردة. 2 3 4