«لكل عملة وجهان».. مقولة صارت محور حديث العلماء والمسئولين حول العالم فى تناولهم قضية (الذكاء الاصطناعى)، خاصة بعد التحذيرات المتتالية من مخاطر هذه الأداة التى صنعها الإنسان لمساعدته. لعقود من الزمان، كان الذكاء الاصطناعى (AI) مادة واسعة فى أفلام الخيال العلمى، التى تناولت من بين أمور كثيرة انتفاضات (الروبوتات)، وعالم تسيطر عليه أجهزة الكمبيوتر، وغير ذلك من مظاهر خروج الذكاء الاصطناعى عن سيطرة البشر. وبقدر ما كانت تلك الحبكات بعيدة المنال فى كثير من الأحيان، إلا أن التسابق فى تطور الذكاء الاصطناعى، الذى صار فى أعلى مستوياته على الإطلاق فى الوقت الحالى، رفع من حدة التحذيرات والقلق من مخاطره غير المتوقعة، لتصبح هذه القضية هى العناوين الرئيسية فى الأشهر الأخيرة. جلسة خاصة لم تكن مخاطر الذكاء الاصطناعى هى الشغل الشاغل لوسائل الإعلام وعلماء التكنولوجيا فحسب، بل للمرة الأولى، يعقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة جلسة خاصة حول هذه القضية منذ أيام. وفى ملاحظاته الافتتاحية فى الجلسة، قال الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو جوتيريش»، إنه: «سيكون للذكاء الاصطناعى تأثير على كل مجالات حياتنا»؛ داعيًا إلى إنشاء كيان جديد للأمم المتحدة لدعم الجهود الجماعية لإدارة هذه التكنولوجيا غير العادية. كما حث على توحيد القوى، من أجل بناء الثقة، والسلام، والأمن؛ مشددًا على أن تأثير الذكاء الاصطناعى على السلام والأمن يثير– بالفعل- مخاوف سياسية، وقانونية، وأخلاقية، وإنسانية. ثم طالب الأمين العام للأمم المتحدة مجلس الأمن على التعامل مع هذه التكنولوجيا بدقة، وإلحاح، ومن خلال منظور عالمى، وعقلية المتعلم، لأن ما يحدث الآن، هو مجرد بداية! من جانبه، أشاد مندوب «الصين» الدائم لدى الأممالمتحدة «تشانج جون» بالدور التمكينى للذكاء الاصطناعى فى البحث العلمى، والرعاية الصحية، والقيادة الذاتية. لكنه، أقر – فى الوقت ذاته- بكيفية إثارة هذا الذكاء للمخاوف فى مجالات مثل: اختراق خصوصية البيانات، ونشر معلومات كاذبة، وتفاقم عدم المساواة الاجتماعية، وإمكانية إساءة استخدامه من قبل الإرهابيين، أو القوى المتطرفة، والتى ستشكل– بدورها- تهديدًا كبيرًا على السلام والأمن الدوليين. اتفق معه المبعوث الأمريكى «جيفرى ديلورينتيس»، الذى قال إن الذكاء الاصطناعى يقدم وعدًا كبيرًا فى مواجهة التحديات العالمية مثل: الأمن الغذائى، والتعليم، والطب؛ مشيرًا– فى الوقت ذاته- لقدرات الذكاء الاصطناعى على مضاعفة التهديدات، وتكثيف النزاعات، بما فى ذلك: نشر المعلومات الخاطئة والمضللة، وتضخيم التحيز، وعدم المساواة، وتعزيز العمليات السيبرانية الخبيثة، وتفاقم انتهاكات حقوق الإنسان. أما وزير الخارجية البريطانى «جيمس كليفرلى»، الذى ترأس الجلسة، فدعا إلى التعاون الدولى لإدارة التداعيات العالمية للذكاء الاصطناعى. وقال إن: «هذه التكنولوجيا تطورت بسرعة أكبر من أى وقت مضى. ومع ذلك، فإن أكبر التحولات التى يسببها الذكاء الاصطناعى لم تأت بعد»! تحذيرات وإنذارات جلسة مجلس الأمن، جاءت بعد أن حذرت هيئة للرقابة على الإرهاب فى «بريطانيا»، من أن الذكاء الاصطناعى يشكل تهديدًا للأمن القومى، وسط مخاوف من إمكانية استغلالها لاستهداف أشخاص ضعفاء. جاء هذا، بعد أيام من حض «جيفرى هينتون»، الذى يوصف بأنه الأب الروحى للذكاء الاصطناعى، الحكومات على التدخل لضمان ألا تسيطر الآلات على المجتمع؛ مشددًا على أهمية إدراك أن هذا الأمر ليس خيالًا علميًا. وكان «هينتون» تصدر العناوين فى شهر مايو الماضى، عندما أعلن استقالته من شركة «جوجل»، من أجل التحدث بحرية أكبر عن مخاطر الذكاء الاصطناعى، بعد فترة وجيزة من إطلاق برنامج الدردشة الشهير (ChatGPT)، الذى أسر العالم. وقال عالِم الذكاء الاصطناعى خلال مؤتمر «كوليجين» للتكنولوجيا، الذى حضره أكثر من 30 ألف من مؤسسى الشركات الناشئة والمستثمرين والعاملين فى قطاع التكنولوجيا، إنه: «قبل أن يصبح الذكاء الاصطناعى أكثر ذكاءً منا، أعتقد أنه ينبغى تشجيع الأشخاص الذين يطورونه على بذل الكثير من الجهد، من أجل فهم كيف يمكن أن يحاول سلبنا السيطرة». وحذر «هينتون» من أن مخاطر الذكاء الاصطناعى يجب أن تؤخذ على محمل الجد؛ مشددًا على أنها مخاطرة حقيقية يجب أن يفكر فيها العالم مليًا، وعليهم التوصل- أيضًا- إلى معرفة كيفية التعامل معها مسبقًا. الوجه الآخر للتقدم التكنولوجى يعرف الجميع أن الذكاء الاصطناعى يسمح لجهاز الحاسوب أن يفكر، ويتصرف، ويستجيب كما لو أنه إنسان؛ كما يمكن تزويد أجهزة الحاسوب بكميات هائلة من المعلومات والبيانات التى تحفظ لسنوات، ليتم تدريبها على تحديد الأنماط الموجودة فيها، فتصبح قادرة -بعد ذلك- على إنتاج تنبؤات، وحل المشكلات، وحتى التعلم من أخطائها، إلا أنه مع وجود القليل من القواعد التنظيمية المتبعة لاستخدام الذكاء الاصطناعى، قد ينجم عن ذلك تحديات ومخاطر غير مسبوقة، نظرًا لتطوره السريع، وفقًا لتحذيرات الخبراء. أحد التحديات تلك التى تشير لاحتمالية ارتفاع نسب البطالة بعد أن حل الذكاء الاصطناعى محل البشر فى عدد من الأعمال والمهن، حيث أشار تقرير حديث صادر عن بنك «جولدمان ساكس» إلى أن الذكاء الاصطناعى يمكن أن يحل محل ما يعادل 300 مليون وظيفة بدوام كامل فى جميع أنحاء العالم. من جانبها، نشرت السلطات الأمريكية قائمة بالوظائف الأكثر شيوعًا فى «الولاياتالمتحدة» التى حل الذكاء الاصطناعى محل البشر فيها؛ فاعتبارًا من مارس 2023، كانت الوظائف هي: (أمين الصندوق، عامل تحضير الطعام، مساعد تخزين، عامل بناء، محاسب، خادم، مساعد طبى، ونادل، وغيرهم) ضمن القائمة، وهى وظائف تتطلب درجة أعلى من المهارة، التى يمكن أن تحققه أنظمة (الروبوتات) الأكثر تقدمًا اليوم. أما على مستوى التهديدات، فنشر مركز أمان الذكاء الاصطناعى - ومقره «الولاياتالمتحدة» – بيانًا، أيده العشرات من المتخصصين التكنولوجيين البارزين، أفاد بأن استخدام الذكاء الاصطناعى قد يولد معلومات خاطئة من شأنها أن تزعزع استقرار المجتمع. ورجح البيان أن فى أسوأ السيناريوهات، فإنه يمكن لهذه الآلات أن تصبح ذكية للغاية، بحيث تتولى زمام الأمور، ما قد يؤدى إلى انقراض البشرية؛ وأنه كلما أصبح الذكاء الاصطناعى أكثر قوة، زادت أنواع التهديدات التى يشكلها. فتتضمن بعض المخاطر الرئيسية للذكاء الاصطناعى، نشر المعلومات الخاطئة، بما فى ذلك: إنشاء صور، ومقاطع فيديو مزيفة مقنعة، إلى جانب مخاوف تتعلق بالخصوصية للبشر، والتحيز والتمييز بين البشر، وتقلب السوق والمال، وما يسمى ب(التفرد)، الذى قد يتفوق فيه الذكاء الاصطناعى على الذكاء البشرى. تقنين الذكاء الاصطناعى فى ظل تزايد المخاوف من الوجه الأخر للذكاء الاصطناعى، يبدو أن البعض لم يقف مكتوف الأيدى، فصاروا يبحثون عن حلول لاحتواء تلك الأزمات، وإن كانت الحلول صعبة المنال، وذلك فى الوقت الذى تسعى كثير من دول العالم إلى تحقيق الأسبقية فى تبنى إطار قانونى شامل للحد من تجاوزات الذكاء الاصطناعى مع ضمان الابتكار بنفس الوقت. خلال الأيام القليلة الماضية، صوت أعضاء البرلمان الأوروبى لصالح قانون الذكاء الاصطناعى، الذى اقترحه «الاتحاد الأوروبي»، ليصبح الأول من نوعه، الذى يضع إطارًا قانونيًا صارمًا يحكم استخدام الذكاء الاصطناعى، كما سيتعين على الشركات الامتثال له. إلا أنه فى المقابل، حذرت أكثر من 150 شركة كبرى، من أن خطط «الاتحاد الأوروبي» الداعية إلى تنظيم تقنية الذكاء الاصطناعى، تضر بالقدرة التنافسية للقارة، من دون أن تقدم حلولًا كافية لمواجهة تلك التحديات. كما حذر الموقعون على الرسالة من أن الذكاء الاصطناعى سيخضع بموجب القانون المقترح لرقابة شديدة، وأن مثل هذا التنظيم يمكن أن يدفع بشركات تتمتع بحس ابتكارى قوى إلى نقل أنشطتها للخارج، فضلًا عن سحب المستثمرين رءوس أموالهم من «أوروبا». وأضافت الرسالة أن النتيجة ستكون فجوة إنتاجية حرجة بين ضفتى المحيط الأطلسى. على كل، لا تزال أنظمة الذكاء الاصطناعى تثير الاهتمام بقدر ما تفاقم القلق، بسبب تقنيتها المعقدة للغاية.. ويبقى السؤال الأخير، فى ظل الماراثون الذى تخوضه الدول حول العالم لاكتساب الأسبقية والأفضلية فى الاستحواذ على التكنولوجيا الحديثة المدعمة بالذكاء الاصطناعى، هل ينقلب السحر على الساحر؟! 2 3