كان قرارًا يعكس عبقرية وثقة من نوع نادر.. لا توجد سوى عند المصرى.. وهو خوض حرب خلال أيام شهر رمضان.. فلم يكن يتوقع خبراء المعارك مهما كانت تقديراتهم الاستراتيجية أن يكون قرار استرداد الكرامة والأراضى المصرية المحتلة يوم 10 رمضان قبل 50 عامًا والمقاتلون صائمون.. ولكن بعد أن تم التنفيذ على الأرض تأكد الجميع فى أقصى الأرض وأدناها أن إرداة المصريين جبارة. كان اختيار قرار انطلاق حرب السادس من أكتوبر الموافق العاشر من رمضان فى وقت الصوم اختيارًا ذكيًا غير تقليدى من القيادة السياسية والعسكرية، للاستفادة من عوامل المفاجأة، وأيضًا من المشاعر الإيمانية فى شهر الإيمان. خطة الخداع الاستراتيجي ولأن الحدث كبير وغير تقليدى، وجب علينا أن نعيد رصد ما تم فى الساعات الأولى من الحرب حتى نعلم كيف كانت الإرادة المصرية الفولاذية التى حققت النصر خلال شهر رمضان مع إصرار القادة والضباط والجنود على الصيام، ولأن اختيار شهر رمضان لإعلان الحرب كان ضمن خطة الخداع الاستراتيجى، فلا يمكن أن نسرد العمليات التى تمت على الأرض دون الإشارة إلى خطة الخداع الاستراتيجى التى لا تقل أهمية عن الحرب نفسها، فمثلا وقبل نشوب الحرب بخمسة أو ستة أشهر، تم التنسيق بين جهات عدة وهى وزارات الإعلام والخارجية والدفاع لتطبيق خطة الخداع؛ حيث تم نشر أخبار سلبية عن الوضع الاقتصادى وتصدير فكرة أن مصر لا يمكنها خوض أى معارك، وليس أمامها خيار آخر سوى القبول بحالة السلم، وعلى الصعيد السياسى تم إعداد خطة حرب بسيطة وشاملة بالتنسيق مع الجانب السورى، مع الأخذ فى الاعتبار إمكانية إحداث أى تغيير مع بداية الحرب مباشرة. «عملية تمويه أمام العدو» فى صباح يوم الحرب نفسه 6 أكتوبر، شوهد الجنود وهم فى حالة استرخاء وخمول، يقضون وقتهم فى مص القصب وأكل البرتقال، وقبل ذلك بيوم اجتمع هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى وقتها، بنظيره المصرى الدكتور محمد حسن الزيات ليتبادلا الحديث حول مبادرة السلام التى كان الأول بصدد التفكير فيها بعد الانتخابات التشريعية فى إسرائيل التى كان مقررًا لها أن تجرى فى نهاية الشهر نفسه، ومرت الجلسة فى سلام وجو هادئ ولم يدرك كيسنجر الأمر إلا بعد الحرب، عرف أن الدكتور محمد الزيات قد نفذ خطة الخداع على أكمل وجه، وفى اليوم نفسه أيضا تم الإعلان عن زيارة قائد القوات الجوية وقتها اللواء حسنى مبارك إلى ليبيا، ثم تقرر تأجيلها لعصر يوم 6 أكتوبر، كما وجه المشير أحمد إسماعيل دعوة لوزير الدفاع الرومانى لزيارة مصر فى 8 أكتوبر وأعلن أنه سيكون فى استقباله بنفسه. إذن نستطيع أن نقول -وبكل فخر- أن معركة السادس من أكتوبر هى الأعظم فى التاريخ الحديث من حيث التخطيط والتنفيذ والنتائج. على الأرض.. وفى تمام الساعة 2 ظهرًا يوم العاشر من رمضان عام 1393 هجريًا الموافق يوم 6 أكتوبر 1973 قامت القوات الجوية المصرية بشن ضربة مركزة على أهداف العدو فى عمق سيناء وحصون خط بارليف عبر أكثر من 200 طائرة مصرية من مقاتلات «مج 21 ومج 17 وسوخوى 7» والتى أسفرت عن تدمير مطارات المليز وبيرتمادا ورأس نصرانى، وتدمير عشرة مواقع صواريخ (أرض - جو طراز هوك)، وتدمير 6 مواقع مدفعية بعيدة المدى، وتدمير ثلاثة مواقع رادار ومراكز توجيه وإنذار، وقصف النقطة القوية شرق بور فؤاد «بودابست». بعدها بخمس دقائق قامت أكثر من 2000 قطعة مدفعية وهاون ومعها لواء صواريخ تكتيكية أرض بقصف مركز لمدة 53 دقيقة صانعة عملية تمهيد نيرانى من أقوى عمليات التمهيد النيرانى فى التاريخ. «اقتناص الدبابات» بعد التمهيد النيرانى بدأت عمليات عبور مجموعات اقتناص الدبابات قناة السويس بواسطة قوارب مطاطية لتدمير دبابات العدو ومنعها من التدخل فى عمليات عبور القوات الرئيسية وحرمانها من استخدام مصاطبها بالساتر الترابى على الضفة الشرقية للقناة. فى الساعة الثانية وعشرين دقيقة كانت المدفعية قد أتمت القصفة الأولى والتى استغرقت 15 دقيقة وتركزت على جميع الأهداف المعادية التى على الشاطئ الشرقى للقناة إلى عمق يتراوح ما بين كيلو متر ونصف، وفى التوقيت الذى رفعت فيه المدفعية القصفة الثانية على عمق 1.5 كم إلى 3 كم من الشاطئ الشرقى بدأت موجات العبور الأولى من سرايا النسق الأول من كتائب النسق الأول المشاة فى القوارب الخشبية والمطاطية وذلك فى الفواصل من النقط الحصينة. «عبور موجات المشاة» فى نفس وقت عبور موجات المشاة كانت قوات سلاح المهندسين تقوم بفتح ثغرات فى الساتر الترابى لخط بارليف عبر تشغيل طلمبات المياه وإزاحة أطنان الأمتار المكعبة من الرمال، وحين فتحت الثغرات قامت وحدات الكبارى بإنزالها وتركيبها فى خلال من 6-9 ساعات حتى تركيب جميع الكبارى الثقيلة والخفيفة والهيكلية والناقلات البرمائية. وفى خلال الظلام أتمت عملية العبور حتى أكملت 80 ألف مقاتل مشاة و800 دبابة ومدرعة ومئات المدافع، بالتزامن مع عمليات العبور قامت البحرية المصرية بقصف شواطئ إسرائيل ضمن عملية التمهيد النيرانى، حيث قامت بقصف النقطة الحصينة فى بور فؤاد عن طريق المدفعية الساحلية فى بورسعيد والنقطة الحصينة عند الكيلو 10 جنوب بور فؤاد، وأيضًا قصفت المدفعية الساحلية الأهداف المعادية للجيش الثالث فى خليج السويس. وقامت لنشات الصواريخ بقصف تجمعات للعدو فى رمانة ورأس بيرون على ساحل البحر المتوسط وأيضًا على خليج السويس هاجمت أهداف العدو الحيوية فى رأس مسلة وهاجمت الضفادع البشرية منطقة البترول فى بلاعيم وأعاقت وحدات الألغام الملاحة فى مدخل خليج السويس عن طريق بث الألغام فيه، كما قامت القوات البحرية المصرية بقطع الملاحة فى الموانى الإسرائيلية على البحر المتوسط بنسبة 100 % وفى البحر الأحمر بنسبة 80 %. «عمليات يوم 7 أكتوبر» يوم 7 أكتوبر تحرك إلى سيناء فرقتان مدرعتان من الجيش الإسرائيلى. إحداهما بقيادة الجنرال أبراهام أدان على المحور الشمالى فى اتجاه القنطرة والفرقة الأخرى بقيادة الجنرال أريل شارون على المحور الأوسط فى اتجاه الإسماعيلية، بالإضافة لفرقة مدرعة كانت موجودة فى الجبهة منذ بداية الحرب بقيادة الجنرال مندلر وبذلك أصبح لدى إسرائيل حوالى 950 دبابة بالجبهة مشكلة فى ثلاث فرق مدرعة تحت قيادة ثلاثة من القادة البارزين فى الجيش الإسرائيلى. وبينما كان حشد الاحتياطى الإسرائيلى يتم يوم 7 أكتوبر طار ديان إلى قيادة الجبهة الجنوبيةسيناء حيث استعرض الموقف مع قائدها الجنرال جونين. «تطوير الهجوم» بعد انتهاء فترة العمليات المخطط لها من 6-9 أكتوبر ووصول الجيوش الميدانية لخط مهامها المباشر تم عمل وقفة تعبوية عملياتية استمرت من 10 – 15 أكتوبر، لكن فى أثناء الوقفة التعبوية كان الموقف على الجبهة السورية لينذر بخطر كبير فتم إصدار الأوامر لتطوير الهجوم شرقًا. لدفع العدو غرب الممرات الجبلية والحد من حرية حركته وفى الوقت نفسه تضعيف لضغط على الجبهة السورية. كانت خطة هذا التطوير تقضى بأن الفرقة 21 المدرعة والفرقة 4 المدرعة شرق القناة ماعدا لواء يضم مائة دبابة تبقى غرب القناة، وفى يوم 13 أكتوبر حصلت إسرائيل على معلومات كاملة عن القوات شرق القناة وغرب القناة وحجم قوات التطوير واتجاه المحور الرئيسى، فقد اخترقت طائرة المجال الجوى المصرى اتضح من مواصفاتها أنها طائرة من الطراز الأمريكي(sr - 71) وهى طائرة استطلاع استراتيجى يمكنها التقاط عدة صور عبر وسائل متقدمة على ارتفاع 25 كيلو مترًا وتطير بسرعة ثلاثة أمثال سرعة الصوت مما لا تستطيع أى مقاتلة من مقاتلات الدفاع الجوى لدى القوات المصرية أن تطاردها. وفى صباح 14 أكتوبر بدأ تطوير الهجوم شرقا فى الساعة 6.15 صباحًا بقصف مدفعى مصرى وانطلقت القوات المصرية تحقق أهدافها، لكن العلم المسبق لدى القوات الإسرائيلية بالهجوم وحجم قواته جعلهم يوقعون خسائر عديدة فى الدبابات المصرية وصلت ل 250دبابة من قوات الهجوم الرئيسية. وهكذا اضطرت قوات التطوير العودة إلى رؤوس كبارى المشاة للفرقة الخامسة. «قرار مجلس الأمن» وفى هذه الأثناء أصدر مجلس الأمن يوم 21 أكتوبر 1973 القرار رقم 338 لوقف إطلاق النار وقبلت إسرائيل ومصر القرار اعتبارًا من يوم 22 أكتوبر 1973 عندما صدر قرار مجلس الأمن 338 بإيقاف القتال اعتبارًا من غروب شمس يوم 22 أكتوبر. كانت إسرائيل تعلم أنها لم تحقق هدفًا سياسيًا أو هدفًا عسكريًا استراتيجيًا، لفشلها فى إرغامنا على سحب قواتنا فى شرق القناة وغربها، لذلك قررت إسرائيل أن تبذل جهدًا كبيرًا لتحقيق قدر من المكاسب السياسية أو العسكرية قبل أن تلتزم بوقف إطلاق النار. دفعت إسرائيل بقوات جديدة إلى غرب القناة ليلة 22/23 وليلة 23/24أكتوبر لتعزيز قواتها فى منطقة الدفرسوار، ثم استمرت فى القتال وتقدمت قواتها جنوبًا للوصول إلى مؤخرة الجيش الثالث لقطع طريق مصر- السويس الصحراوى والاستيلاء على مدينة السويس وفى بوم 23 أكتوبر أصدر مجلس الأمن القرار رقم 339 تعزيزًا للقرار السابق ووافقت كل من مصر وإسرائيل على وقف إطلاق النار صباح يوم 24 أكتوبر. «بيان النصر» وقد أصدرت القيادة العامة بيانًا عسكريًا يلخص الموقف العسكرى صباح يوم 24 أكتوبر 1973 وأوضحت فيه الوضع الذى تم على الأرض حيث قالت إن قواتنا فى سيناء تحتل الشاطئ الشرقى لقناة السويس من بور فؤاد شمالًا بطول 200 كيلومتر وبعمق يتراوح ما بين 12 و17 كيلومترًا على طول الجبهة بما فيها مدينة القنطرة شرق، عدا ثغرة صغيرة من الدفرسوار شمالًا بطول سبعة كيلومترات ملاصقة للبحيرات المرة وتبلغ المساحة التى تسيطر عليها قواتنا شرق القناة «سيناء» 3000 كيلومتر مربع. وأشار بيان الجيش إلى أنه لا توجد قوات للعدو إطلاقًا فى أى مدينة من مدن القناة الرئيسية، وقد استمر هذا الموقف حتى نهاية الحرب حيث فشلت القوات الإسرائيلية فى دخول مدينة السويس وعندها توقفت الحرب بقدوم قوات الطوارئ الدولية يوم 28 أكتوبر 1973، وهكذا انتصرت مصر وتم استرداد سيناء سواء بالحرب أو المفاوضات بعد ذلك.