بعد تصاعد الأحداث الكارثية المتصلة بحرق وتدمير كنيسة أطفيح أوشك د. عصام شرف رئيس الوزراء الجديد أن يتقدم باستقالته يأسا وإحباطا من إمكانية إنقاذ وطن على شفا غرق فى طوفان فتنة طائفية مزرية حيث بدأ انقضاض شياطين الطابور الخامس «الذى يضم ذيول كيان العصر البائد وفلول نظامه الإجرامى من زبانية الحزب الوطنى وأذناب أمن الدولة» على شطآن الثورة الوليدة الخضراء التى كانت قد ارتدت أزهى أثوابها المتحضرة بتلاحم سنابلها الطالعة مزدهرة بتآخى وتآلف مسلميها وأقباطها مداوية جراحها المثخنة ومستردة أنفاسها المنهكة تمهيدا لأن تتنفس رياح التغيير العطرة التى دفعت ثمنها دماء شهداء أبرار وجهاد ثوار أنقياء يواجهون أباطرة من عتاة المجرمين والقتلة والسفاحين الذين شكلوا ثورة مضادة ..أو فلنقل تشكيلا عصابيا للإجهاز على فجر يوم جديد لاح فى الأفق يسعى شرفاء هذا الوطن ألا يتبدد.. وألا يضمحل.. ويسعى الأدنياء والأوباش والأفاعى من المأجورين وكلاب السلطة البائدة أن يجهضوه ليعاودوا من جسد الغنيمة يقتسمون.. ومن لحمها الحى ينهشون.. ومن بين أنيابهم ينهمر الدم أنهارا وبحورا عصام شرف تراجع رئيس الحكومة عن تقديم استقالته فى اللحظة الأخيرة على إثر حديث مع ابنته الشابة التى أخبرته أن صديقتها المسيحية سوف تواصل كل يوم إشعال شمعة فى كنيسة مختلفة حتى تنتصر وداعة ملائكة الثورة أنقياء القلب على أشرار أبالسة الطائفية البغيضة.. وتنهض الثورة لتستعيد عافيتها من جديد.. وتواصل الحرية مسيرتها الطاهرة لتمنحنا جسارة الغناء حيث يعبر عن ذلك شاعرنا الكبير «أحمد عبدالمعطى حجازى» متحدثا عن علاقة الثورة بالشعر مؤكدا أننا نثور لكى نشعر أننا أحرار.. وأن من حقنا أن نعيش فالثورة «هبة ضد الموت» وبهذا المعنى تكون الثورة فى جوهر رسالة الشعر.. كل شىء أصبح له معنى بعد أن استردت الكلمات معناها.. كانت اللغة قبل ذلك زائفة تستخدم فى الكذب فتصبح كذبا.. لكن حين استردت علاقتها الصحية بالحياة استرد الشاعر علاقته الصحيحة باللغة.. واستطاع أن ينشد.. ولقد آن يا مصر الغالية.. آن أن تستعيدى شبابك أن تولدى مرة ثانية.. آن أن يسقط العبد فيك وأن تسقط الجارية لكى يسقط الطاغية. دمعت عين رئيس الوزراء الرومانسى المرهف الحس أسى وتأثرا وانفعالا من إثر كلمات ابنته.. لكنه ولأنه يعلم أن الوقت يداهمه، وعيون الشر لن تمهله، وعقارب الساعة لن تسعفه، والتاريخ لن يتوقف أمام نبل الأحزان، ومرثيات الشعراء، فقد قرر أن يستنهض الهمة وأن يستلهم جسارة الغناء للثورة والانتصار لمنشديها من براعم زهرة اللوتس المقدسة التى تحترف الكبرياء ولا تعرف الانحناء وتشدو بترانيم العزة والكرامة.. قرر الشاعر استكمال المشوار رغم العواصف والأنواء.. حتى لا يتمكن أقزام الزمان الوغد معاودة استرداد ما خسروه والقفز على إنجازات حضارة عريقة يعز عليها أن تختصر وأن تموت تحت سنابك خيول اللصوص والقراصنة والمرتزقة. كان الشعار المرفوع منذ مذبحة كنيسة القديسين بالإسكندرية مرورا بأيام ميدان التحرير المجيدة التى شكلت ملامح الثورة وتجلياتها العظيمة انتهاء بالاحتفال المظفر بانتصار إرادة الشعب يوم 11 فبراير.. كان الشعار هو «مسلم ومسيحى إيد واحدة».. فصار بعد حرق كنيسة «أطفيح»: يا كاميليا.. فينك فينك.. الكنيسة بينا وبينك».. و كاميليا لازم ترجع بين أخواتها تصلى وتركع.. والمقصودة هى كاميليا شحاتة زوجة القس المتمردة التى تصر الكنيسة على أنها مازالت مسيحية كما تصر على إخفائها.. ويصر السلفيون على أنها أسلمت.. وليس من حق الكنيسة اعتقالها.. ونصر نحن أنصار حقوق الإنسان أن يطلق سراحها بصرف النظر عن هويتها الدينية فلا يحق لسلطة دينية احتجازها فى دولة مدنية. استطاع إذا شياطين الثورة المضادة - التى اعترف بوجودها د. عصام شرف ومن بعده د. يحيى الجمل فى اجتماعهما بالصحفيين وأكد أنها قوة منظمة وممنهجة - استطاعت معاودة التخريب وإشاعة الفوضى وإثارة الرعب ومحاولة تفتيت الوحدة الوطنية وإجهاض الثورة وتدعيم الانقسام والفرقة وتمزيق الوطن. فيوقر فى نفوسنا أن الفوضى هى البديل الوحيد المتاح بعد اندحار النظام الفاسد، فما أحوجنا إلى عودته إذا ليشملنا برعايته وأمنه وأبوته من جديد.. حتى إن ذللنا وقمعنا وسرقنا.. فمن حقه كأب أن يؤدبنا ويكسر رقبتنا ويسحق عظامنا فى مقابل أن يبسط مظلة حمايته علينا.. وسحقا لمفاهيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والقضاء على الاستبداد والظلم والطغيان والحرية والإعلاء من كرامة الفرد.. فهذه كلها خزعبلات مثقفين.. وتهويمات المتحذلقين. احمد عبد المعطى كما استطاع شياطين الثورة المضادة استعادة المشهد الطائفى الكريه مرة أخرى ليتصدر الكادر ممثلا فى أحداث دامية انبثقت من الدويقة البائسة وأزقة منشية ناصر التعسة وعشوائيات الزبالين والطريق الدائرى.. تراشق بالحجارة وقطع للطرق.. واشتباكات ومصادمات عنيفة أسفرت عن قتلى لقوا حتفهم بدير سمعان الخراز بالمقطم.. وتعالت الترانيم القبطية بديلا للأغانى الوطنية ورفعت الصلبان بدلا من أعلام مصر ذلك بعد أن كنا قد تنفسنا الصعداء متصورين أن ثورة الميدان قد طهرتنا من أدران تلك الطائفية وقد كان يقيننا - ومازال - أن هلاك الوطن - بمسلميه ومسيحيه - لن يأتى إلا من ذلك الاتجاه البغيض. وإذا ما انتبهنا إلى أن تلك العشوائيات التى تتمدد فيها جثث الفقر - على حسب تعبير صلاح عبدالصبور - تمدد الثعبان فى الرمال.. وتعافى من الظلم الاجتماعى الفادح بالمقارنة بقاهرة المجتمع المخملى وقاهرة الأقلية التى تمثل تلك الطبقة التى يطلق عليها «الطبقة المجرمة» ومليونيرات شريحة لصوص المال العام.. وقد كشفت «ثورة 25 يناير» بعض رموزهم من الفاسدين الذين سرقوا الأرض والنهر والشمس والوطن والكحل من العين.. وهان عليهم إلا يلقوا حتى بالفتات للجائعين والبؤساء.. هذا الفقر المستشرى الممتزج بأمية غالبة أفرزت إيمانا راسخا بالدجل والشعوذة والغيبيات والتى عبرت عنها في مسلسلى الأخير «تاجر السعادة» من خلال شخصية قارئ الكف الأعمى الذى يحتال على البسطاء ويبيع لهم الأمل والأوهام والأحلام الزائفة.. وقد استندت على إحصائية مفادها أن هناك دجالا لكل مائتى ألف شخص فى بلادنا. أسفر الإيمان بالدجل عن تصور بعض مسلمى قرية «أطفيح» أن الكنيسة تكيد لهم من خلال أوراق مدون عليها أسماء بعض من ذويهم يتم أعمال السحر فيهم فتربط الرجال، وتطلق السيدات وتتسبب فى عنوسة الفتيات وعقم المتزوجات وتساهم فى عشق الشباب المسيحى للمسلمات من خلال أعمال سفلية يصنعها قساوسة ملاعين بالأمر المباشر من ملوك الجان المشاهير.. فثاروا ثورة عارمة واندفعوا يهدمون الكنيسة بالبلدوزرات. صلاح عبد الصبور إنها إذا المفارقة الصارخة بين ثوار «الإنترنت» ومجتمع الخرافة حيث تمخض الصراع عن انتصار الثورة.. لكنه انتصار يخشى عليه من موروثات عتيقة، وتراكمات أصولية عتيدة تغذيها خفافيش تيارات ظلامية سلفية تقحم الدين بالسياسة.. تدعمها فلول نظام منحط يأبى أن يرحل.. ويترك ذويوله تعبث بأصابعها القذرة فى مقدرات الوطن. قال الفيلسوف الألمانى «هيرمن هيسة» لم الشعراء فى الزمن الضنين» لكن الثورة الرائعة التى بدت كحلم لاح فى خاطرنا واكتمل فى قلوبنا بدرا مضيئا.. وتجسد فى الميدان حقيقة ساطعة خرجت من رحم الموت الذى زرعه الطغيان فى كل الوديان.. هذا الحلم العظيم لابد أن يستكمل الشاعر بقية أبياته.. ولابد أن تطيعه وتستجيب لشرف ونبل مقاصده القوافى.. ونظن أن الشاعر لن يترك القصيدة فالقصيدة لا تستقيل.