منذ اللحظات الأولى للعملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا فى فبراير 2022، انطلقت أنظار أوروبا إلى منطقة البلقان، تحسباً لاندلاع حرب جديدة فى المنطقة المضطربة بالفعل، حيث جرت العادة أن تمهد التوترات القائمة فى البلقان الطريق أمام اندلاع حروب واسعة النطاق فى القارة الأوروبية، والتاريخ مازال يحمل العديد من النزاعات المتوترة لهذه المنطقة منذ انفصال كوسوفو عن صربيا بعد نزاع مسلح استمر من من 28 فبراير 1998 حتى 11 يونيو 1999. وعلى الرغم من ذلك، هيمنت على المنطقة حالة من التوازن بين القوى المتنافسة، ولم تسارع موسكو إلى استغلال نفوذها لدى عدد من دول المنطقة – وعلى رأسها صربيا – لإشعال فتيل الحرب فى البلقان، إلا أن حالة السلام الظاهرى التى تتعايش معها المنطقة حالياً، يبدو أنها فى طريقها للانتهاء، خاصة مع تصاعد حدة الأزمة السياسية بين صربيا وكوسوفو، وقبول طلب البوسنة للترشح لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي؛ الأمر الذى قد يمهد لتحول البلقان إلى ساحة جديدة من ساحات المنافسة الجيوسياسية بين موسكو وبروكسيل، وهو السيناريو الذى حاول الاتحاد الأوروبى جاهداً تجنبه منذ اللحظة الأولى للعملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا. الاشتعال سيد الموقف على بعد مئات الكيلومترات من أوكرانيا، برزت أزمة كوسوفو وصربيا فى أغسطس الماضي، وذلك بعد أضرب المئات من الصرب المقيمين فى كوسوفو، احتجاجا على قرار منعهم وضع لوحات ترخيص صربية على سياراتهم. عقب ذلك، حددت كوسوفو موعد 18 ديسمبر لإجراء انتخابات فى بلديات ذات غالبية الصربية، لكن الحزب السياسى الصربى الرئيسى أعلن مقاطعته. ولاحقا، قبضت السلطات الكوسوفية على شرطى سابق يشتبه فى ضلوعه بهجمات ضد ضباط شرطة من أصل ألباني، مما أثار غضب الصرب الذين لجأوا إلى قطع الطرق. وشهدت الحدود بين صربيا وكوسوفو توترا، تصاعد إثر إغلاق سلطات الأخيرة أكبر معبر حدودى مع بلجراد، بعد قيام محتجين صرب فى مدينة ميتروفيتشا المنقسمة عرقيا شمالى كوسوفو، بوضع حواجز على الطرق، لتتزايد حدة الأزمة مع إعلان صربيا وضع جيشها فى حالة تأهب قصوى. وبينما دعت أمريكا وأوروبا، فى بيان مشترك، إلى نزع فتيل التوتر فى شمال كوسوفو، والامتناع عن الاستفزاز والتهديد بينهما، أعلنت روسيا دعمها لصربيا، مؤكدة أنه «من الطبيعى أن تدافع صربيا عن حقوق الصرب الذى يعيشون فى الجوار وسط ظروف بالغة الصعوبة، وأن ترد بشكل حازم حين يتم انتهاك حقوقها». ورغم تراجع صربيا عن موقفها وفتح المعبر الحدودى بين بلجراد وبريشتينا إلا أن فتيل الأزمة مازال مشتعلا ومتوقع أن شرارة صغيرة يمكن أن تؤدى ألى اشتعال حرب أخرى فى القارة الأوروبية. أزمة «الناتو» كانت تصريحات الرئيس الصربى ألكسندر فوتشيتش، خلال جلسة مجلس الأمن فى 11 ديسمبر الماضي، الشرارة القوية لاشتعال الأزمة فى كوسوفو حيث أكد أن بريشتينا بدعم من واشنطن، لم تحترم الاتفاقيات الدولية، فى إشارة إلى الاتفاق الذى تم عقده بوساطة أمريكية فى أعقاب انفصال بريشتينا عن بلجراد، والذى ينص على احترام حقوق الأقلية الصربية المقيمين فى كنف كوسوفو. كما اتهم فوتشيتش جزءاً من المجتمع الدولى وقوات الناتو بالمشاركة فى مخطط سلطات كوسوفو لانتزاع عدد من الحقوق المدنية التى يتمتع بها مواطنو كوسوفو من أصول صربية، مؤكداً أن بلجراد تتعرض لمؤامرة وضغوط من أطراف دولية ترغب فى استغلال نفوذها لدى بريشتينا لتحقيق مكاسب سياسية على حساب صربيا. على الطرف الآخر من المعادلة، تدخلت موسكو فى سياق الأزمة بين صربيا وكوسوفو؛ إذ ذكر المتحدث باسم الكرملين دميترى بيسكوف، يوم 28 ديسمبر 2022، أن «روسيا تدعم ما تقوم به صربيا بهدف وضع حد للتوترات فى كوسوفو»، وأضاف: «لدينا علاقات وثيقة جداً كحليفين: (علاقات) تاريخية وروحية مع صربيا»، وصرح بأن «من الطبيعى أن تدافع صربيا عن حقوق الصرب الذين يعيشون فى الجوار وسط ظروف بالغة الصعوبة، وأن ترد بشكل حازم حين يتم انتهاك حقوقها». وقد وصف الكثير من المراقبين للعلاقات البلقانية الأوروبية قمة تيرانا، يوم 6 ديسمبر الفائت، بأكثر قمم الاتحاد الأوروبى نجاحاً مع دول غرب البلقان؛ فبجانب مشاركة جميع رؤساء وممثلى المستويات العليا من السلطة بهذه الدول فى القمة، بما فى ذلك صربيا؛ أسفرت القمة عن الإعلان عن تقديم الاتحاد الأوروبى حزمة مساعدات للمنطقة بقيمة مليار يورو، لمساعدة الأسر والشركات على تحمل ارتفاع تكاليف الطاقة، بالإضافة إلى دعم الاستثمار فى البنى التحتية للطاقة المتجددة وتوليد الكهرباء. كما سبق أن أطلق الاتحاد الأوروبى خطة اقتصادية واستثمارية للمنطقة بقيمة 30 مليار يورو، تهدف إلى تعزيز التحول الأخضر والرقمي، وتم الإعلان أيضاً عن اتفاق لبدء خفض تكاليف السفر عبر دول غرب البلقان والاتحاد الأوروبى بدءاً من العام المقبل، ومواصلة القيام بذلك تدريجياً حتى عام 2027، بالإضافة إلى الالتزام بدمج جامعات غرب البلقان فى برنامج الشراكة الأوروبية للتعليم "Erasmus". أخيراً، كشفت بعض المصادر المطلعة أن بعض العوائق التى كانت تمنع نجاح دول المنطقة من الفوز بعضوية الاتحاد الأوروبى قد تم تذليلها، وهو ما ترجم على أرض الواقع فى أعقاب الموافقة على ترشح البوسنة لعضوية الاتحاد الأوروبى. تمثل جميع هذه التطورات دليلاً حياً على رغبة الاتحاد الأوروبى فى تعميق شراكته الاستراتيجية مع دول غرب البلقان، وهو الأمر الذى لا يرضى روسيا بالطبع، ويرجح البعض أن يأتى الرد الروسى على مثل هذه التطورات فى صورة إشعال التوترات بين دول المنطقة. وعلى الرغم من تصاعد التوترات الذى ظهر بين دول المنطقة بصورة مقلقة خلال شهر ديسمبر 2022، توجد العديد من المؤشرات الداعمة على أن الموقف الحالى ما هو إلا جزء من المناكفات المعتادة بين الغرماء التقليديين فى هذه المنطقة، ولكن هذا لا يعنى بأى حال من الأحوال اندلاع حرب جديدة فى البلقان. وتوجد العديد من المؤشرات التى تدعم هذا الطرح، اهمها إظهار صربيا دعماً كبيراً لموسكو منذ اللحظات الأولى لعمليتها العسكرية فى أوكرانيا، كما أنها قد رفضت فرض عقوبات على روسيا بفعل الحرب فى أوكرانيا، على خلاف دول الاتحاد الأوروبي، إلا أنها فى الوقت نفسه أدانت وبشدة جميع الاتهامات التى وصفتها ب«الدمية» التى تحركها روسيا، وأظهرت نوعاً من الانفتاح على الاتحاد الأوروبي، بحضورها قمة تيرانا التى جمعت دول البلقان مع الاتحاد الأوروبى فى ديسمبر الماضى. وقد شاركت صربيا فى أغلب المداولات التى تضمنت الحديث عن آليات انضمام دول البلقان إلى الاتحاد الأوروبي، والتعاون بين الاتحاد ودول المنطقة فى مجال الطاقة، وصولاً إلى عدم اعتراضها بصورة أو بأخرى على البيان الختامى للقمة الذى أدان "الغزو الروسى لأوكرانيا". وعلى الرغم من أن البيان قد حمل توقيع الدول الأوروبية فقط المشاركة فى القمة، فإنه أكد التشاور مع دول البلقان للوصول إلى هذه الصياغة النهائية، وهو ما يؤكد مجدداً أن بلجراد قد حصلت على وعود يرجح أن تكون اقتصادية الطابع ومرتبطة بعضويتها فى الاتحاد الأوروبى لتسهيل حصول الاتحاد الأوروبى على هذا الانتصار الرمزى على حساب روسيا. كما أن وفق الوضع الراهن فى القارة الأوروبية، وحدة التصريحات الصادرة من كلا الطرفين خلال الأزمة والتى عكست رغبة ما فى تهدئة الموقف؛ فعلى سبيل المثال، بادرت الحكومة الكوسوفية بإطلاق صراح ضابط الشرطة الذى مثل اعتقاله الشرارة الأولى للتصعيد الأخير بينها وبين بلجراد، وقد رحبت صربيا بهذه الخطوة، كما صرح وزير الدفاع الصربى ميلوس فوسيفيتش، فى تصريحات تلفزيونية يوم 28 ديسمبر 2022، بأن بلجراد «مستعدة للتوصل إلى اتفاق»، وأضاف أن بلجراد لديها خط اتصال مفتوح مع الدبلوماسيين الغربيين لحل القضية، وقال: «نشعر جميعاً بالقلق إزاء الوضع وإلى أين يتجه كل هذا… صربيا مستعدة للتوصل إلى اتفاق»، كما تم الإعلان يوم 29 ديسمبر 2022 عن إعادة فتح المعبر الرئيسى بين كوسوفو وصربيا. كما عملت الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى على تحجيم الأزمة ورفضتا تصعيد التوترات الحالية فيما بين البلدين. وقد أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية، بالتعاون مع مسؤولى الشؤون الخارجية فى الاتحاد الأوروبي، بياناً مشتركاً فى 28 ديسمبر الماضي، دعتا فيه القيادة السياسية فى البلدين إلى تهدئة الموقف، والتوصل إلى حل يرضيهما. كما أكدتا دعمهما إجراء تحقيق عادل فى جميع الأحداث التى شه دتها كوسوفو مؤخراً، مع التشديد على ضرورة احترام مبادئ حقوق الإنسان، خاصة المعاملة العادلة والمتساوية لجميع المواطنين، أقلية كانوا أم أغلبية ويسعى الاتحاد الأوروبى أيضاً إلى تهدئة الأوضاع فى البلقان وتقليل النفوذ الروسى والصينى فى هذه المنطقة التى تمثل عمقاً استراتيجياً هاماً، ومصدراً للطاقة، حتى إن كان ذلك يعنى منح دول المنطقة عضوية فى الاتحاد الأوروبي، عقب سنوات من الرفض والمماطلة. أما الجانب الروسى فكان حذرًا هذه المرة على الرغم من اتخاذ موسكو موقفاً مؤيداً لصربيا، وتأكيدها ضرورة احترام كوسوفو حقوق الأقليات الصربية، لم تبادر بتهديد ومطالبة كوسوفو بالخضوع لشروط صربيا كما جرت العادة فى صراعات مشابهة. وعلى صعيد آخر، تدرك روسيا جيداً أن قادة دول البلقان المناصرين لها، لديهم رغبة فى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى للاستفادة من المكاسب الاقتصادية التى سيوفرها لهم الاتحاد. كما أن دعمهم السلطة السياسية فى موسكو لا يمكن أن يأتى على حساب خسارتهم سلطتهم وقدرتهم على بسط النفوذ فى الداخل. وفى النهاية، يمكن القول إن الوضع فى البلقان يتأرجح دائماً منذ القرنين التاسع عشر والعشرين بين التصعيد والتهدئة، إلا أن التخوف الحقيقى يكمن فى إمكانية تعرض المنطقة لذات التطورات التى ساهمت بصورة أساسية فى إشعال الحرب العالمية الأولى عام 1914، فى أعقاب اغتيال الأرشيدوق النمساوى "فرانز فرديناند"، وما تبع ذلك من إعلان النمسا الحرب على صربيا.