العودة إلى الفحم هو الطريق السهل أمام معادلة صعبة، طرفاها أمن الطاقة والانتقال بعيدًا عن الوقود الأحفورى (الفحم)، وبين المحافظة على الأجندة الخضراء التى تعهدت بها الدول فى محاولة لتقييد بعض من الكوارث الطبيعية التى يشهدها العالم على مدار الأعوام الماضية بسبب التغير المناخى. وبدأت الحكومات فى أوروبا إلى الاتجاه لإلغاء خطط إيقاف تشغيل محطات الفحم، وتجاهل التزامات التخلص التدريجى من الوقود الأسود، وسط البحث عن تأمين إمدادات الطاقة أولًا قبل التفكير فى تحول بلادها لمواجهة تداعيات المناخ.
ويفسر هذا الاتجاه سبب فشل مجموعة الدول ال7 الصناعية الكبرى فى الاتفاق على موعد نهائى للتخلص من الفحم فى اجتماعها خلال مايو الماضى، حيث خلّفت أزمة الطاقة والحرب فى أوكرانيا هذه البلاد للعمل إلى العودة إلى الفحم كخطوة لا مفر منها فى الوقت الحالى، بعد ارتفاع أسعار الغاز الطبيعى إلى مستويات قياسية ونقص إمداداته، ليزداد الطلب على الوقود الأسود، نتيجة لذلك، وتعانق أسعاره مستويات لم يشهدها منذ أكثر من 200 عام. تعهدات سابقة فى قمة المناخ كوب 26، نوفمبر الماضى، تعهد ما لا يقل عن 23 دولة بالتزامات جديدة بالتخلص من الفحم فى توليد الكهرباء، وقد تضمنت النتائج النهائية للقمة التى أقيمت فى جلاكسو باسكتلندا، ضرورة التخلص التدريجى من الوقود الأسود، لكن يبدو أن هذه الخطط قد تم توقفها حتى الآن، بعد تصريحات بعض الدول الأوروبية للعودة مرة أخرى لاستخدام الفحم كمولد للطاقة. وقد تسبب التعافى الاقتصادى السريع بعد وباء كورونا، وشح إمدادات الغاز الطبيعى، فى العودة إلى الفحم بقطاع الكهرباء، لترتفع قدرة التوليد من هذا الوقود عالميًا بنسبة 9 % فى عام 2021 عند 10.35 تيراوات/ساعة، متجاوزًا مستويات عام 2019، وفقًا لوكالة الطاقة الدولية. وتتوقع الوكالة ارتفاع الإنتاج العالمى للفحم لأعلى مستوى على الإطلاق فى العام المقبل (2023)، عند 8.11 مليار طن، قبل أن يتراجع نسبيًا إلى 8.01 مليار طن بحلول 2024. وفى 2022، من المرجح أن تشهد الهند أكبر زيادة فى الإنتاج العالمى للفحم بنحو 163 مليون طن، تليها الصينوروسيا وباكستان بمقدار 57 و16 و12 مليون طن على الترتيب. فى المقابل، من المتوقع أن يتراجع إنتاج الفحم فى الولاياتالمتحدة وأوروبا بنحو 44 و82 مليون طن على الترتيب، بحسب وكالة الطاقة الدولية. وهذه التوقعات معرضة للتعديل بالرفع فى أى وقت، بعد أن أضرت الحرب الروسية- الأوكرانية بإمدادات الطاقة العالمية، وأجبرت الحكومات على العودة إلى الفحم مرة أخرى. وعلى الصعيد العالمى، لا يزال هناك أكثر من 2400 محطة لتوليد الكهرباء تعمل بالفحم فى 79 دولة، بإجمالى قدرة تصل إلى 2100 جيجاوات، وفق تقرير نشرته صحيفة «الجارديان البريطانية» يونيو الماضى. ويبدو أن إغلاق هذه المحطات لا يزال أمامه طريق طويل؛ إذ تشير توقعات شركة «جلوبال داتا» العالمية، إلى أن الطلب على الفحم فى قطاع الكهرباء سيصل إلى مستويات غير مسبوقة بحلول عام 2023، متجاوزًا الرقم القياسى السابق المسجل فى عام 2018. حلول مؤقتة رغم أن أوروبا كانت تخطط للقضاء على توليد الكهرباء بالمحطات الحرارية التى تعمل بالوقود الأحفورى منذ سنوات، وقد اقتربت من تحقيق هدفها، بالتخلى عنه نهائياً، فى عام 2030، إلى أن جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا والرد الروسى على العقوبات الغربية بالحد من إمدادات الغاز لبعض دول الاتحاد الأوروبى، وكذلك إجبار شركات الطاقة الأوروبية على تسديد فواتير الغاز الطبيعى بالروبل (العملة الروسية)، وهو ما خلق أزمة كهرباء وتدفئة بالدول الأوروبية. وسط هذه الظروف البالغة التعقيد، أعلنت بعض الدول الأوروبية عن خطط اضطرارية للعودة لاستخدام الفحم الحجرى لتعويض النقص فى إمدادات الغاز الطبيعى قبل حلول موسم الشتاء، ومن بين هذه الدول كل من ألمانياوبريطانيا والنمسا وإيطاليا والتشيك وفرنسا وربما تنضم دول أخرى مع زيادة التوتر بين موسكو ودول الاتحاد الأوروبى، كما عادت دول أخرى لاستخدام الفحم، منها الصين وأستراليا والهند وجنوب أفريقيا. وعلى حد تعبير مسئولين أوروبيين فإن التحول إلى الفحم مسألة مؤقتة وأن أهداف تغير المناخ طويلة الأجل لن تتغير، لكن فى الوقت الراهن لا يمكن لأحد أن يتأكد إلى متى ستستمر هذه «الحلول المؤقتة». الرجوع لعصر الفحم وفى دراسة صدرت للمرصد المصرى، التابع المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، بعنوان: «انتكاسة مناخية: التضحية بسياسات المناخ لحل أزمة الطاقة فى أوروبا»، نوهت خلالها بأن ألمانيا بدأت تخفيض استهلاكها من الغاز الطبيعى فى محطات الكهرباء لصالح الفحم، وتسعى إلى الضغط على مجموعة السبع من أجل إعادة تمويل مشروع الفحم بوصفه المخرج الوحيد والمؤقت للحفاظ على حزمة العقوبات المطبقة على روسيا، خاصة فى ظل عدم وجود خيارات سياسية أخرى أمام تلك الدول المتضررة من تلك العقوبات، إلا أن ذلك يعد تخليًا عن مبادئ سياسات المناخ بهدف تعويض نقص الطاقة؛ أى أن أولويات المناخ أصبحت ليست فى المقدمة. وأوضحت الدراسة، أن طموح الدول الأوروبية تجاه تطبيق سياسات المناخ قبل 2050، هو مجرد حلم، وهو ما أكدت عليه المفوضية الأوروبية، من أنّ أزمة الطاقة قد تؤدى إلى تأخير انتقال أوروبا بعيدًا عن الوقود الأحفورى. وقف التعهدات لم تكن دول الاتحاد الأوروبى فقط هى التى غيرت أجندتها البيئية وأعلنت العودة إلى عصر الفحم، ففى مايو الماضى أعلنت الحكومة البريطانية أن بعض محطات الكهرباء التى تعمل بالفحم والمقرر إغلاقها فى 2022، قد تحتاج إلى أن تظل مفتوحة لضمان إمدادات الكهرباء هذا الشتاء، وأشارت وزارة الأعمال والطاقة والاستراتيجية الصناعية فى بيان، إلى أن خطط استمرار عمل بعض محطات الكهرباء هذا العام (2022) تأتى فى إطار مجموعة واسعة من الخيارات لزيادة تعزيز أمن الطاقة والإمدادات المحلية، فى مواجهة تداعيات الغزو الروسى لأوكرانيا. يذكر أن بريطانيا قد أعلنت فى يونيو 2021، بتقديم موعد التخلص من الفحم فى توليد الكهرباء لمدة عام كامل، ليكون فى أكتوبر 2024، ولم تكن تعلم وقتها أنها ستواجه أزمة طاقة حادة، تُجبرها على العودة إلى الفحم مرة أخرى. وفى الولاياتالمتحدة فقد أجبر ارتفاع أسعار الغاز الطبيعى مع انخفاض المخزونات وزيادة الصادرات -وسط تداعيات الغزو الروسى لأوكرانيا- محطات الكهرباء على العودة إلى الفحم. وتتوقع إدارة معلومات الطاقة فى تقرير «آفاق الطاقة قصيرة الأجل لشهر يونيو 2022»، ارتفاع سعر الغاز المُسلَّم إلى محطات توليد الكهرباء بنحو 60 % تقريبًا على أساس سنوى هذا العام (2022)، ليصل إلى 7.92 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. فى المقابل، من المتوقع ارتفاع تكلفة الفحم فى محطات توليد الكهرباء بنسبة 4.5 % فقط فى 2022، لتصل إلى 2.07 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. كما تتوقع إدارة معلومات الطاقة ارتفاعَ إنتاج الفحم فى الولاياتالمتحدة خلال 2022، بنسبة 4 %، ليصل إلى 601 مليون طن أمريكى (545.2 مليون طن مترى)، لتعويض نقص المخزونات وتلبية الطلب الخارجى. أما الصين، فقد أقرت حكومة بكين إلغاء الرسوم الجمركية على الفحم بداية من مايو 2022 حتى 31 مارس 2023، لضمان أمن الطاقة وسط ارتفاع الأسعار العالمية، مع واقع أن الوقود الأسود يمثل 65 % تقريبًا من مزيج توليد الكهرباء فى بكين بنهاية 2021. ويشجع هذا القرار العودة إلى الفحم من خلال تعزيز الاستيراد، خاصة من واردات الفحم الروسى المرتفعة، بعد حظره من قبل الاتحاد الأوروبى. وفى الختام، فأنه من المفترض أن قمة المناخ COP 27 التى تعقد فى شرم الشيخ نوفمبر المقبل، تنتظر أن تقدم الدول فيها خططًا مناخية محسنة إلى الأممالمتحدة، خاصة أن تلك الخطوات من جانب الدول فى عودة الفحم مرة أخرى لا تتماشى تعهداتها الحالية بشأن المناخ مع الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى 1.5 درجة مئوية، فقد مثّلت الأزمة الروسية الأوكرانية نموذجًا واضحًا على إعلاء مصالح الأمن القومى لدولة أو لمجموعة دول دون الأخذ فى الحسبان كارثة المناخ.