مع تصاعد التوترات فى أوروبا على أثر إمكانية شن حرب على الحدود الروسية- الأوكرانية الأمر الذى يشير إلى نشوب أزمة ستؤثر على جميع دول الاتحاد الأوروبى، فالغاز الروسى هو القوة المؤثرة والكارت الرابح الذى يستغله الرئيس الروسى فلاديمير بوتين للضغط على الغرب للرضوخ له، فيما يتعلق بأزمة أوكرانيا ودول الشرق الأوروبى التى ما زالت روسيا تعتبرها جزءا من ممتلكاتها لن تتنازل عنه مهما تطلب الأمر. ومنذ منتصف العام الماضى، شهد العالم أزمة طاقة فائقة إلا أن الوضع فى أوروبا خاصة مع دخول فصل الشتاء أصبح فى وضع حرج، فروسيا تعتبر المصدر الرئيسى للغاز لجميع القارة الأوروبية، (40 % من احتياج القارة الأوربية من الغاز) ومع تصاعد التوتر بسبب أزمة أوكرانيا أخذ الأمر منعطفا آخر، فرغم تهديد الحكومات الأوروبية والولايات المتحدة بفرض مزيد من القيود على موسكو فإن الأمر لم يردع رئيسها حتى الوقت الراهن ووفق التوقعات الأمريكية فإن روسيا تستعد لغزو أوكرانيا خلال الشهر الجارى الأمر الذى يدق ناقوس خطر على حكومات القارة العجوز وشعوبها، والذين مازالوا يعانون من أزمة اقتصادية طاحنة منذ تفشى وباء فيروس كورونا أواخر عام 2019.. وهو الأمر الذى دفع دول الاتحاد وحلفاءها إلى النظر لحلول أخرى ودول أخرى غير روسيا تسعفهم فى حل خطر «حظر» الغاز الروسى، وما يترتب عليه من غلق مصانع ووقف مشروعات اقتصادية اخرى على اثر فقر الطاقة والغاز.
الغاز «الخطر» أثار تصاعد التوتُّرات على الحدود بين روسياوأوكرانيا مخاوف من أن أزمة إمدادات الغاز فى أوروبا يمكن أن تصبح أكثر خطورة. وقد تجاوزت أسعار سوق الغاز بالفعل ارتفاعاتٍ قياسية وتهدِّد بإرهاق الأسر الأوروبية بأزمة تكاليف المعيشة. وتعد روسيا أكبر مورّد للغاز فى أوروبا، حيث يتدفق ثُلُث هذا الغاز عبر خطوط أنابيب الغاز الأوكرانية إلى دول عبر القارة. كانت تدفقات الغاز الروسى أقل بمقدار الربع عن المعتاد خلال العام الماضى، لكن القادة الأوروبيين يخشون الآن من أن الغزو الروسى لأوكرانيا قد يؤدى إلى كارثة طاقة إذا قطعت صادرات الغاز. وقال مسئولو البيت الأبيض، الأسبوع الماضى، إن إدارة بايدن تستعد لوضع اللمسات الأخيرة على صفقةٍ «لضمان أن تكون أوروبا قادرةً على اجتياز الشتاء والربيع» من خلال التوسط بين الدول الرئيسية المُنتِجة للغاز لإرسال الغاز الطبيعى المُسال بواسطة الناقلات إلى أوروبا، لكن هذه الخطة ليست دون تحديات. فوفق المحلل شى نان المختص بشئون الطاقة بشركة «ريستاد إنرجى» البترولية، أن أزمة إمدادات الغاز العالمية التى ظهرت مع بدء الاقتصادات فى الانتعاش فى أعقاب الركود الناجم عن جائحة فيروس كورونا، تعنى أن هناك القليل من الغاز الاحتياطى. وقالت الولايات المتحدة إن محادثاتها «واسعة النطاق مع الكثير من الشركات والدول فى جميع أنحاء العالم بهذا الأمر» حيث تسعى واشنطن وأوروبا إلى الاتجاه فى تعدد مصادر الطاقة حتى لو بكميات ضئيلة، لكن من جهات مختلفة حتى يتوقف الاحتكار الروسى. من جهة أخرى، أشارت رئيسة قطاع استراتيجية السلع لدى «آر بى سى كابيتال»، حليمة كروفت، إلى أن هناك احتمالًا بأن بعض الشحنات المتعاقد عليها والمخصصة لآسيا يُمكن يتم تحويلها إلى أوروبا بدلًا من ذلك، بفضل درجات الحرارة المعتدلة فى الشتاء فى المنطقة. وأضافت كروفت فى تصريحات صحفية، أن الأمر سيستغرق مناقشات «دقيقة» بين منتجى الغاز الرئيسين والمشترين من آسيا، للتفاوض بشأن بعض المرونة فى إمدادات الغاز. ومن جهة أخرى، يمكن للولايات المتحدة نفسها أن تلعب دورًا مباشرًا فى تعزيز إمدادات الغاز فى أوروبا أيضًا؛ إذ غادر عدد قياسى من شحنات الغاز الطبيعى المسال الولايات المتحدة، متجهة إلى الموانئ الأوروبية خلال الشهر الماضى. ولدى الولايات المتحدة حافز قوى طويل الأجل لتشجيع أوروبا على التخلى عن اعتمادها على روسيا -ومشروع خط أنابيب نورد ستريم 2- لصالح احتياطياتها من الغاز الصخرى، بحسب تقرير لصحيفة «الجارديان» البريطانية. صراع البدائل بين أمريكاوروسيا على مدار عقود تحاول الولايات المتحدة أن تحل ارتباط الاقتصاد الأوروبى بالغاز الروسى، فالطاقة هى عصب الاقتصاد، ومثل هذا الارتباط كفيل برهن أوروبا ومصالحها بالسياسة والاستراتيجيات الروسية، وكفيل بإبعاد أوروبا الغربية عن التحالف مع الولايات المتحدة وتعزيز علاقاتها مع الغريم الروسى. وفى عام 2002 قدمت واشنطن مشروع خط الغاز «نابوكى» ليكون بديلًا عن خطوط الغاز الروسى، عبر نقل الغاز من مصادره فى آسيا الوسطى، من تركمانستان وأوزباكستان وكازاخستان تحديدًا، عبر بحر قزوين وتركيا باتجاه أوروبا. وجاء الردّ الروسى على المشروع مباشرة عبر توقيع عملاق الغاز، شركة «غازبروم» الروسية، عقود احتكار مع الدول المنتجة للغاز فى آسيا الوسطى، وبالتالى بات الغاز التركمانى روسيّ من ناحية حقوق الانتفاع والاستخراج والنقل، وفقد المشروع الأمريكى جدواه قبل أن يولد. واستمرّت المحاولات لدعم تزويد أوروبا بمصادر غاز بديلة، تقلل من اعتمادها على الغاز الروسى، وفى مطلع عام 2008 اتّجه التفكير إلى غاز أذربيجان، وعام 2012؛ تمّ توقيع اتفاق بين تركيا وأذربيجان لتأسيس خطّ لنقل الغاز من أذربيجان باتجاه أوروبا عبر تركيا، وحمل الاسم «خط الغاز عبر الأناضول» (تاناب)، وفى 2019؛ أعلن عن استكمال إنشاء الأنبوب ووصوله إلى الحدود التركيّة اليونانيّة، ومن المخطط فى المرحلة التالية ربط الأنبوب ب «الأنبوب العابر للبحر الأدرياتيكى» (تاب)، الذى سيضخ الغاز عبر اليونان وألبانيا إلى إيطاليا، وحمل المشروع ككل تسمية «ممرّ الغاز الجنوبى»، إلا أن هذا الخط أيضًا واجه العديد من المشاكل لتشغيله. وفى المقابل اتجه الروس لتسيير عمليات نقل الغاز إلى أوروبا عن طريق مسارات جديدة، وكان أحد الخيارات هو «السيل الشمالى» (نورد ستريم)، وهو خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعى يعبر فى قعر بحر البلطيق، ينطلق من مدينة فيبورغ فى روسيا إلى مدينة غرايفسفالد فى ألمانيا، ويبلغ طول الخط (1222) كيلومترًا ليكون بذلك أطول خطّ أنابيب تحت البحر فى العالم. بدأ الضخّ عبر الخط عام 2011، وعام 2018؛ باشرت الشركات الروسيّة فى العمل على مدّ خطّ ثانٍ موازٍ، عُرف باسم «السيل الشمالى الثانى» (نورد ستريم 2). وأقر الكونجرس الأمريكى عقوبات عام 2019 على مشروع (نورد ستريم 2) بغرض منع الشركات الأوروبية من العمل فيه، فى حين أعلنت موسكو مواصلة العمل فى المشروع. احتياجات أوروبا للغاز ترسل روسيا ما يقدَّر بنحو 230 مليون متر مكعب من الغاز إلى أوروبا كلَّ يوم، يسافر نحو ثُلُثها غربًا عبر أوكرانيا. لكن خبراء السوق منقسمون حول ما إذا كان من المرجَّح أن تعطِّل روسيا جميع صادرات الغاز إلى أوروبا، أو تلك التى تعتمد فقط على أنابيب الغاز الأوكرانية. ويشكِّك آخرون فيما إذا كان الكرملين سيشدِّد الخناق على الإطلاق على صنابير الغاز الروسية. ومن جهة أخرى، فقد واجهت أوروبا أيضًا خلال العام الجارى، انخفاض احتياطيات الغاز فى القارة إلى أدنى مستوى له منذ سنوات، وقد أوضح مصرف «كومرتس بنك» الألمانى صورة واقعية عن المدى، الذى وصلت إليه أزمة الطاقة فى الاتحاد الأوروبى، فقد نشر المصرف بيانات تظهر حجم المخزون الحالى من الغاز الطبيعى فى جميع دول التكتل. ووفقا لبيانات «كومرتس بنك»، الذى يعد ثانى أكبر مانح للقروض فى ألمانيا، فقد باتت مرافق تخزين الغاز فى بلدان التكتل الأوروبى عند منتصف سعتها التخزينية، مع ذروة فصل الشتاء الذى يصاحبه زيادة فى الطلب. الإمدادات الطارئة مع تصاعد الأزمة تتجه الدول الأوروبية إلى دراسة التوجه إلى الإمدادت الطارئة لسد فجوة اجتياجاتها، أو فى حال تم تنفيذ تهديد روسيا بوقف تدفق الغاز، ووفق خبراء الطاقة فإنه تتم إمدادات الغاز فى العالم عبر طريقتين: الأولى: خطوط الأنابيب، كما هو الحال مع تغذية روسيا دول الاتحاد الأوروبى عبر خطى «نورد ستريم»، حيث تعتبر خطوط الأنابيب من أهم الطرق لنقل الغاز والبترول من أماكن الإنتاج إلى محطات التكرير وأيضًا لمحطات المعالجة وذلك لعدة أسباب، على رأسها أنها تعد الأكثر أمنا وأقل فى التكلفة، كما أنه يصعب سرقتها، حيث تكون تلك الأنابيب مجهزة بالصمامات، والمضخات، وأجهزة التحكم. الطريقة الثانية: الغاز الطبيعى المسال (LNG)، وهو الذى يتم نقله بواسطة ناقلات متخصصة ثم يُعاد تحويلها إلى غاز فى محطات متخصصة، والغاز المسال هو غاز طبيعى تم تحويله من حالته الغازية -التى يوجد عليها فى الطبيعة- إلى الحالة السائلة، عن طريق تبريده إلى 162 درجة مئوية تحت الصفر. ويكون على شكل سائل عديم اللون والرائحة، ولهذا تضاف إليه كميات من مركب كيميائى (يشبه الكبريت فى رائحته) قبل الشروع فى توزيعه. ويقول تقرير لصحيفة The Times البريطانية، إن دول الخليج العربى ومصر تعد من أبرز الدول المصدرة للغاز الطبيعى المسال لأنه ليس لديها خطوط أنابيب غاز رئيسية. كما أن دول الخليج وخاصة قطر تعتبر بالفعل موردًا مهمًا لبريطانيا، فهى تلبى ما يقل قليلًا عن عُشر احتياجات البلاد.، ولكن فى حين أن معظم الغاز البريطانى يأتى من بحر الشمال والنرويج، فإن حوالى ثلث الغاز الأوروبى وأكثر من نصف الغاز الألمانى يأتى من روسيا، حيث تعتبر ألمانيا أكبر مستهلك للغاز فى أوروبا. ووفق تقرير الصحيفة البريطانية، أن أزمة أوروبا فى التحول إلى الغاز المسال أمر ليس سهلًا، فمع الارتفاع الصاروخى للأسعار مع عودة الإنتاج الصناعى بعد فيروس كورونا إلى طبيعته فى جميع أنحاء العالم، بدأت أوروبا بالفعل فى استيراد المزيد من الغاز الطبيعى المسال إلا أن الأوروبيين اعتادوا على الحصول على الغاز عبر خطوط الأنابيب، ومع اعتمادهم التاريخى على الفحم غير العصرى الآن لتوليد الطاقة، فإن دولًا مثل ألمانيا لم تستثمر فى محطات الغاز الطبيعى المسال. الاتجاه للشرق الأوسط يقول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، إن ليبيا قد تكون قادرةً على المساعدة فى ضوء إنتاجها القوى من الغاز وقربها من أوروبا. لكن من المرجَّح أن يتركَّز الحديث على دول الخليج، كأحد أكبر مُنتِجى الغاز فى العالم وثانى أكبر مُصدِّر للغاز الطبيعى المُسال بعد أستراليا. وفى مقالٍ نَشَرَه موقع Middle East Eye البريطانى، كتب أندريس كريج، الأستاذ المساعد فى قسم دراسات الدفاع فى كلية كينجز فى لندن، حلفاء أوروبا فى الشرق الأوسط ودول الخليج العربى لم يستخدموا سلاح الطاقة فى سياسات القوة الصارمة، على عكس روسيا بل عملوا على الاستثمار فى عقودٍ موثوقة طويلة الأجل، ما يوفِّر إمكانية التنبؤ والاستدامة بعيدًا عن تقلُّبات أسعار السوق. ويرى محللون أن الاستعانة بحلفاء أوروبا وواشنطن من دول الخليج يتطلب مساعدة فى إقناع دول آسيا، أكبر عملاء الخليج، للموافقة على تحويل إمدادتها من الطاقة لأوروبا، ومن بين هذه الدول اليابان وكوريا الجنوبية، الحلفاء الغربيون الذين قد يسعدهم تقديم المساعدة، وكذلك الصين، التى من المحتمل أن تفعل ذلك، ولكن فقط بثمن كبير. من جهة أخرى، تنظر أوروبا إلى منطقة شرق المتوسط كأحد أهم المناطق التى يمكن أن تسهم فى حل أزمة الطاقة، وهذا ما جعل الأوروبيين ينظرون إلى «منتدى غاز شرق المتوسط» الذى تلعب فيه القاهرة دورًا محوريًا، خصوصًا مع تبنّيها مشاريع ضخمة بإسالة وتصدير مخزونها الهائل من الغاز المكتشف حديثًا وهو الأمر الذى قد يسعف القارة العجوز من الوقوع فريسة لاحتكار الغاز الروسى. وقد أوضح د. دانيال ملحم، أستاذ الاقتصاد فى «جامعة باريس»، إنه نظرًا إلى مخزونات مصر الكبيرة من الغاز، التى تبلغ أكثر من ترليونى متر مكعب، فضلًا عن إمكان زيادتها باكتشاف جديد، فهى «تمتلك الإمكانات» لتصبح البديل لتوفير التنوع بالنسبة للطاقة فى أوروبا، كما أن مصر بدأت بالفعل منذ بداية عام 2021 فى تصدير شحنات الغاز المُسال إلى أوروبا. ولفت المحلل السياسى إلى أن الجزائر أيضًا تعتبر من ضمن الخيارات أمام الجانب الأوروبى، حيث تحتل المركز ال10 عالميًا فى ترتيب الدول المنتجة، وكانت الجزائر بالفعل تصدر الغاز إلى البرتغال وإسبانيا عن طريق الخط المغربى- الأوروبى، لكن مع توتر الأوضاع بين المغرب والجزائر أعلنت الأخيرة أنها ستتوقف عن ضخ الغاز عبر هذا الخط، وهو الأمر الذى ربما يكون شائكًا وغير آمن للجانب الأوروبى فى عقد صفقات جديدة مع الجزائر. 2 3