فى العدد الماضى تحدثنا عن بدايات مصطفى محمود، وكيف تحول من الشك إلى الإيمان من خلال عقله.. وتحدثنا أيضًا عن مؤلفاته ؛خصوصًا كتاب «العنكبوت».فى السطور التالية نواصل هذا الحوار النادر الذى أجرته الإذاعية الراحلة «آمال العمدة». شباب اليوم بين نقيضين آمال: دكتور مصصطفى محمود، لو تأملت شباب الجامعة فستجد أنه ينقسم إلى نقيضين، إما شباب منطلق بلا حدود، أو شباب تسوده موجة من التدين أو مسحة من التزمت الحاد، فما هو تفسيرك لذلك؟ مصطفى محمود: طبيعة الشباب أن يأخذ الأقصى دائمًا فى أى من الجهتين أما الاعتدال فهو من صفات ما بعد سن الأربعين. ويضيف: الالتزام بالدين هو الصواب، لكن التزمت والتعصب خطأ، فحتى النبى صلى الله عليه وسلم يقول «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا زهرًا أبقى» فيقول إنك ستنهك الدابة التى تركبها ولن تصل أو تقطع طريقك، إذن فالاعتدال هو الصواب، لكن الالتزام بالدين لا نقاش فيه فهو الحل، أما الانحلال فلن يصل بالشاب إلى أى شىء. آمال: ابنتك فى عمر الشباب، هل ستلزمها بارتداء الزى الشرعى؟ مصطفى محمود: الله سبحانه وتعالى هو الذى يلزم، ونحن لا نستطيع فعل أى شيء بالإكراه، لكن واجب الأب أن يبين الصواب ويؤكده ويشرحه وبعد ذلك فالأمر متروك للأولاد، لأن الأب لن يكون حارسًا عليهم، ولكن عليه أن يربى الضمير وبعد ذلك «كل نفس بما كسبت رهينة» فلا يوجد شخص يحمل وزر شخص آخر. آمال: ما أهم سؤال طرحته عليك ابنتك أمل فى هذه الفترة؟ مصطفى محمود: دائمًا الشباب فى هذه السن يطرحون مليون سؤال ولا يشبعهم أى جواب فعادة أسئلتهم لا تنتهى لأنهم يريدون معرفة جميع الأشياء، لكن أسئلة ابنتى عادة ما تكون علمية. آمال: هل علمت أولادك الدين أم تركتهم ليتعلموه وحدهم؟ مصطفى محمود: بل علمتهم وأول ما عودتهم عليه هو الصلاة. العَاَلم المحمود ل مصطفى آمال: الموسيقى التى تطرب لسماعها.. مصطفى محمود: أنا أحب الموسيقى السيمفونية والموسيقى الشرقية القديمة فأحب محمد عبدالوهاب وفيروز ووديع الصافى. آمال: الكتاب الذى يمكن أن يجذبك طوال الليل ويمنع النوم من التسلل إلى عينيك؟ مصطفى محمود: أنا حاليًا أعيش مع الصوفيين سواء كان الغزالى أو ابن عربى أو ابن عطاء الله السكندرى. آمال: عادة حرصت على ممارستها منذ شبابك وفجر صباك.. مصطفى محمود: القراءة قبل النوم. آمال: القراءة فى أى مجال العلمى أم الأدبى؟ مصطفى محمود: اختلف هذا، ففى الماضى كنت أقرأ الروايات البوليسية لأرسين لوبين وشارلوك هولمز، ثم بدأت فى قراءة الروايات العلمية والشعر ثم بدأت أقرأ فى علم النفس والفلسفة ثم فى الدين والتصوف وكل هذا كان تبعًا للمراحل العمرية. آمال: لو طبقنا نظرية الدورات الاقتصادية أو الدورات التاريخية فهل تتوقع أن تحدث ردة إلى دنيا الإلحاد والتساؤلات بعد شيوع عالم الأديان؟ مصطفى محمود: لا نستطيع أن نتنبأ بهذا، لأنك تفترضين أننا وصلنا لذروة الإيمان وتتساءلين عما بعد، لكننا لم نصل بالفعل إلى ذروة الإيمان. آمال: ومتى نصل إلى ذروة الإيمان؟ مصطفى محمود: أعتقد أننا سنصل فى السنوات القليلة المقبلة، فظنى أنه فى السنوات العشر القادمة ستحدث تغييرات عالمية خطيرة بدأت مقدماتها تظهر الآن. آمال: وما الذى سيساعد على وصولنا لذروة الإيمان بأسرع ما يمكن؟ مصطفى محمود: العامل الأول هو فشل الفكر المادى فى المجتمعات التى طبقته مثل أوروبا الشرقية والدول الشيوعية فلقد تأكد أن دعوتهم لتحقيق جنة الإنسان على الأرض بهذا التفكير هو تصور غير صحيح، وفى الوقت نفسه فشل النظم الغربية وهى الرأسمالية بكل مضاعفاتها الموجودة فكلا النظامين هما جناحا الفكر المادى، فالشيوعية والرأسمالية كلاهما مادى وكلاهما ملحد، فكيف يحلق طائر مكسور الجناحين، ومجتمعات تعسة ومتشنجة، وهذه أول المؤشرات التى تؤكد حدوث تغيير كبير، وأول سبب فى أن يرحل الشباب عن هذه المذاهب ويبحث عن أجوبة له فى مذاهب أخرى، لدرجة أنه يتولد به فضول نحو أشياء غريبة، فأول وأهم خبر فى صحف لندن هو وصول «المهابش ماهيشى» الهندى المتخصص فى اليوجا، وكل الشباب يتجمع حوله. آمال: كلمة للشباب من أحد رواد التأمل وتحليل الظواهر الطبيعية حولنا والذى مر برحلة الشك والإيمان. مصطفى محمود: لو نصحت الشباب بكلمة واحدة فأنا أختار كلمة الصدق فأنصح كل واحد بالصدق مع نفسه، ومن يبدأ بالصدق فلا بُدَّ أن يصل. الإغراق فى المحلية لا يوصل للعالمية آمال: هل الإغراق فى المحلية يعتبر جسر الوصول للعالمية؟ مصطفى محمود: الإغراق فى المحلية لا يوصل للعالمية، فكما قلت إن الكلام المحلى بنسبة مائة فى المائة ولا يمس جوهر الإنسان ولا القضايا الشاملة عبر جميع العصور لا يكون أدبًا بالمرة، فلا يسمى الأدب أدبًا إلا إذا اتصف بالإضافة إلى الشكل المحلى بمضمون جوهرى إنسانى شامل، فلا يوجد تناقض بين المحلية والشمولية، فالأدب الذى لا يمس قضية جوهرية لا يسمى أدبًا، فإذا كان الكاتب يتحدث عن شكل محلى فى زمان ما ومكان ما عن شخصية محلية فهذا لا يسمى أدبًا، ويكون أدبًا حينما ينفذ الكاتب من خلال الشكل المحلى إلى موضوع جوهرى ويعيش الإنسان عبر جميع العصور وفى كل مرحلة، بشكل يجعل الشامى والمغربى والمصرى يفهم هذا الأدب الذى تحدى الشكل المحلى وتجاوزه، فأنا لا أرى أى تناقض بين المحلية والشمولية. آمال: هل يمكن القول إن كتبك تحكى عن معاناة إنسان معاصر فيها شىء يتجه اتجاهًا غير مباشر إلى الروحانية؟ مصطفى محمود: هى باختصار رحلة الإنسان وعطشه الأدبى نحو الحقيقة، نحو الله سبحانه وتعالى لأن الله عندنا فى القرآن هو الحق، والحق من اسمائه فحيثما كان الإنسان يتعطش للحق وبلوغ الحق، فهذا التعطش هو نفسه التعطف إلى الله. آمال: وهل تعتقد أن هذا العطش بداخل كل إنسان حتى لو كان من بيئة أخرى؟ مصطفى محمود: هذا العطش يعد فطرة وضعها الله فى كل الناس وبوصلة وضعها فينا من يوم الميلاد، وهذه البوصلة متجهة إليه باستمرار، وبعض الناس يقعون فى عالم الأهواء والماديات والغرائز والشهوات التى تغشى هذه البوصلة فلا يستطيع أن يرى شيئًا منها، لكن بمجرد أن يصقل هذا الإنسان بالألم والمعاناة والحرمان يبدأ الشعور بشفافية هذا العطش الذى ولدنا به ونعيش به إلى أن نموت، فإذا كان هناك ناس يقتلون ويعيشون على الشهوات وما إلى ذلك فمن المؤكد أن هذا الطمس لفطرته خارجى إنما بمجرد أن يصقل سيبدأ فى التألق الداخلى مرة أخرى. آمال: إذن فالإنسان لن يرى نفسه جيدًا إلا إذا عبر جسر الإيمان. مصطفى محمود: طبعًا، فنحن لا يمكننا معرفة أى شىء إلا من خلال الله سبحانه وتعالى لأننا نسمع به ونرى به ونعرف كالموتور الذى لا يعمل إلا بالكهرباء، كذلك فالطاقة التى بداخلنا كلها من الله سبحانه وتعالى وبمجرد أن تنقطع عنا هذه الطاقة للحظة واحدة يموت الإنسان. آمال: كيف ترى دور الفن ورسالته والمرجو منه؟ مصطفى محمود: يكفينى من الفن أن يكون تعبيرًا صادقًا ورؤية صادقة وهى لا بد بذلك أن تكون من الحياة، لأن أى رأى صادق يوضع على مائدة المناقشات بين الناس سيفيد، فإن يتسم الفن بالصدق فسيكون بالتبعية هو فن للحياة، وفى الوقت نفسه لا يتنافى مع أنه فن للفن بمعنى أن يكون لنقد الجمال، كمن يكتب الشعر فى وردة لأنه يشعر بها، فحتى هذا اللون من الفن هو أيضًا للحياة ويصب فى الحياة، لأن الوردة جزء من الحياة، والجمال أيضًا جزء من الحياة، وهذا يعبر عن صدق الفنان الذى لا يشعر فى هذه اللحظة إلا بروعة الوردة، ومن غير الصحيح أن أرغمه فى هذه الحالة على أن يكتب فى أى شىء آخر، فالفن لن يكون له قيمة إلا إذا اتسم بالصدق، وأنا لا أطالب الفنان بأن يكون صادقًا وبمجرد كونه صادقًا فالفن الذى سينتجه سيكون للحياة حتى لو كان يبدو أنه فن للفن. آمال: قلت كلمة فن صادق، فهل هناك فن كاذب؟ مصطفى محمود: نعم فهناك فن الافتعال، فهناك من يكتب قصة مثلًا دون أن يكون فى عقله أى شىء يقوله، فطبعًا يكتب أى كلام، وهذا الكلام لا يصل لقلب القارئ لأن كل ما لا يخرج من القلب لا يصل للقلب، لكن الفن المكتوب بالمعاناة والمكابدة يصل إلى نخاع القارئ، وهناك فن يعتمد على الصنعة والحرفية، لكن الفن ليس عملية صياغة كلام أو حرفة. آمال: هل هناك اهتمامات تجذبك بعيدًا عن الفكر والأدب؟ مصطفى محمود: أحب سماع الأغنيات القديمة الجميلة مثل عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وعبد الوهاب، وأنا أرى أن الإنسان يحتاج للأغنية وأن الإنسان الذى لا يغنى لا يعمل، فأنا لا أستطيع العيش بلا غناء وموسيقى وجمال. آمال: على ذكر الجمال هل المرأة الجميلة يخاصمها الفكر المستنير؟ مصطفى محمود: نعم ففى بعض الأحيان ومن فرط اعتمادها على شكلها، وعلى أنه يكفى فى ذاته لجذب الناس، لا تحاول أن تثقف أو تنمى عقلها، لذلك فإن فى كثير من الأحيان يكون الجمال محسوبًا على المرأة وليس محسوبًا لها. آمال: أى الناس تستطيع أن تستوقفك؟ مصطفى محمود: أول ما يرى الإنسان من المرأة شكلها، فأنا اعتدت أن أؤجل الحكم ولا أتسرع ولا أقيّم رأيى على مجرد الشكل، لأنه يمكن أن أرى أمام أجمل وجه لكنه يخفى خلفه كائنة من الصخر ففى النهاية مفهوم الجمال عندى مرتبط بالخلق والسلوك والفطرة والجوهر.