ونحن نحتفل بعيد مجلة «روزاليوسف» الخامس والتسعين لا بُدَّ من حديث عن صاحبة المجلة.. تلك السيدة التى لاتزال تتمتع ببريق لم ينطفئ رُغم كل هذه السنوات.. بمجرد أن تذكر اسمها يذهب عقلك لصاحبة الجلالة.. وهى مؤسّسة الكيان الأهم والأبرز فى مصر والشرق الأوسط وصاحبة القلم الأجرأ.. ويكفى هنا فقط أن أسوق حكايتها مع جمال عبدالناصر، الذى كتبت له مقالًا حول حرية الرأى، ورَدّ عليها «ناصر» فى العدد نفسه بتاريخ 11 مايو 1953م حول حرية الصحافة والحاجة إلى الاختلاف. إنها السيدة «فاطمة اليوسف» التى كان مقالها آن ذاك حديث الأوساط الصحفية والسياسية لايزال يُدَرَّس حتى اليوم. أمّا الجانبُ الآخر من تلك الشخصية المتفردة، التى طالما تحدّث الجميع عنها باعتبارها راهبة فى محراب الصحافة، الحديث هنا ليس عن الصحافية «روز اليوسف» والدة الأديب الكبير إحسان عبدالقدوس، ولكن السطور التالية تحكى عن الفنانة «فاطمة اليوسف» التى اهتم النقاد والمهتمون بتجربتها العظيمة فى الصحافة وتناسوا ذكْر دورها الفنى باعتبارها فنانة وممثلة قديرة! نبدأ الحكاية عن أيام الفن، كما أسمتها هى فى مذكراتها الوحيدة التى تحمل اسم «ذكريات»، والتى تُعَد من أهم السِّيَر الذاتية لسيدة فريدة من نوعها. قصة دخولها عالم الفن بداية تمثيلها كانت بالصدفة حيث قررت فرقة الفنان المسرحى عزيز عيد والذى تبناها فى بداية مشوارها الفنى أن تخرج رواية اسمها «عواطف البنين»، وعهدت بإخراجها لعزيز عيد، وكانت الرواية تحتوى على ثلاثة أدوار نسائية، البنت والأم والحفيدة، وكانت الفرقة تضم ست ممثلات كلهن سوريات مسيحيات وجميعهم فى سن الأربعين فما فوق ماعدا واحدة فقط فى سن الشباب، وعهد عزيز عيد إليها بدور البنت، وعهد دور الأم إلى أخرى، وتبقّى أمامه دور الجدة العجوز فرفضن جميعًا أن يمثلنه! وكان الرفض بسبب عدم رغبتهن القيام بدور سيدة عجوز أمام الجمهور، وهنا فكّر عزيز عيد فى إسناد الدور لتلك الفتاة الصغيرة التى تأتى له تشاهد المسرحيات بين الحين والآخر. وتحكى «فاطمة اليوسف» عن تجربتها الأولى فى كتابها «ذكريات» قائلة: ترك عزيز عيد المسرح أسبوعًا كاملًا تفرّغ فيه لتدريب تلميذته الصغيرة وبذل معها جهدًا لم يبذله مع الكثيرين. وجاء اليوم العصيب وارتفع الستار ودخلت الفتاه الصغيرة تمثل دور الجدة فى سن السبعين، وكان عزيز عيد نفسه أول من فوجئ بالنجاح الباهر، والواقع أن نجاح الفتاه الصغيرة جاء طبيعيّا إلى حد بعيد، فصوتها خافت بلا تصنُّع وهو يرتعش ويتهدّج من فرط خوفها وارتباكها، والثياب ثقيلة عليها، والأضواء ترهبها، فهى تمضى على المسرح متعثرة مرتجفة تتوكأ على عصاها.. وتبدو فى النهاية - وتحت الماكياج- كأنها جدة فى السبعين حقّا راسخة القدَم فى دورها! ومن تلك اللحظة بدأ «عزيز» ينظر إلى فتاته الصغيرة على أنها فنانة حقّا، لا تتحرك إلا بمشورته ولا تنفصل عنه أبدًا. وقد تقدّمت الأيام بفتاتنا الصغيرة وأصبحت سيدة شهيرة مرموقة ولكنها ظلت حافظة لجميل هذا الأستاذ العظيم حتى مات، رُغْمَ كل ما سبَّبَه لها هذا العِرفان من متاعب. انتهت قصة أول دور تقوم به الفنانة «فاطمة اليوسف»، ولكن الملاحَظ من مذكراتها التى تحكى فيها عن أيامها فى الفن قبل أن تولى قبلتها شطر الصحافة أنها كانت من عشاق عزيز عيد؛ لأنها حكت فى مذكراتها عنه وعن علاقته بجورج أبيض أكثر مما حكت عن نفسها.. واللافت أن تلك المذكرات منقوصة بشكل ما وليس هناك ترتيب للأحداث، وهى نفسها مَن اعترفت بذلك فى مقدمة تلك المذكرات التى أهدتها لابنها الحبيب «إحسان عبدالقدوس» حين كتبت له: إليك يا بنى أهدى هذه الذكريات «الناقصة»- كما تقول- وأنك لتعلم أن من الأشياء ما يصعب على المرء أن يقوله أو يوضّحه، وإنه ليكفى أن تكون عالمًا بما فى هذه الذكريات من نقص؛ لأطمئن إلى أنك سوف تكملها ذات يوم». نعود مجددًا إلى قصة «فاطمة اليوسف» مع الفن حيث توالت المسرحيات واختار رواية ساخرة للكاتب الفرنسى «فيدو» بعنوان «يا ست متمشيش عريانة»، وتوقّع حينها الجمهورُ أن تقدّم البطلة «فاطمة اليوسف» دورَها فى ملابس غير لائقة نسبة إلى اسم المسرحية، ولكنهم وجدوا أن ملابسها محتشمة ولا يوجد خروج عن العادات والتقاليد العامة. وفى أحد أيام الراحة قرّرَت الفنانة الصاعدة «فاطمة اليوسف» أن تذهب إلى رأس البر فى إجازة، وقررت أن تنزل البحر مرتديه «بيجاما» طويلة ولم تكن تدرى أن هذا التصرُّف سيثير فى وجهها عاصفة من الانتقادات الكثيرة التى تؤدى إلى فصلها من الفرقة! وطلب «طلعت باشا حرب» حينها الاعتذارَ عمّا بدَرَ منها، ولكنها رفضت الاعتذارَ وقبلت الفصل من الفرقة بدلًا من أن تعتذر على نزولها البحر مرتدية «بيجاما»! وظلت العلاقة متوترة بين «طلعت حرب» و«فاطمة اليوسف» طيلة سنوات عدّة حتى عادت المياه إلى مجاريها فيما بعد. حكاية البطولة مع موسيقار الأجيال! كان أول لقاء يجمع بين الفنان الصاعد «محمد عبدالوهاب» والفنانة الناشئة «فاطمة اليوسف» فى فرقة عبد الرحمن رشدى، الذى ضم «عبدالوهاب» للفرقة وكان شابّا ضعيف البنية نحيلا صغيرًا، وكانت الفرقة تمثل رواية «الموت المدنى»، وكانت «فاطمة اليوسف» تمثل دور بنت صغيرة، وكانت تمثل دور أمّها ممثلة أخرى اسمها «جميلة»، ثم حدث أن مرضت جميلة وقرر عبدالرحمن رشدى أن يمثل محمد عبدالوهاب دور البنت الصغيرة وأن تكون فاطمة اليوسف أمّه.. أو بالأحرى أمّها! ! وفعلا ألبسوا محمد عبدالوهاب فى أول دور تمثيلى له فستانًا رشيقًا وهو الفستان نفسه الذى كانت الممثلة الناشئة تؤدى به الدور، ووضعوا على رأسه شعرًا طويلا مستعارًا.. وكان الفشل حليفهما هما الاثنين- هكذا تروى «فاطمة اليوسف» فى مذكراتها. «روزا» ويوسف وهبى ثم تنقلنا «فاطمة اليوسف» لفرقة رمسيس وانضمامها لها بصحبة عزيز عيد الذى كانت مثل ظله وكيف أن أجرَها ارتفع إلى 25 جنيهًا، وكان أعلى أجر فى الفرقهةحينها 30 جنيهًا، وكان «حسين رياض» بنفسه لا يزيد راتبه على ال15 جنيهًا، وبدأ نجم الفنانة الناشئة يعلو شيئًا فشيئًا حتى أصبحت من أهم الممثلات حينها فى فرقة رمسيس بقيادة الفنان الكبير يوسف وهبى، ولكن دائمًا ما تأتى الرياحُ بما لا تشتهى السفنُ؛ حيث بدأ الفشل يزحف على فرقة رمسيس مع بداية الموسم الثالث لها وقررت الفرقة النزول اتباعًا لنظرية «الجمهور عايز كده».. وبالفعل اتخذت الفرقة تقدّم مسرحيات باللغة السوقية والعامية حتى اختلفت «فاطمة اليوسف» مع يوسف وهبى بسبب مسرحية «الذبائح» المأخوذة عن رواية بالاسم نفسه لمؤلف اسمه «أنطون يزبك». وكانت هذه الرواية سبب الفراق بين الممثلة والأستاذ، ثم سافرت بعد تركها لفرقة رمسيس إلى باريس فى عطلة لمحاولة إعادة ترتيب أوراقها وخططها المستقبلية، وأمّا عن الفرقة فاستمرت على النهج نفسه حتى توالت عليها الضربات والانشقاقات من الداخل بين الممثلين والممثلات، حتى إن «محمد التابعى» - وكان صحفيّا متخصصًا فى النقد الفنى- كتب مقالا مطولا فى عام 1925م- وهو نفس عام إصدار مجلة «روزاليوسف»- ينتقد فيه هذه المسرحية والأسلوب الذى اتخذته فرقة رمسيس فى التمثيل التجارى. قصة اعتزال لم تُرْوَ! لم تحكِ لنا «فاطمة اليوسف» قصة اعتزالها الفن ولكنها روت حكاية بليغة.. تقول: وفى باريس تلقت فنانتنا- لاحظ أنها تحوّلت من وصفها بالممثلة الناشئة إلى فنانتنا- رسالة من الأستاذ محمد التابعى يدعوها إلى العودة؛ لأن «نجيب الريحانى» يكوّن فرقة للتمثيل الدرامى ويريد أن يعهد بالبطولة إليها. وأرسل إليها مع الخطاب عَقدًا مكتوبًا لتوقّعه، وعادت الفنانة وانضمت لفرقة الريحانى ولكنها لم تبقَ فى الفرقة أكثر من أسبوعين. واعتزلت فنانتنا المسرح ومضت تسع سنوات حتى جاءت سنة 1943م ووقع حريق كبير التهم قرية محلة زياد وكان الحريق كارثة أليمة، شمل الحزن القُطر المصرى كله وتسابق الناسُ للتبرع لإعادة بناء القرية، ودعا «مصطفى النحاس» كل أنصاره إلى التبرع والمساهمة وكانت فنانتنا من أنصاره المقربين، فقررت أن تمثل «غادة الكاميليا» ليلتين متتاليتين يخصص دخلهما لمساعدة القرية المنكوبة وكانت تلك هى المرة الأخيرة لفنانتنا على خشبة المسرح! بَيْدَ أنّ الست «روزا» كانت طيلة الوقت تحكى عن نفسها باسم الممثله الناشئة دون أن تذكر اسمها وصفتها، والعجيب أن الجزء الثانى من مذكراتها الذى حمل عنوان «أيام الصحافة» كانت تحكى عن نفسها بوضوح دون مواربة رُغم أنها لم تذكر كلما «أنا» قط طيلة حكاياتها عن أيام الفن، فهل كان ذلك بسبب توهج «روزا» الصحفية التى أصبحت أشد لمعانًا وبريقًا من «روزا» الممثلة.. الإجابة بالتأكيد قد تحتاج أن نحكى عن أيامها فى الصحافة.