شكّل خطابُ الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون يوم الجمعة 2 أكتوبر الجارى، مَحطة فاصلة فى مسارات عدة للجمهورية الفرنسية، لعل أبرزَها هو ما يتعلق بالعلمانية الفرنسية على ضوء أن القيم الجمهورية والمدنية كانت من أهم بُنات أفكار عصور الإصلاح والتنوير والنهضة فى فرنسا على التوالى. الرئيس الفرنسى الأصغر سنّاً فى تاريخ الجمهوريات الفرنسية الخَمس، دعا إلى صحوة جمهورية بوجه الانعزالية الإسلامية، مشيراً إلى أن الراديكاليين الإسلاميين فى فرنسا يسعون إلى تأسيس مجتمع موازٍ وإسلام انفصالى عن المجتمع والدولة الفرنسية، وأن هذا «المجتمع المضاد» لديه أفكار لا تنسجم مع المجتمع الفرنسى فيما يتعلق بالمدارس الإسلامية أو التعليم المنزلى الذى استغل جائحة «كورونا» من أجل تحويل المنازل إلى مفارز للإسلاميين المتطرفين عبر تعليم موازٍ دينى متطرف. مشيراً إلى أن التعليم المنزلى أدى إلى «تسرب الأطفال من المدارس»، و«تطوير ممارسات رياضية وثقافية» خاصة بالمسلمين و«التلقين العقائدى وإنكار مبادئنا على غرار المساواة بين الرجال والنساء». خطاب ماكرون ضد «الانفصاليين الإسلاميين» و«الانعزالية الإسلامية» يأتى فى وقت يُعتبر فيه دين الإسلام هو الدين الثانى فى الجمهورية الفرنسية، وتُعد علمانية الدولة من أخطر القضايا الحساسة لدى الفرنسيين عَقب إقرار قانون عام 1905م الذى رفع يد الدولة عن جميع المؤسّسات الدينية فى مقابل عدم تدخُّل تلك المؤسّسات فى العمل السياسى والحياة العامة. ماكرون حاول توصيف المشكلة وفقاً لرؤيته قائلًا: «الإسلام دين يعيش أزمة اليوم فى جميع أنحاء العالم»، و«لا أود أن يكون هناك أىّ التباس أو خلط للأمور»، لكن «لا بُدَّ لنا من الإقرار بوجود نزعة إسلامية راديكالية تقود إلى إنكار الجمهورية»، و«هنالك محاولات لاستخدام الدين فى بناء مجتمع موازٍ فى المدن والضواحى الفرنسية». لكنه شدّد فى الوقت نفسه على أنه لا ينبغى الخلط بين الإسلام والتطرف الإسلامى، متحدثاً عن رغبته فى ترسيخ «إسلام مستنير» فى بلاده. واعترف ماكرون أن السُّلطات الفرنسية تتحمل قسْمًا من المسئولية، إذ سمحت بتطوير ما أسماه «ظاهرة تحوُّل الأحياء إلى معازل»، وقال: «قمنا بتجميع السكان حسب أصولهم، لم نبذل جهدًا كافيًا فى سبيل الاختلاط، ولا ما يكفى من إمكان الانتقال الاقتصادى والاجتماعى، لقد بنوا مشروعهم على تراجعنا وتخاذلنا». إجراءات ماكرون ولم يكشف ماكرون عن مجمل الإجراءات المزمع اتخاذها، ولكن الرئيس الفرنسى كشف بعضَ البنود فى خطابه، مشيراً إلى إلزام أى جمعية تطلب إعانة عامة بالتوقيع على ميثاق العلمانية، وتعزيز الإشراف على المدارس الخاصة التابعة لطائفة دينية، وفرض قيود صارمة على التعليم المنزلى. مشيراً إلى أن «التعليم فى المنزل سيكون من بداية العام الدراسى 2021م مقتصراً بشكل صارم على المتطلبات الصحية على وجه الخصوص» و«كل أسبوع، يبلغ مديرو المدارس عن حالات أطفال خارج النظام التعليمى بالكامل، كل شهر نغلق مدارس يديرها غالبًا متطرفون دينيون»، متحدثاً عن أولياء أمور يرفضون مشاركة أطفالهم فى دروس الموسيقى أو السباحة وتستهدف تلك القوانين 50 ألف طفل يدرسون حالياً من المنازل فى فرنسا. وأضاف أنه سيتم تضمين القانون «آلية تمنع الانقلاب» لمنع استيلاء متطرفين على المساجد، و«وقف التأثيرات الأجنبية على المؤسّسات الإسلامية فى فرنسا». ووافقت الحكومة عام 1977م على برنامج سمح لتسع دول بإرسال أئمة ومُعلمين إلى فرنسا؛ لأن الدولة لا تستطيع وفق قانون إقرار علمانية الدولة عام 1905م توفير رجال دين أو القيام بأى نشاط دينى، لذلك تركت المهمة لدول أجنبية!. ويتلقى المعلمون والوعاظ الأجانب رواتب من حكومتهم الأصلية، ويستخدمون لغتهم الأم وليس اللغة الفرنسية، وهو ما أدى إلى وجود مدارس تركية ومغربية وجزائرية داخل فرنسا!. وشاركت أربع دول هى «الجزائر وتونس والمغرب وتركيا» فى البرنامج الحالى، الذى يستهدف 80 ألف طالب كل عام. وقال ماكرون: «لن أسمح لأى دولة، مَهما كانت، بأن تغذى الشّقاق، لا يمكن أن تجد القانون التركى مطبقاً على تراب فرنسى، هذا لا يمكن أن يحدث». وأضاف: «نحتاج إلى معرفة من أين تأتى الأموال، ومَن الذى يحصل عليها، وماذا يفعل بها؟». وستدرب «الجمعية الإسلامية للإسلام فى فرنسا (AMIF)» التى أسّسها ماكرون فى يناير عام 2019م واعظين ومعلمين يتحدثون الفرنسية وعارفين بالقانون الفرنسى. وكان ماكرون فى فبراير 2020م قد أصدر قانونًا ينهى نُظم الأئمة المبتعثين فى غضون أربع سنوات، ويوجد من هؤلاء الأئمة 300 ترسلهم تركيا والمغرب والجزائر إلى المساجد الفرنسية، فضلاً عن جامعى الزكاة خلال شهر رمضان. الإعلام الفرنسى عنوَن خطاب ماكرون باعتباره رؤية الرئيس الفرنسى ل «الإسلام الفرنسى» (l'islam de France) يدعو إلى «إسلام يتوافق مع المبادئ العلمانية وقيم الجمهورية الفرنسية». وتتوافق هذه المعالجة الصحفية مع تقرير أصدرته مجلة «ذا أتلانتك» الأمريكية عام 2018م أشارت فيه إلى خطط ماكرون لتدريب الأئمة فى فرنسا، تماشياً مع العلمانية وبالاعتماد على القيم الثقافية، وليس على النصوص الدينية، من أجل إنشاء جيل من الأئمة لإخراج منتَج عنوانه «صُنع فى فرنسا». الأمن الفرنسى يحذر من الإسلاميين وفى يوليو 2020م حذّر تقريرٌ أصدرته وزارة الداخلية الفرنسية من تنامى نشاط جماعات الإسلام السياسى يتقدمهم تنظيم الإخوان وتليه جماعات سلفية تدّعى أنها غير عنيفة وتحاول التأثير على المجتمع. وليس الإسلامُ السياسى السُّنى ما يقلق باريس؛ حيث حققت السُّلطات الفرنسية فى سبتمبر 2020م مع مسئولين سابقين فى جمعية الزهراء الشيعية التى أغلقتها السُّلطات فى 2018م وجمّدت أرصدتها بسبب تورطها فى أنشطة إرهابية. وتأسّست جمعية الزهراء الإسلامية الشيعية عام 2005م بدعم من إيران لنشر الإسلام السياسى الشيعى فى فرنسا تحت ستار الأنشطة الاجتماعية والفعاليات الدينية. توطين الإسلاميين فى فرنسا وبعيداً عن المشاحنات النخبوية التى شهدتها فرنسا على ضوء خطاب ماكرون، ما بين اليسار الليبرالى والاشتراكى والتقدمى والشيوعى الرافض لإجراءات ماكرون على ضوء أن الفرنسيين من أصول عربية ومسلمة عادة ما يصوّتون لليسار الفرنسى، أو مفارقة أن الإسلاميين الفرنسيين الرافضين للأفكار المدنية قد اتهموا ماكرون بمخالفة أفكار الدولة المدنية والحرية العبادة والتعبير وصولاً إلى بعض الجماعات الإرهابية التى بُنيت أفكارها على ثقافة الكراهية، ولكنها اتهمت ماكرون بالإسلاموفوبيا فى تناقض صارخ. الواقع أن فرنسا تعيش أزمة حقيقية بالفعل على ضوء تضخم مجتمعات الإسلاميين المتطرفين أو الراديكاليين وسيطرتهم على الجاليات العربية والمسلمة فى فرنسا، حتى أصبحت فرنسا لا تواجه مجتمعًا موازيًا أو حركة انفصالية إسلامية كما وصفها ماكرون، بل تمردًا إسلاميّا صامتًا سوف ينفجر فى وجه فرنسا فى أى لحظة. والحاصل أن الغرب حينما فكّر فى تأسيس طائفة إسلامية موالية له فى سنوات الحرب الصليبية الأولى، لم يُطبق تلك الفكرة بشكل عملى ومدروس إلا على يد بريطانيا فى القرن الثامن عشر حينما أسّست «إسلام سياسى» مواليًا لبريطانيا وينفذ أجندتها فى الدول والمجتمعات المسلمة، وقد انتشر الإسلام السياسى البريطانى كالنار فى الهشيم فى الإمبراطورية الفارسية والعثمانية والهندية المسلمة وصولاً إلى الجزيرة العربية ومصر. وحاولت دول غربية أخرى استغلال الإسلام السياسى الموالى للغرب فى أجندتها الغربية، ولكن الأكثر نجاحاً كانت ألمانيا القيصرية فى القرن التاسع عشر حينما وضعت خطة لاستخدام الإسلام السياسى بالتعاون مع الدولة العثمانية ضد الاحتلال البريطانى والفرنسى للولايات العثمانية الناطقة باللغة العربية فى شمال إفريقيا. ولكن الغرب قرر استخدام الإسلام السياسى عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية داخل القارة الأوروبية هذه المرّة، وذلك من أجل تصعيد قيم العولمة والقرية الصغيرة الواحدة وسيطرة شبكات المصالح والرأسمالية الدولية على المجتمعات فإنه يجب أن تفقد كل دولة خصوصيتها القومية والوطنية والثقافية وأن تتحول الدول إلى مجرد فيدراليات صغيرة تلعب فيها الحكومات دور «عمدة القرية» دون أن يكون لها سيادة حقيقية. وفى هذا المضمار كان يجب ضرب الروح القومية لدى الأمّة الجرمانية والبروسية فى ألمانيا والفرنكوفونية فى فرنسا، ومن أجل ضرب تلك الثقافات القومية كان يجب حقن وتوطين قوميات وثقافات أخرى فى هذه المجتمعات تحت مسمى التعددية وقبول «الآخر» ودولة متعددة القوميات والشعوب أو الدولة الكوزموبوليتانية. وكما استخدم الغرب مراراً الإسلاميين لضرب اليمين القومى أو اليسار الموالى للسوفييت أو الخارج عن السيطرة، كانت الفكرة فى حقن المجتمع الأوروبى عموماً وألمانياوفرنسا على وجه التحديد بفيروس الإسلام السياسى هو فرملة صعود الشعور والتيار القومى والخصوصية الوطنية والثقافية لتلك الشعوب، وترهيب أوروبا والغرب بأن رفض هذا التوطين ما هو إلا امتداد للفاشية الإيطالية والنازية الألمانية وإسلاموفوبيا غربية تمجد الرجل الأبيض على حساب الأعراق والديانات الأخرى.
صعود ماكرون رُغم أن سؤال النفوذ القطرى والإسلاميين كان السؤال المُلح فى الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017م والإجابات القوية التى قدمتها مارين لوبان وحتى فرنسوا فيون مرشح الحزب الديجولى مقابل الأداء الباهت للاشتراكى بونوا أمون؛ فإن ماكرون التزم الصمت فى حملته الانتخابية حيال النفوذ القطرى وتوطين الإسلام السياسى فى فرنسا. ولقد ظن المراقبون أن ماكرون سوف يكون فتى النيوليبرالية المدلل ومندوب العولمة الجديد فى الإليزيه على ضوء أن اليسار الأوروبى قد أصبح مجرد جناح يسارى للعولمة، بل إن ماكرون لم يكن مجرد قيادى شاب فى وزارة الرئيس الاشتراكى فحسب، بل نفذ أجندة إصلاحات نيوليبرالية اقتصادية حينما كان وزيراً للاقتصاد والصناعة. ولكن ماكرون ما أن دخل الإليزيه حتى كشف عن وجه آخر يقترب بشدة من اليمين القومى الفرنسى، ورُغم التلاسُن مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب زعيم اليمين القومى الأمريكى؛ فإن التقارب فى رؤى وسياسات الزعيمين لم يخف على قادة أوروبا الذى كانوا يسعون إلى تأهيل ماكرون للعب دور الزعيم الأوروبى الأقوى على ضوء تنحى ميركل عن المستشارة الألمانية عام 2021م. وعلى ضوء موقف ماكرون القوى من النفوذ القطرى، ولاحقاً مع النفوذ التركى حينما تم تجميد الدور القطرى وتحركت تركيا فى فرنسا عبر مديرية الأوقاف التركية فى محاولة لصنع طابور خامس تركى فى فرنسا عبر المسلمين والعرب، إضافة إلى مواقف ماكرون القوية حيال المشروع التركى واصطفافه مع مصر فى محور شرق المتوسط وغاز المتوسط ودعمه اليونان وقبرص بوجه البلطجية السياسية التركية وأخيراً تأسيسه تجمع أوروبا الجنوبية أو الدول الأوروبية المطلة على البحر المتوسط من أجل رعاية تحالف إقليمى يحمى الغاز الأوروبى ويفرمل التطاول التركى؛ فإن ماكرون فى واقع الأمر بلور شخصية رئاسية فرنسية همّها الأول فرملة الإسلام السياسى أمام محاولاته اجتياح أوروبا والمجتمع الفرنسى بدعم من بعض القوى الغربية. أدرك ماكرون كارثية إيواء الإسلام السياسى فى حظائر السياسة الغربية وأن دويلات الإسلام السياسى فى قطروتركياوإيران قادرة على التهام فرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى طالما صمتت الحكومات الغربية على هذا النفوذ. مستقبل حرب ماكرون ولقد حاول بعض ساسة فرنسا إخراج «شخصية ماكرون» من إطارها، بالقول إن ماكرون يحاول بخطابه الأخير مغازلة اليمين القومى وسَحب الشعبية من مارين لوبان على ضوء أن كليهما سوف يخوض الانتخابات الرئاسية عام 2022م، إلى جانب سعى ماكرون إلى حسم الانتخابات البلدية خلال الأسابيع المقبلة، إضافة إلى أنه أقال رئيس الوزراء إدوارد فيليب فى 3 يوليو 2020م بعد أن كشفت التقارير أن شعبية فيليب تخطت شعبية ماكرون وأتى الأخير بالباهت جان كاست لرئاسة الوزارة. ولكن هذه الحُجج يضربها نهج ماكرون منذ يومه الأول حيال تمدد الإسلام السياسى داخل أوروبا أو إقليميّا عبر تنظيم الحَمَدَيْن فى قطر وتنظيم العثمانيين الجُدد فى أنقرة؛ لتصبح الحقيقة أن فرنسا اليوم هى أولى جبهات أوروبا فى حربها للتدخل من الانفصالية الإسلامية وتوطين الإرهاب وتدمير الجاليات العربية والإسلامية وتمدد النفوذ التركى والإيرانىوالقطرى. ويبقى السؤال: هل يرضى الغرب المتحالف مع الإسلاميين عن هذا التوجه، وهل ترضى دوائر العولمة التى ترى فى الإسلام السياسى جناحًا إسلاميّا للعولمة عن إقصاء المشاريع الإسلامية بهذا الشكل الحاسم، أمْ تلجأ دوائر الرأسمالية الدولية إلى إقصاء ماكرون من رئاسة حزبه والدفع بمرشح بديل عن حزب الجمهورية إلى الأمام فى انتخابات الرئاسة الفرنسية 2022م؟.. هذا هو سؤال اللحظة فى فرنسا على وقع حرائق الكاتدرائيات التاريخية المفتعلة والأيدى الخارجية التى تفتعل حراك السترات الصفراء وغيرها من المشاكل الداخلية لفرنسا التى تعانى اليوم من فوضى سياسية هى الأخطر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م.