تُمثل الملابسُ فى الثقافة الشعبية أهمية كبيرة، ليس لدورها المعروف فى كساء البَدَن أو الزّينة، لكنها تُعتبر رسائل من عالم آخر، لها جانبٌ روحانى مُتصل بالمُعتقدات والأفكار المتراكمة منذ عصور؛ لتصبح وكأنها سجل تاريخى يحمل نقوشَ الأجداد، أو جدارية فى إحدَى المقابر الفرعونية تحكى حكاية عصر كامل. فى كتاب «الأزياء فى الثقافة الشعبية» الصادر مؤخرًا عن الهيئة العامة للكتاب، ضمْن سلسلة الثقافة الشعبية، ترصد الباحثة «علا الطوخى» أن العادات والتقاليد والبيئة والطبيعة أدت لخروج الزّىّ الشعبى المصرى بجَماله الذى يحمل العديد من الدلالات والرموز المرتبطة بالبيئة والطبيعة المصرية باختلاف العصور، بما يعكس حضورَ الإنسان وإحساسه بها. ومن خلال دراسة ميدانية استمرت ل3 سنوات، تناولت الباحثة الملابس الشعبية فى الدلتا باعتبارها رسائل منقوشة لمعتقدات ودلالات باقية ومُتجذرة فى ثنايا التاريخ، وعرض أصول ذلك الزّى ومَرجعيته فى التراث. غلاف الكتاب فى تصميمه البسيط يوضح تصورًا شاملًا عن الفكرة الرئيسية للبحث؛ حيث يصور فلاحة مصرية فى عصرنا الحديث بجوار أخرى من عصر الفراعنة.. ما يجعل عينك تسارع لاكتشاف أوجه الاختلاف والتشابه بينهما.. وهو ما تجيب عنه صفحات الكتاب من خلال عَقد مقارنات عدة لمعرفة مراحل تطور الزّىّ الشعبى. التغير الكبير بين الجيل القديم الذى يتمسك بنمَط أزيائه المميز وبين الجيل الحالى.. من تبرؤ الجيل الجديد من أهل الريف، واستنكار لمجتمعهم بكل ما يحوى، ورغبته فى الانتماء إلى المدينة.. كل ذلك دفع الباحثة لإكمال دراستها للمساهمة فى «التعرف على جذور ما نعتاده ونعتقد به وما نرتديه قبل أن ينجرف أو تندثر تمامًا». أزياء التمائم ارتبط الزّىّ الشعبى باعتقاد الإنسان وتصوّراته عن الحياة والطبيعة من حوله، إذْ مثلت الزخارف والنقوش على فساتين النساء فى الدلتا تمائم وتعاويذ للحماية من العين الحاقدة، وحتى الخرَز والترتر والأزرار الصَّدفية، تهدف لتشتيت انتباه الأعين من خلال تأثيراتها الحركية مع الضوء. واعتادت الطبقات الشعبية ربط عُقدة سحرية فى طرَف الثياب للحماية من العين، وهو ما فعله المصرى القديم أيضًا، ولم تكن رقع الثياب دليلًا على التصوُّف أو الفقر فى الثقافة الشعبية فقط، لكنها شاركت التمائم فى دورها، إذْ شاع أن تقتنى الحامل ملابس قديمة لطفلها من الأهل والجيران؛ اعتقادًا أن الطفل يحيا عُمرًا أطول عندما يرتديها، كما تَعمَّد بعض الأمهات أن تُلبس طفلها فى شهوره الأولى ملابس مُهلهلة أو تُلبس الذكر ملابس الأنثى اتقاءً للعين. لم تقتصر علاقة الملابس بالمُعتقدات على مجرد مجموعة من الرموز فقط، إذ ارتبط تفصيل الملابس بأيام مُعَينة فى الأسبوع، إذْ تتجنب الكثير من الطبقات تفصيل وحياكة الملابس يوم الجمعة، وقديمًا كانت النساء تتجنب الحياكة أيام الثلاثاء لأنه للوارث والأربعاء لأن به ساعة نحس بحسب ما اعتقدن، ومن تلك المعتقدات التى ارتبطت بتفصيل الملابس ولاتزال أصداؤها موجودة إلى الآن عدم فتح المَقص وغلقه عدّة مرّات اعتقادًا أن ذلك يجلب الفقر. التأثر بالموقع الجغرافى شكلت الأزياء الشعبية انعكاسًا واضحًا للجغرافيا مثلما هو الحال مع الأفكار والمعتقدات، ففى قرى الدلتا نجد النقوش على الملابس مستلهَمة من الطبيعة من أشكال طبقات النباتات المُدرجة، وزخارف نباتية مستلهَمة من البيئة الزراعية ومَجرَى النيل والوادى. اختصرت الرموز النباتية على الملابس الكثير من المعانى والمعتقدات الشعبية حول الخير والنماء، كرمز للحياة المتجددة، كما استخدمت بغرض جلب الرزق والخصوبة. انعكاس ُالطبيعة على الملابس والأزياء يؤكد أهميتها باعتبارها جزءًا من التاريخ؛ مَهما كان مَظهرها بسيطًا أو ساذجًا للبعص، إلّا أنها تحمل معنى ما يخصها وحدها، ويجعلها متفردة عن دونها؛ لأنها تخلد نماذج مُعينة من الثقافة. دلالة الأشكال الهندسية كانت الأشكال الهندسية التى امتلأت بها الملابس من المثلث والمربع والدائرة، تُعبر جميعها فى تداخُلها مع بعضها البعض عن تمائم لجلب الحظ والرزق وكأنها حديث بين الإنسان والطبيعة، وترمز الخطوط العالية فى الزّىّ الشعبى على طلب إدرار ثدى المرأة المُرضعة باللبن، بينما تُعبر الخطوط الأفقية عن الراحة والهدوء. استخدمت الخطوط المُشعة للتعبير عن الإحساس بالقوة والشعور بالأهمية والنشاط، أمّا الخطوط المُنكسرة فاستخدمت بأوضاع متداخلة للحماية من شرور العَين. لشكل المربع فى الثقافة الشعبية رمزية عن التوازن والقدسية؛ حيث اعتبره الأجداد أصل الأشكال الهندسية التى توحى بالحركة والحيوية، لكنه يمتاز عن جميع الأشكال الهندسية فى أنه شكل متوازن حول نقطة المركز، ويستخدم على الملابس كتميمة لجلب الرزق، بينما يُعبر المثلث فى الأزياء الشعبية عن ثلاثية «حُسن الظن- فصاحة اللسان- فِعْل الخير» ودورة الحياة «الولادة- النضج-الموت»، ويُستخدم المثلث فى تزيين الملابس بهدف جلب الغرض والحماية، كما يعتقد أنه رمزٌ للخصوبة والإنجاب ما يجعل استخدامَه واضحًا بكثرة فى ملابس الأمهات والأطفال. كان للزخارف العقائدية موقعُها فى تزيين الملابس والأزياء الشعبية، فنجد رسمة العروسة التى تمثل الحياة والأمل عند المرأة الريفية، والتى تزين الملابس لدرء العين أيضًا، وتنتشر العروسة والكَفّ على كثير من الأزياء الشعبية كتمائم، كما يستخدم البعض نقوشًا على شكل مَسجد ومئذنة كرمز للتقوَى والإيمان والاتصال المباشر بآل البيت، فى حين يستخدم الأقباط الصليبَ فى تزيين أزيائهم كرمز روحى لمعاناة المسيح. لا تخلو الملابسُ الريفية من نقوش الرايات والأعلام باعتبارها إشارة لأضرحة الأولياء والقبور؛ اعتقادًا أنها تحمى من العفاريت والأشباح، كما يرتبط نقش السيف بإبعاد الأمراض الشيطانية. سجل تاريخى تأثرت الأزياء بالأحداث والمتغيرات السياسية، مع تواصل المصريين مع الحضارات المجاورة، بداية من أهل الحبشة والجزيرة العربية ودخول الإسلام مصر، وغيرها من الأحداث، تغيرت طبيعة الأزياء، وحدثت طفرات كبيرة فى شكل الملابس الريفية بين الطبقات المختلفة. كانت الملابس المصرية متطابقة فى تصميمها حد التشابه، حتى نهاية القرن الثامن عشر، فالاختلاف الوحيد بين الطبقات الاجتماعية يتمثل فى كمية التطريز ونوعية القماش المستخدمة، أو حتى أطوال الملابس. فى فترة حكم محمد على كان للثقافة الفرنسية تأثير كبير على الأزياء الشعبية، حيث أثر الفنانون الفرنسيون فى شتى مناحى حياة المصريين، ومن ضمنها شكل الزى وطبيعته، لكن أغلب تلك التغيرات لم تؤثر بشكل جذرى على طبيعة الزى فى الريف، وظهرت بقوة فى أزياء الطبقات العليا من المجتمع. ساد فى ذلك الوقت أشكال جدية من الفساتين، بأكمام منتفخة ووجود كسرات، كما استخدمت الكرانيش بكثرة، إضافة لانتشار ظاهرة التطريز بشرائط عرضية فى نهاية الفستان، باستخدام الأقمشة المطرزة. تنوع تأثير الثقافات المختلفة على الأزياء المصرية، خلال القرن التاسع عشر، بين التأثير الفرنسى والعثمانى، على طبيعة الألوان المنتشرة وقصات الفساتين وحتى أنواع التطريز والتصميم الخارجى، كما استحدثت تصاميم جديدة اعتمدت على المزج بين الأصل التراثى والرمزى للثياب والانفتاح على الثقافات الموجودة وقتها. ويرصد الكتاب أوجه التشابه بين أزياء الريف المصرى والفساتين الفرنسية، فى استخدام الأقمشة المطبوعة، التى كان شكلها مستحدثًا فى ذلك الوقت، إضافة لاستخدام نفس تفاصيل الملابس مثل فتحة الرقبة وأشكال الأكمام المتسعة. وتكشف المقارنة عن طبيعة الزى الريفى فى اكتساب تصاميم جديدة من دون التماهى معها بشكل كامل، من خلال تعديلها لتناسب الطبيعة المصرية ومهام المرأة التى تختلف كليًا عن نظيرتها الفرنسية، ما أدى لابتكار تصاميم مختلفة كليًا. لم يمحِ تأثر الأزياء الشعبية بالثقافات والأذواق المختلفة شخصيتها الأصلية، فحتى بعد التغيير الكبير فى شكلها المعتاد، احتفظت بطابعها الخاص، بإضافة بعض الموروثات المصرية ذات الطابع الرمزى والعقائدى، وأصبح ارتباطها الوثيق بالمكان بمثابة سجل حى ومتجدد لخبرات الأجداد وتقاليدهم فى فترات زمنية مختلفة.