أحدثت التقارير العالمية الكثير من الجدل حول وضع الاقتصاد العالمى والتخلى عن عدد كبير من العمالة فى العالم، بين من يتوقع استمرار زيادة معدلات البطالة، بسبب الانكماش الواسع الذى ضرب الاقتصاد العالمى، ومن يكشف عن خلق فرص عمل جديدة خلال العام الجارى. كان أكثر تلك التوقُّعات سودواية ما صدر عن مجموعة بوسطن الاستشارية التى أشارت إلى إمكانية فقد نحو 2 مليار شخص وظائفهم خلال هذا العام، بسبب تداعيات فيروس كورونا.
فى الوقت نفسه، كشف تقرير الوظائف الأمريكى الأخير على عكس المتوقع عن توفير أكثر من 2.5 مليون وظيفة خلال شهر مايو الماضى، ما يعطى بصيصًا من الأمل فى تجنُّب العالم لهذا السيناريو الكارثى.
وفى هذه السطور نحاول أن نكشف بعض تفاصيل تلك التقارير، التى أحدثت جدلًا كبيرًا فى الأوساط الاقتصادية العالمية منذ صدورها. البطالة العالمية
كشفت الدراسة التى أجرتها مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG) عن أن نحو 2 مليار شخص فى العالم (أكثر من نصف القوى العاملة) مهددون بفقدان وظائفهم أو الانتقال إلى العمل بدوام جزئى هذا العام، نتيجة التداعيات الاقتصادية لتفشى فيروس كورونا، ما يجعلها من أكثر الدراسات الصادمة التى تناولت مستقبل سوق العمل خلال الفترة الأخيرة.
وأوضح القائمون على الدراسة أنه خلال فترة لا تتجاوز الثلاثة أشهر سيفقد واحد من كل ستة أشخاص فى العالم وظائفهم، مع تجاوز معدلات البطالة 17 % من إجمالى عدد سكان العالم، فى إشارة إلى أنه «من الصعب المبالغة فى تقدير التغيرات الجذرية فى القوى العاملة العالمية بسبب تداعيات الأزمة الناجمة عن اندلاع كوفيد- 19».
وبناء على تقديرات منظمة العمل الدولية تتوقع الدراسة أن تبلغ خسائر دخل العمالة العالمية 3.4 تريليون دولار هذا العام.
وعن القطاعات الاقتصادية التى ستشهد حالات تسريح كبيرة، توقعت الدراسة أن تشهد قطاعات التجزئة غير الغذائية والتصنيع والفنادق والمطاعم والسياحة والبناء حالات تسريح كبيرة قد تصل إلى 80 %.
وقالت الدراسة، إن تأثير أزمة كورونا على سوق العمل سيختلف بشكل كبير حسب الصناعات؛ حيث ستشهد القطاعات الأكثر تضررًا من تدابير الحجر الصحى موجات تسريح كبيرة.
كما أشارت الدراسة إلى أن أكثر من 10 % من القوى العاملة العالمية من المرجح أن تعمل عن بُعد على أساس دائم، بينما بالنسبة للعاملين فى المكاتب يمكن أن تصل النسبة إلى 30 %.
مشكلة قديمة
حملت توقعات منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة ، نفس النظرة السلبية التى كشفت عنها مجموعة بوسطن؛ حيث أوضحت فى عدة تقارير لها أن سوق العمل تنتظر مزيدًا من الانكماش خلال العام الجارى.
وأكدت المنظمة أن مشكلة البطالة ليست وليدة اللحظة التى ظهر فيها فيروس كورونا، ولكن سوق العمل العالمية كانت تعانى منذ فترة طويلة من معدلات البطالة التى خلّفتها الأزمات السياسية فى العالم بجانب الإدارة غير الرشيدة للاقتصاد العالمى من جانب القوى الكبرى.
من جانبه، قال «غاى رايدر»، مدير عام منظمة العمل الدولية، إنه فى بداية العام وقبل أن يتفشى (كوفيد- 19) فى العالم، فإن 190 مليون شخص التحقوا بصفوف البطالة.
وأضاف أنه مع الصدمة التى أحدثها الفيروس، فإن عالم التوظيف يعانى «من تهاوٍ غير عادى على الإطلاق» بسبب تأثير الجائحة والتدابير المتخذة للتعامل معها.
وأفاد تقرير للمنظمة بأنه بصرف النظر عن مكان الإقامة فى العالم وعن قطاع التوظيف، فإن الأزمة ستلقى بظلالها على القوى العاملة فى جميع أنحاء العالم، ومن المتوقع أن تؤدى أزمة كورونا إلى إلغاء 6.7 بالمئة من إجمالى ساعات العمل فى العالم فى النصف الثانى من عام 2020، أى ما يعادل 195 مليون وظيفة بدوام كامل، من بينها 5 ملايين فى الدول العربية.
ودعا التقرير إلى صياغة سياسات عند الاستجابة للجائحة تركز على تقديم المساعدة الفورية للشركات والعمال لحماية مكاسب رزقهم بما فيها الأعمال الحيوية فى القطاع الاقتصادى، خصوصًا فى القطاعات المتضررة أكثر من غيرها والدول النامية، كما سلط الضوء على الهند على وجه التحديد إذ يعمل نحو 400 مليون شخص فى وظائف غير رسمية يواجهون مخاطر الانزلاق فى الفقر، وتجبر إجراءات الإغلاق الكثير منهم على العودة إلى المناطق الريفية.
وأشار التقرير إلى أن العاملين فى أربعة قطاعات هى الأكثر تأثرًا بسبب المرض وتراجع الإنتاج: وذلك على النحو التالى قطاع الغذاء والفنادق (144 مليون عامل)، قطاع البيع بالجملة والتجزئة (582 مليونا)، قطاع خدمات الأعمال والإدارة (157 مليونا)، وقطاع التصنيع (463 مليونا)، وتشكل هذه القطاعات قرابة ال 37.5 % من التوظيف العالمى.
الانكماش الاقتصادى
وعلى مستوى الأداء الاقتصادى، الذى يعد المحرك الرئيسى لسوق العمل، فإن التقارير الأخيرة الصادرة عن المنظمات الدولية، لم تأت مغايرة لتلك النظرة أيضًا.
وذكر البنك الدولى فى تقريره الأخير بعنوان «الآفاق الاقتصادية العالمية»أن أكبر مجموعة من اقتصادات العالم منذ عام 1870 ستشهد تراجعات فى متوسط نصيب الفرد من الناتج. ومن المتوقع أن ينخفض متوسط نصيب الفرد من الدخل بنسبة 3.6 %، ليطال «الفقر المدقع ملايين الناس» هذا العام.
وتوقع البنك أن ينكمش النشاط الاقتصادى فى الاقتصادات المتقدمة بنسبة 7 % فى العام الحالى جراء الاضطرابات الشديدة التى أصابت الطلب والعرض المحليين والتجارة والتمويل.
وحذّر البنك من الاضطرابات فى خدمات التعليم وتعذر الحصول على الرعاية الصحية الأولية على خلفية الجائحة ما قد «يخلف آثارًا طويلة الأمد على تنمية رأس المال البشري».
فى السياق نفسه، قالت «غيلا بازارباسيوغلو»، نائبة رئيس البنك الدولى لشئون النمو المنصف والتمويل والمؤسسات: «تبعث هذه التوقعات على القلق البالغ، ومن المرجح أن تخلف الأزمة ندوبًا تستمر فترة طويلة، وأن تخلق تحديات عالمية جسيمة.. وشغلنا الأول هو معالجة حالة الطوارئ الصحية والاقتصادية العالمية».
وفى إطار تنبؤات السيناريو الأساسى الذى يفترض أن تنحسر الجائحة بحلول منتصف العام الجاري، سيتعافى الاقتصاد العالمى من التداعيات السلبية غير المباشرة للوباء خلال النصف الثانى لهذا العام، ولن تستمر اختلالات الأسواق المالية أمدًا طويلًا.
ومن المتوقع أن ينتعش معدل النمو الاقتصادى العالمى إلى 4.2 % فى 2021، مع تسجيل الاقتصادات المتقدمة نموًا بنسبة 3.9 % والاقتصادات الصاعدة والنامية نموًا بنسبة 4.6 %.
ووفقًا لسيناريو تدهور الأحوال، قد يهوى إجمالى الناتج العالمى بنسبة تصل إلى 8 % فى 2020، ثم يشهد تعافيًا طفيفًا فى العام التالى مسجلًا نموًا يزيد قليلًا على 1 % مع انكماش الناتج فى اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية بنحو 5 % هذا العام.
رغم من النظرة المتشائمة التى أشارت لها التقارير السابقة؛ فإن الأرقام الصادرة مؤخرًا عن التقرير الحكومى للوظائف الأمريكية تعطى بصيصًا من الأمل، لإمكانية نجاح الحكومات الكبرى فى رأب الصدع الذى طال الاقتصاد العالمى بسبب كورونا.
فبحسب التقرير، فقد أضاف الاقتصاد الأمريكى عددًا من الوظائف الجديدة بالقطاع غير الزراعى عكس المتوقع خلال شهر مايو.
وذلك بعدما استعاد الاقتصاد الأكبر بالعالم عدد وظائف بمقدار 2.5 مليون وظيفة، على خلاف التوقعات التى أشارت إلى فقد قرابة ال 8 ملايين وظيفة.
وتمثل المكاسب التى حققتها سوق الأسهم الأمريكية والعالمية، على خلفية هذا التقرير دفعة قوية للاقتصاد العالمى؛ حيث حققت سوق الأسهم مكاسب ضخمة عوضت بها بعض الخسائر التى كانت مُنيت بها، أثناء إجراءات الإغلاق التى شهدتها أسواق العالم للحد من انتشار كوفيد- 19.
كما حققت سوق النفط مكاسب قوية، بعد الإعلان عن هذا التقرير الذى يؤشر على بدء التعافى فى الاقتصاد الأكبر فى العالم، وذلك بعدما تخطى سعر الخام الأمريكى حاجز ال38 دولارًا للبرميل فيما وصل خام برنت لنحو 41 دولارًا للبرميل الواحد.