فقدتْ مصرُ - بل فقدتْ الإنسانية - منذ أيام عَلمًا من أعلام فن النحت والفنون التشكيلية عامّة «آدم حنين»، الذى امتاز بعبقريته بالرسم والنحت، فرسم على ورق البردى بالأكاسيد الطبيعية والصمغ العربى مساحات هندسية تتسم بالحيوية والليونة رُغم خشونة سطحه، التى استغلها فى إبراز بعض خصائصه الفنية.. وأيضًا صَوَّر لنا فيها رسومًا مبسطة ومتكتلة كأنها مخطوطات قصد فيها التمهد لنحتها؛ بعضها أشبه بالتمائم الشعبية، وبعضها الآخر له مذاق فرعونى دون أدنى ملامح أو مشابهة.
إذ تميز الراحل باختزال التفاصيل، وبرع فى إضافة الخطوط المستقيمة والتربيع فى الأجساد الأسطوانية بمنحوتاته.
ومع الوقت نزع أكثر إلى التجريد والرمزية.
ووفق ما رواه «حنين» بنفسه فى زيارة لمنزله ومتحفه بالحرانية؛ فإنه لا ينتمى إلى مدرسة فنية بعينها - رُغم ميله إلى التجريد - بل خَلق لنفسه مدرسة واتجاهًا فنيّا مغايرًا.. فما أن ترى منحوتة أو رسمًا إلّا وأيقنتَ أنها لآدم حنين.
فعندما تتأمل منحوتاته وأعماله؛ تجد نفسك أمام عظمة الفنان المصرى القديم الذى نحت فى أصعب أنواع المواد والخامات، وترك لنا هذا الكم الضخم والمهيب الذى خلفه لنا من آلاف السنين.
ولهذا السبب كان لا يصلح لترميم تمثال «أبو الهول» فى هيئته الحالية غيره، فبَعد اكتمال تجربة «حنين» الفنية اتسمت رسوماته ومنحوتاته بالأخص بالأشكال المجردة والأحجام والكتل الصافية؛ لتظهر معالجته لهذه الكتل والأحجام بخطوط مستقيمة ومحددة، ركز فيها «آدم» على الجوهر والأساس، مع مجرد لمحاتٍ وتلميحات فائقة التبسيط تعطى لمسات ساحرة، تستشعر فيها الحس الصريح المختزل عن طريق مجموعة خطوط ينساب من حولها الهواء والفراغ فى ديناميكية حُرّة تأْثر الوجدان والقلب قبل العقل.
وعت مكتبة الإسكندرية قدرَ وقيمةَ هذا الفنان، وسَعت أن تضمن بين جنباتها معرضًا دائمًا للفنان آدم حنين، فمع بدايات المكتبة حرصت المكتبة على الاتفاق معه على تخصيص مساحة كبيرة فى بهو القاعة الكبرى للقراءة بمسار الزيارات؛ لتفرد له على جدرانها أكثر من ثلاثين لوحة على ورق البردى وغيره، ما بين ملونة وأبيض وأسود وأحجام مختلفة، منها الصغير ومنها الكبير ومنها الضخم؛ حيث تعرض هذه الأعمال وتعكس أسلوبه الفنى المتفرد طوال مشوار حياته الإبداعية.
ففى الرسم على ورق البردى بالأكاسيد الطبيعية المصرية نجده يبرع باستخدام أكسيد الحديد والمنجنيز والكروم مخلوطة بالصمغ العربى فى عدد من اللوحات المعروضة بالمكتبة، وتعكس أيضًا مدى تحكمه بالخامات والأسطح التى رسم عليها، فمنها مجموعة لوحات صغيرة على ورق البردى يظهر بها بعض التفاصيل الدقيقة رُغم صعوبة تنفيذ ذلك على ورق البردى ومن دون تدرجات ألوان، موقّعة باسمه «هنرى صموائل» قبل أن يتلقب باسم «آدم حنين».
وفى جزء آخر من المعرض، نشاهد مجموعة لوحات أشبه بالمخربشات استخدم فيها الحبر على خامة الورق من خلال خطين أحدهما سميك والآخر رفيع فقط دون استخدام الألوان، وكأنه يمسك بحَجَر ويرسم به لوحاته، وفى جهة أخرى مقابلة لهذه اللواحات نجد لوحتين اختص بهما زوجته عالمة الأنثروبولوجيا «عفاف الديب» وأسماهما «إكسسوار عفاف».
كما تتصدر معرضه مجموعة لوحات ضخمة مستوحاة من جسد الأنثى استخدم فيها الفنان تقنية الرسم بخام الفحم واستغلال الضوء والظل فى أبرَازِها، كما تطالعنا أيضًا مجموعة لوحات صغيرة ببداية المعرض لمجموعة أشكال تخيلية للقطار وأخرى للدواليب، وقد نوّع الفنان فى استخدام الخامات بهذا المعرض، فتظهر لنا لوحة تسمى «ملعقة وفنجان» استخدم فيها الفنان ورق الذهب مع الألوان الطبيعية على خامة الخشب، وهى ذات حجم متوسط.
ووسط هذا المعرض تتناثر أهم وأقيم عَشرة منحوتات بالإضافة إلى لوحات مصنوعة من البرونز تُعبر عن تكوين الفنان ومشواره الإبداعى ومدرسته الفريدة التى ابتدعها، منها بعض منحوتات اختص بها الحيوانات، التى قد برع فى تجسيدها واشتهر بها، وهى فى حالة تأهُّب ومارَس فيها خصائصه المتفردة فى اختزال التفاصيل وتربيع الأجساد الأسطوانية كما فى تمثال «القط»، التى تعطى الإحساس التعبيرى بالهدوء التأملى مع التأهب للحركة، وكذلك فعل بمنحوتة «الكلب» و«البومة» و«البط» وبعض الطيور المختلفة، ويتصدر المجموعة تمثال القارئة وتمثال سيف البلد ودرع السلام.لتتجلى فيها عبقرية هذا الفنان فى التعبير عن الأشياء بأقل التفاصيل الممكنة وحرفيته الشديدة فى استخدام الخامات، ورُغم تجريدها من التفاصيل؛ فإنها توحى بتفاصيل وتعقيدات لا حصر لها وكأنك تقرأ لعميد الأدب العربى طه حسين وما تميزت به كتاباته بأنها السهل الممتنع، وهذا تجلّى من تجليات عبقريته. والجدير بالذكر أنه أسّس لسمبوزيوم أسوان الدولى لفن النحت.
لم تقتصر مكتبة الإسكندرية على هذا الدور فقط فى عرض أعماله لما له من قيمة فنية عظيمة، بل حرصت أيضًا على أن تستضيف كل عام احتفالية «جائز آدم حنين» ولثلاث سنوات متتالية تعرض أهم الأعمال الفائزة بهذه الجائزة؛ تكريمًا لأصحابها، هذا غير المَعارض المؤقتة، التى كان آخرها «رحلة حياة»، والتى التقى مع الفنان القدير رمسيس مرزوق لتجمع بين الفن والتصوير تحت مظلة واحدة، وأخيرًا قامت مكتبة الإسكندرية بعمل فيلم وثائقى مع الفنان الراحل أطلق منذ عدة أيام تخليدًا لذكراه.. رحم الله العالمى راهب النحت المصرى «آدم حنين».