زادت حدة التصريحات بين الحكومتين الأمريكيةوالصينية، خلال الأسابيع القليلة الماضية، لتملأ بدورها العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام، وفى الواقع تعد هذه الحرب الكلامية مجرد تحويل أنظار العالم عن فشل «الولاياتالمتحدة» فى السيطرة على انتشار المرض داخلياً، ومدى إنهاك البنية التحتية للمجال الصحى.
ففى شهرى يناير وفبراير الماضيين، كان هناك احتفال داخل المؤسسات السياسية الأمريكية، بأن قيادة الحزب الشيوعى فى «الصين» فى نهايته، وعلى وشك أن يتفكك، بسب أخطاء الحكومة الصينية الأولية فى الاستجابة لتفشى فيروس كورونا، والمذبحة الاقتصادية التى كانت تتكشف فى جميع أنحاء البلاد هناك. ولكن، عندما بدأت «الصين» فى التعافى، وانتقل الفيروس إلى الغرب فى شهرى مارس وأبريل، تحول الابتهاج الأمريكى إلى يأس شديد، إذ اكتشف المحللون السياسيون الأمريكيون، أن الوباء قد يساعد «الصين» على الخروج منتصرة فى المسابقة الجيوسياسية الجارية مع «الولاياتالمتحدة».
تزامن ذلك مع نجاح الحكومة الصينية فيما يعرف ب«حرب الشعب» ضد (COVID-19)، وأثبتت نجاح النموذج الصينى، بالإضافة لمحاولات الحكومة الصينية إيجاد حلول لأوضاعها الاقتصادية تحديدًا فى ظل انتشار فيروس كورونا.
ومنذ أيام قليلة بدأت بكين فى تجارب العملة الرقمية داخل أراضيها، لتصبح «الصين» هى الدولة الأولى فى إنشاء عملتها الرقمية.
نشرت وكالة «إيكونمك تايمز» أن «الصين» أطلقت تجربة (اليوان الرقمD) فى أربعة مراكز حضرية من أجل الحصول على خدمات محددة، فى ظل مواجهة العالم فيروس كورونا؛ إذ ستشهد المدن الرئيسية فى «شنتشن»، و«سوتشو»، و«تشنجدو»، ومنطقة «شيونجان» الجديدة، والمناطق التى ستستضيف بعض الأحداث لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2022 فى «بكين»، استخدام العملة الرقمية لبعض الخدمات، كما سيتلقى بعض موظفى الحكومة الصينية، والموظفين العموميين رواتبهم بالعملة الرقمية اعتبارًا من مايو الجارى.
يبلغ عدد سكان المدن الثلاث أكثر من 38 مليون نسمة، وتعد منطقة «شيونجان» الجديدة منطقة اقتصادية يتم تطويرها بالقرب من «بكين». ووفقًا لتقارير إخبارية محلية بالصين، سيتم استخدام العملة لدعم قطاع النقل فى «سوتشو»، بينما تركز التجربة فى «شيونجان» بشكل أساسى على المواد الغذائية، ومنتجات التجزئة.
وفى بيان صادر عن بنك الشعب الصينى (PBOC)، المنشور بجريدة «تشاينا ديلى»، أكد فيه أن (اليوان الصينى الإلكتروني) لن يتم إصداره بكميات كبيرة للاستخدام العام على المدى القصير، كما أن العملة الرقمية فى التداول لن تؤدى إلى ارتفاع التضخم مثلما يدعى البعض، ومن المعروف أن بنك الشعب الصينى سيكون هو المصدر الوحيد لليوان الرقمى، حيث يقدم فى البداية الأموال الرقمية للبنوك التجارية، والمشغلين الآخرين.
أوضحت الجريدة الصينية أنه بالاعتماد على تجربة تقنية «Blockchain» أو «سلسلة الكتل» (وهى قاعدة بيانات تمتاز بقدرتها على إدارة قائمة متزايدة باستمرار من السجلات، صُممت بحيث يمكنها المحافظة على البيانات المخزنة بها)، يمكن للعملة الرقمية الصينية تغيير النظام المالى بشكل كبير، من خلال جعل المعاملات أسهل وأكثر راحة وشفافية، على عكس العملات المشفرة اللامركزية، مثل: «بيتكوين» التى تسمح للمستخدمين بتحويل القيمة بدون سلطة مركزية، أو طرف ثالث. فسيتم وضع العملة الرقمية الصينية تحت الآلية المركزية للبنك المركزى هناك، وبالتالى ستكون مستقرة فى القيمة، مثل العملة النقدية الصينية.
بصورة أوضح، فمن خلال هذا الهيكل التنظيمى، من المرجح أن يتغلب (اليوان الرقمي) على العقبات الرئيسية الثلاث، وهي: (استقرار الأسعار، والإقبال الواسع من خلال منصات الدفع فى كل مكان، والشرعية فى نظر الحكومات والهيئات التنظيمية).
ومن جانبها، نشرت مجلة «فوربس» تقريرًا ل«دويتشه بنك» يشير إلى أن نتيجة ما تقوم به «الصين» من تطوير استراتيجيات إلكترونية وتشفيرية، يمكن أن يتحول مركز القوة الاقتصادية العالمية لبكين.
ويذكر التقرير أنه إذا اضطرت الشركات التى تمارس أنشطة تجارية فى «الصين» إلى تبنى (اليوان الرقمي)، فمن المؤكد أنه سيؤدى إلى تآكل أولوية الدولار فى السوق المالية العالمية، كما ستضغط على الدول الأخرى لإعداد عملاتها الرقمية. مؤكدة أن العملة الرقمية الصينية يمكن أن تكون أداة سياسية واقتصادية قوية لبكين، حيث إن 80% من سكان «الصين» من مستخدمى الهواتف الذكية، الذين يستخدمون بالفعل منصات الدفع عبر الهاتف المحمول، وفى عام 2018، بلغ حجم معاملات الدفع عبر الهاتف المحمول فى «الصين» 41.5 تريليون دولار.
كما أشارت المجلة إلى إمكانية وضع «الولاياتالمتحدة» للائحة تمنع الشركات من القيام بأعمال تجارية مع المتعاملين بالعملات الرقمية!
تداعيات اليوان الرقمى على الدولار الأمريكى
أوضح تحليل كتبه المدير التنفيذى لمركز «بيلفر» فى مدرسة «هارفارد كينيدى» «أديتى كومار»، و مساعد وزير الدفاع الأمريكى سابقاً «إريك روزنباخ» فى مجلة «فورين أفيرز»، أن العملات الرقمية تهدف إلى تجنب المعاملات بالدولار، والرقابة المالية الأمريكية.
وتعد جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (SWIFT) بمثابة العمود الفقرى للهيمنة المالية للولايات المتحدة، والتى تسهل الرسائل بين البنوك حول أوامر الدفع، وتسهل لشبكة من البنوك فى «الولاياتالمتحدة» عملها كوسيط لتنفيذ المدفوعات الدولية.
فعلى مدى العقود الماضية، اعتمدت «واشنطن» بشكل أكبر على العقوبات كأداة أساسية للسياسة الخارجية، مما زاد من تكرار استخدامها، وهو ما دفع الخصوم الأمريكيين إلى تفضيلهم لوجود بديل للمعاملات بالدولار، وحتى بعض حلفاء الولاياتالمتحدة يبحثون عن طرق لتقويض هذا النفوذ.
ففى العام الماضى، دعا محافظ البنك المركزى فى «المملكة المتحدة» «مارك كارنى» إلى عملة رقمية دولية، يمكن أن تخفف من التأثير السلبى للدولار الأمريكى على التجارة العالمية، كما طورت «روسيا» بديل (SWIFT) يسمى نظام نقل الرسائل المالية (SPFS)، ولدى «الصين» نسختها الخاصة التى تسمى نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود (CIPS)؛ وانضمت خمس دول من «الاتحاد الأوروبى» إلى آلية دعم التبادل التجارى (INSTEX).
بالعودة للعملة الصينية الرقمية، فإن أحد السيناريوهات المستقبلية التخيلية التى كتبها الباحثان «كومار، وروزنباخ» عن تداعيات هذه العملة على الدولار، أنه: بحلول عام 2022، قد تتلقى «الولاياتالمتحدة» معلومات استخبارية من «الموساد»، تفيد بأن «إيران» ستشترى مكونات أساسية للأسلحة النووية، وبرامج الصواريخ، فى الوقت الذى لا تزال العقوبات الاقتصادية الأمريكية على «طهران» قائمة، لكن «إيران» حولت تجارتها الدولية إلى نظام جديد قائم على (اليوان الرقمي)، مما يسمح لها بتجنب المعاملات بالدولار.
وهو ما سينتج عنه أيضاً ارتفاع مبيعات النفط الإيرانية إلى «الصين»، و«الهند»، و«أوروبا»، بشكل لا تستطيع السلطات الأمريكية مراقبته. وعندما تقرر «إيران» التحرك بسرعة نحو تطوير أسلحة نووية، وصواريخ جديدة متوسطة المدى، لن تقدر «الولاياتالمتحدة» على اللجوء إلى العقوبات، باعتبارها إحدى وسائلها الأساسية للرد على التهديد.
يتوقع ذلك السيناريو المستقبلى أن صناع السياسة فى «الولاياتالمتحدة» غير مستعدين لتلك العواقب، إذ سيؤدى ظهور العملات الرقمية إلى تدهور فعالية العقوبات الأمريكية، مما يحد من خيارات البلاد للرد على تهديدات الأمن القومى الأمريكى.
كان ل«هنرى م. بولسون (جونيور)» وزير الخزانة الأمريكية السابق وجهة نظر أخرى، بحسب ما نشر فى «فورين أفيرز»، إذ رأى أنه من غير المرجح أن تقوض العملة الرقمية الصينية من تفوق الدولار، ولكنها ستسهل بالتأكيد جهود «الصين» لتدويل الرنمينبى، لافتًا لأنه فى البلدان ذات العملات غير المستقرة، مثل: «فنزويلا»، يعد التعامل مع العملة الرقمية الصينية بديلاً جذابًا، ويمكن للشركات الصينية، مثل: «تينسنت»، التى لها بالفعل وجود كبير فى البلدان النامية فى «أفريقيا»، و«أمريكا الجنوبية»، أن تزيد من وجودها هناك، مما يؤدى إلى دفع (رنمينبى رقمي) فى المستقبل للحصول على حصتها فى السوق، وهو ما يساعد فى تعزيز مكانة الرنمينبى العالمية ليصبح جزءًا من استراتيجية أوسع لإبراز التأثير الاقتصادى والسياسى الصينى فى الخارج.
تضمن تحليل «كومار، وروزنباخ» عددًا من التوصيات، إذ نصحا الحكومة الأمريكية بإطلاق مبادرة (الدولار الرقمي)، وهو جهد يجب أن تشترك فيه الحكومة الأمريكية مع القطاع الخاص، من أجل تطوير عملة أمريكية رقمية، تجمع بين قوة واستقرار الدولار الأمريكى، مع راحة وكفاءة التكنولوجيا الرقمية.
ومن جانبه نصح «جونيور» الولاياتالمتحدة بضرورة أن تأخذ «الصين» على محمل الجد كمنافس اقتصادى هائل، والانتباه فيما يتعلق بأسبقية الدولار، لأن الخطر الرئيسى –فى وجهة نظره- لا ينبع من «بكين»، ولكن من «واشنطن» نفسها، إذ يجب أن تحافظ «الولاياتالمتحدة» على اقتصاد يلهم المصداقية والثقة العالميتين، لأن الفشل فى ذلك سيؤدى مع مرور الوقت، إلى تعرض وضع الدولار الأمريكى للخطر. مؤكدًا أن عملية الإصلاح تتطلب نظامًا سياسيًا قادرًا على تنفيذ سياسات تسمح لمزيد من الأمريكيين بالازدهار وتحقيق الرخاء الاقتصادى، وقادرًا على الحفاظ على الصحة المالية للولايات المتحدة.