فى ذكرى ميلاد الأديب عبدالرحمن الشرقاوى ال 98 لم يزل إبداعه متجددًا، وروحه متقدة فى نصوصه التى تنوعت بين الشعر والرواية والدراسات فى التراث الإسلامى وآثاره القليلة فى الصحافة، لكنّ خيطًا رفيعًا يربطها ببعضها. كان أديبنا الراحل يعرف أين يوجه سهامه.. فهو الواقعى فى رواية الأرض والحالم فى الحسين ثائرًا وشهيدًا.. والباحث عن الحرية فى «محمد رسول الحرية» وعن العدل فى سيرة الفاروق.. لا تستطيع أن تحسبه على فريق بعينه.. فموقفه نابع من قناعاته فقط.. وبوصلته يحددها قلبه وعقله.. يواجه رجال الدين ولا يمالئ المثقفين فى الوقت ذاته.. ويدعم مطالب الحركة الطلابية ما قبل الحرب ويدافع عن كيان الدولة.. هكذا كان عمل الشرقاوى فى الصحافة جزءًا من مشروعه الأدبى. عند النظر إلى سيرة عبدالرحمن الشرقاوى من بعيد تجدها مليئة بالتناقضات.. فهو اشتراكى يمكن أن تصفه بالمفكر الإسلامى.. وشاعر انتصر بناء المسرحية على هيكل القصيدة فى شعره.. وقانونى قاده شغفه بالأدب إلى بلاط صاحبة الجلالة.. لتصبح أوراق الصحف والمجلات مهدًا لميلاد أفكاره.. تراه يبحث عن مفاهيم الحرية فى التراث.. يدافع عن الإسلام ويتصدى لرجعية رجال الدين فى الوقت نفسه.. سرعان ما يزول ذلك الشعور بالتناقض عند الاقتراب من مسيرة الأديب، إذ تراها حلقات صغيرة تكمل بعضها بعضًا فى كل بانورامى تتجاور فيه روايات الأرض والفلاح والشوارع الخلفية مع كتب محمد رسول الحرية وسيرة الفاروق عمر وعلى بن أبى طالب، وتضافر أبيات الشعر لتشكل ملحمة الحسين ثائرًا. فى قالب قصصى قدّم الشرقاوى كتابه «محمد رسول الحرية» لتصوير عمق الجانب البشرى عند النبى محمد، فى شكل مبسط للوصول لجميع الطبقات الفكرية، يؤكد على مبادئ الحرية فى الإسلام باعتبارها هى درة تاج الرسالة المحمدية وهدفها الأسمى، ويشرح الأديب فى مقدمة الكتاب هدفه من تقديم سيرة النبى بتسلسل بسيط قائلًا: «وما أحسب أن كتابًا جديدًا أكتبه.. يمكن أن يضيف حقيقة جديدة إلى ما كتب فى السيرة.. ولكنى أردت أن أصور قصة إنسان اتسع قلبه لآلام البشر ومشكلاتهم وأحلامهم وكونت تعاليمه حضارة زاهرة خصبة أغنت وجدان العالم كله لقرون طوال.. ودفعت سلالات من الأحياء فى طريق التقدم.. واكتشف آفاقًا من طبيعة الحياة والناس». وعن تأكيده على قيمة الحرية فى الكتاب يقول فى موضع آخر: «لسنا فى حاجة إلى كتاب جديد عن الدين يقرأه المسلمون وحدهم ولكننا فى حاجة إلى مئات من الكتب تمثل الإسلام.. كتب يقرأها المسلمون وغير المسلمين.. تصور العناصر الإيجابية فى تراثنا.. وتصور ما هو إنسانى فى حياة صاحب الرسالة.. إننا بحق فى حاجة إلى مئات من الكتب يقرأها الناس كافة.. الذين يؤمنون بنبوة محمد والذين لا يؤمنون».. كعادة رجال الدين رأوا أن فى الكتاب ما يهدد كهنوتهم، فكيف لأديب أن يتصدى لكتابة السيرة النبوية؟ وبدأوا فى توجيه اتهاماتهم للشرقاوى وكتابه بدعوى الدفاع عن الدين، لكن الغريب أن يكون الاتهام الموجه للكاتب بأنه ينفى عن النبى نبوته، ويجرده من معجزاته، فتحول دفاع الشرقاوى عن الدين إلى هجوم عليه وعدم اعتراف بالرسالة النبوية، وتحول مديحه للنبى فى قوله بأن «محمد الإنسان.. كانت شخصيته ومبادئه كفيلة بأن يكون نبيًا ورسولا حين اختاره الله لهذه المهمة» إلى اتهام ببشرية الدعوة! «أكثر الناس ضلالا عارف بالله.. لا يهديه قلبه» تصدَّى صاحب «الأرض» إلى الأفكار الرجعية لرجال الدين فى عصره وكل عصر عبر تتبع أصل الظاهرة من البداية، فكان كتابه «ابن تيمية.. الفقيه المعذب» يفند أفكار العالم الجليل ويثنى على اجتهاده ويواجه من ضل سعيهم من أتباعه وأضلوا الناس، كان السرد القصصى هو وسيلة الشرقاوى أيضًا لتبسيط سيرة «شيخ الإسلام» ودحض حجج وضلالات من يدعى الانتساب إليه من المتشددين ويقول: «ما جدوى العلم والفقه وكل الكلمات إن لم تستطع أن تنتشل الإنسان، وتحمى شرف الحياة؟ وما جدوى كل شيء إن كان الذعر يطارد الأمن.. والباطل يغشى الحق بدخان البارود والبهتان؟» وينسف الشرقاوى أفكار الجهاديين من أصلها بقول ابن تيمية لمن أنكر محاربة التتار بأن «الله لم يأمر بقتال الكفار لكفرهم بل لأنهم اعتدوا.. فالاعتداء لا الكفر هو سبب القتال.. لأننا أمرنا بألا نكره أحدًا على الإسلام.. ولو كان الكافر يقاتل حتى يسلم..لكان هذا أعظم الإكراه على الدين.. ولكننا نقاتل لرد العدوان»، كما يؤكد الأديب فى سطور كتابه أيضًا على قيمة الحوار بين الأيديولوجيات المختلفة قائلًا «الحدة فى الجدل تولد الخصومة.. وتثير عناد المجادل وتضيع الحقيقة التى هى هدف المناظرة الشريفة». على صفحات مجلة روزاليوسف فى 16 يوليو 1973 بلغت مواجهة الشرقاوى لكهنوت الجهل أوجها فى مقالة بعنوان «من الذى يفسر لنا مبادئ الإسلام؟» يصارح فيه رجال الدين بنقائصهم قائلًا «إنهم لم يحاربوا أبدًا أي صورة من صور الفساد الحقيقى التى تنهش فى مجتمعنا.. وهى تحت أعينهم يرونها فى كل صباح ومساء.. لأنهم ينافقون الله.. لكنهم إذ انطلقت صيحة مخلصة لتنفض عن مبادئ الإسلام ما فيها وما عليها من غبار.. أخذتهم الصيحة فانقضوا يكيلون الاتهامات.. وأذكر أنهم ما اجتمعوا يومًا لمواجهة فساد أو إقامة صرح بل للأذى». «الصدق مغترب وحيد.. لا يصدقه أحد.. والحق منبوذ مشرد» لم تقتصر مواجهة الشرقاوى على رجال الدين فقط، إذ اتهمه كثير من المثقفين بالرجعية دائمًا ما يرى الحل فى التراث وأخذ العبرة منه وهو ما سخر له معظم أعماله فى سير النبى وأصحابه وثنائية الحسين ثائرًا وشهيدًا وغيرها من الكتابات التى استند فيها على التراث كذخيرة للحكى وإيصال ما يريده من أفكار، لكنه ثبت على موقفه ويستمر بحثًا فى التراث ونقده فى نفس الوقت، قائلًا فى أحد لقاءاته الإذاعية النادرة «إن ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات هو الاستفادة من التاريخ وتراث السابقين.. لا نقول أن نقتفى خطاهم بلا وعى ولكن علينا ألا نصبح كأجيال الفئران المتتالية التى تقع فى نفس المصيدة من دون إدراك وتفكير». قبل الحرب سخر شرقاوى قلمه رفضًا لحالة اللا سلم واللا حرب، وداعمًا لمظاهرات الطلبة فى الجامعات المنادية بضرورة الحرب، كما واجه النخبة التى أرادت المتاجرة بثروة الطلبة، لافتًا لضرورة فتح حوار مع الطلبة وكتب فى مقاله بمجلة روزاليوسف في23يناير 1973 تحت عنوان (ماذا يريد الطلبة وماذا ننتظر منهم؟) بأننا «يجب علينا أن نسمع للطلبة ويجب عليهم أن يسمعوا لنا.. فالحوار الصريح وحده هو وحده الذى يولد الاقتناع ويضع الأقدام على طريق الحقيقة.. والطلبة فى مصر ليسوا طلبة ولكنهم أبناء فئات متعددة.. وهم مع ذلك أمل الأمة ونبضها ووجدانها وضميرها الحي.. ونضارة مستقبلها وكبرياء شرفها». فى العدد التالى من مجلة روزاليوسف 31 يناير 1973 كتب الشرقاوى مقاله بعنوان (لسنا فى وقت المناور باسم حركة الطلاب) يواجه فيه كل من وصف مظاهرات الطلبة بأنها حركة عابرة يمكن احتواؤها من دون البحث فى حل لمطالبهم قائلًا«بعض من الذين أوشك هذا التيار أن يجتاحهم فيما يجتاح من سلبيات.. خيل إليهم أن تلك الحركة لم تكن غير موجة فحاولوا أن يركبوها ليظلوا على السطح.. لقد خيل إليهم من عليائهم أنهم يستطيعون احتواء حركة الشباب.. كما تعودوا أن يحتووا كثيرًا من القوى والتيارات!». ويضيف الشرقاوى فى مقاله دفاعًا عن حركة الشباب ومطالبهم قائلًا «حركة الشباب تيار دافق أصيل.. يفيض من حيث تضطرم أحلام الخلاص.. ويندفع بكل حيوية المد الزاحف معبرًا عن قدرة هذا الشعب فى أن يرفض وأن يجدد.. وعلى أن يحتفظ بروحه شعلة خالدة متقدة.. وحركة الشباب فى مصر أعمق وعيًا وأوسع إدراكًا من أن تخلط بين الأعداء والحلفاء».. هكذا كان طوال فترة ما قبل الحرب يطالب برفض الاحتلال وضرورة تحرير الأرض فى أقرب وقت ويسخر مداد قلمه للدفاع عن مطالب الشباب. تقترب الحرب ويستمر الأديب فى الدفاع عن الدول والمطالبة بضرورة الحرب ويكتب فى مجلة روزاليوسف 9أبريل 1973 بعنوان (هذه الحرب القذرة) مفككًا شائعات ما قبل الحرب التى تستهدف الوعى العربى وتفريق صفوفه «هدف الإشاعات هو تحطيم معنويات هذا الشعب... فالشعوب العربية مطالبة بيقظة واعية لتقاوم هذه الحرب القذرة.. لكى يطمئن كل إنسان فى مكانه.. ولكى يثق كل عربى فيما يؤمن به.. وينطلق ليحقق ما يعمل له» «إن يكن همك ما يدخل جوفك.. لم يكن قدرك إلا مثل ما يخرج منه» بعد انتصار أكتوبر لم يكن الشرقاوى من المهللين للنصر بلا وعى، إذ سرعان ما أدرك أن عليه مواجهة كل المشككين فى العبور ويكتب فى 29 أكتوبر 1973 مقالته بعنوان (أولى الحقائق أننا منتصرون) لتكون بمثابة حجر الأساس فى كل مقالاته التالية ويقول «هناك عدة حقائق يريد العدو أن يطمسها.. أولى هذه الحقائق أن يوم 6 أكتوبر سنة 73 سيظل من الأيام المجيدة البارزة فى تاريخنا العربي.. وفى تاريخ التحرر العالمي.. إنه بداية تاريخ جديد سطرنا فيه بعزائم الرجال والدم الغالى أعظم ثورة من ثورات الكفاح المسلح والتحرير فى تاريخنا العربى». تحول دفاع الشرقاوى عن ثورة الشباب قبل الحرب إلى دفاع عن ثورة الكفاح المسلح بعدها يوجه رسائله للشعب المصرى «يجب أن نكون على مستوى الانتصار.. وألا نترك للعدو مهما تكن وسائله أن يؤثر على معنوياتنا العالية وعلى روحنا النضالية».. واستمر صاحب «الأرض» فى كشف خيوط لعبة العدو النفسية لمحاولة بث اليأس فى نفوس العرب والتقليل من قيمة الانتصار، ويكتب فى 19 نوفمبر 1973 مقاله بروزاليوسف تحت عنوان (هذه اللعبة القذرة!) قائلًا «لا.. لن تفلح الحرب النفسية التى تشنها العسكرية الإسرائيلية وعملاؤهم من أصحاب أدوات النشر والإعلام فى شتى بقاع الأرض.. أم أنهم يحسبون أنه قد كتب على العرب أن يتجرعوا الحياة ممزوجة بالمرارة.. حتى عندما يعتصرون من عروق الحياة حلاوة الانتصار؟! لكنهم يحاولون طمس انتصارات أكتوبر بكل ما فيها من ملاحم بطولة أذهلتهم وقلبت حساباتهم العسكرية باعترافهم». بعد أن استعادت الدولة توازنها وأحتفل الأديب بالحرب ودافع عنها، كان أن قرر توجيه سهامه إلى ضرورة الإصلاح فى الدولة، هكذا ينتقل الشرقاوى بين أولوياته بكل سلاسة ووعى يدرك هدفه فى وضوح تام، فقبل الحرب كانت الحرية والتحرير أولًا مجسدة فى ثورة الشباب وبعد الحرب كان الدفاع النصر ومواجهة حرب العدو النفسية، يتبعها ضرورة إصلاح الدولة من الداخل. وكتب الأديب بعد مرور عام على حرب أكتوبر تحت عنوان (وماذا عن حصون التخلف والفساد؟!) يطالب فيه أن تعمل جميع مؤسسات الدولة بروح أكتوبر لمحاربة الفساد والقضاء عليه «ينفجر من الأعماق سؤال محير: لماذا لا نستطيع نحن الذين تحدينا الموت وانتصرنا فى ظروف صعبة.. لماذا لا نستطيع أن ننتصر أمام تحديات الحياة والظروف أسهل؟!.. لماذا لا نحتفظ فى أعماقنا بتلك الشعلة المقدسة التى أججت قوة المقاتلين فى سيناء ومكنتهم من الانتصار على المستحيل؟!». يرفض الشرقاوى أن يصبح نصر أكتوبر مجرد شعارات نرددها «إن قيم التصحيح وقيم الانتصار المجيد فى أكتوبر يجب ألا تتجمد فى كلمات أو شعارات تمجيد.. بل علينا أن نحولها إلى طاقات متجددة لتحقيق التحرير الكامل ولنبنى المجتمع السعيد ولنصنع الحياة الحرة النظيفة التى تستحق أن نعيشها».