لم يكن ليتبادر إلى ذهن أحد أن تكون للبيوت مذاقات كما الأطعمة قبل أن يغنى الكينج «محمد منير» أغنيته الشهيرة (طعم البيوت)، ولعل هذه الأغنية هى التى دفعتنى إلى الاحتفال بعيد ميلاد الكينج الخامس والستين بطريقة مختلفة، فكانت الأسئلة التى حاولتُ طويلًا أن أبحث لها عن إجابات: كيف هى الحياة فى بيت يسكنه منير، ويملأه طربًا وحُبّا؟ وما هو التأثير الذى تركه فى قلوب أقرب المقربين إليه،إذا كان بفنه وحده قد شكّل وجدان الملايين من أجيال متعاقبة؟ وما المانع إذا كانت (كل الحدوتة شوية مجهود) أن تكون «روزاليوسف» (وسط الدايرة) لتُشرك القارئ لذة الاستماع إلى حكايات إنسانية صرفة، يحكيها شهود عيان عن قلب (كله حنان وعطف). ولذلك تحمل السطور التالية حكايات الطاهية، والقائمة بالأعمال المنزلية «شاكيرا»، التى هى أقرب إلى حكايات ابنة عن أبيها، وامتنان «محمد أنور» السائق الخاص به لكل كيلومتر قطعه بالسيارة برفقته، فكان سببًا لحدوث تقارُب إنسانى جميل بينهما، كما تحمل أيضًا محبة جارفة من «زتونة» و«رزة» عضوى فرقته الموسيقية لكل نقرة نقراها على آلاتهما الإيقاعية فأحدثت نغمة شجية على خلفية صوته العذب، والأهم أنها تحمل لمسات (إيد تطبطب إيد تداوى)، وهى لمسات شقيقته الحاجة «أميرة»، فهو بالنسبة لها ليس مجرد أخ، لكنه سَنَد وأمان، ومصدر فخر، الجميل أن لكل حكاية تروى على لسان واحد من هؤلاء الأحباب عنوانا، سيقفز إلى ذهنك أثناء قراءتها، وستكتشف أن هذا العنوان هو واحد من (كوبليهات) أغنيات «منير» المميزة... ضحكتنا شمعتنا بينوروا ليالينا دائمًا ما تتجاوز مكانة الأخ الأصغر فكرة الأخوّة ليتحول إلى ابن، وصديق، وسَنَد وقت العجز، وفى حالة «منير» يتحقق هذا الأمر بامتياز، فهو الأخ الأصغر، من بين ستة إخوة، نصفهم من الرجال، لكن بعد وفاة شقيقيه أصبح هو الرجُل الوحيد لثلاث بنات هن أغلى ما لديه، وهو الأمر الذى أكدته الحاجة «أميرة» التى اختارت أن تبدأ حوارها معى بالحديث عن العوامل التى أثرت فى تكوين شخصية أخيها منذ الصغر، الذى لعب الوالد والوالدة دورًا كبيرًا فيها؛ حيث تقول: نحن من أسرة مترابطة جدّا، أهم ما يميزنا عشقنا للقراءة، والاطلاع، فقد كان لدينا مكتبة كبيرة جدّا، وحرص والدى أن نحصل جميعًا على شهادات جامعية، فقد كان موظفًا حكوميّا، أمّا والدتى فقد كانت ابنة عُمدة، وقد جاورت فى طفولتها منزل العقاد، لذلك كان لديها من الوعى والثقافة ما يجعلها تدفعنا للقراءة، وأذكر أننى كنت أتناقش مع إخوتى فيما أقرأ، كما أذكر أيضًَا إصرار والدى على شراء مجلة «روزاليوسف»؛ خصوصًا عند حدوث الأزمة التى أثارتها رواية (لا تطفئ الشمس) لإحسان عبدالقدوس؛ حيث اتهم حينها بأنه يُفسد أخلاق المجتمع، ونُوقش أمر الرواية فى مجلس الشعب، وأصبح الأهالى تخفى كتابات إحسان عن أبنائها، لكن والدى كان له رأى آخر؛ حيث كان يقول: (يقرأون ما يكتبه إحسان أمامى بدلًا من أن يقرأوه من خلف ظهرى)، وفى الخمسينيات، بينما كانت الأسر ميسورة الحال تتقابل فى نادى الجزيرة بالقاهرة، كان والدنا يصطحبنا إلى نادى البلدية بأسوان، ليسمح لنا أن نعيش كل تفاصيل الحياة التى يعيشها أهل القاهرة، لم يشأ الله أن تُنجب الحاجة «أميرة» ذكورًا، فقد حَبَاها الله بثلاث بنات، لكنها تعتبر «منير» أباها وابنها فى الوقت نفسه؛ حيث تقول: «سافر زوجى للعمل فى ليبيا كمهندس استشارى قبل أن ألحق به لنبدأ هناك رحلة كفاحنا سويّا، فكان «منير» هو السند المعنوى لى فى هذه الفترة، لذلك هو يعشق بناتى عشقًا، بينما هن لا يتعاملن معه كخالهن، فهو أقرب بالنسبة لهن من ذلك بكثير، أمّا زوجى فيحبه جدّا ويقدره، لذلك دائمًا قلبى وبيتى مفتوحان أمامه، وأذكر منذ زمن بعيد أن لقاءاته بالفنان أحمد منيب، وبعدد كبير من الصحفيين والكتاب كانت تتم فى منزلى». صفات كثيرة ميزت «منير» عن غيره، فشخصيته تمامًا مثل أثاث منزله الذى تجد فيه الكلاسيك، والمودرن جنبًا إلى جنب لكن فى نهاية الأمر هو منزل فائق الجمال ولا يشبه أحدًا، أو كما يقولون (السهل الممتنع)، لكن أكثر هذه الصفات الراسخة فيه منذ الصغر هى «الحنية» أو كما تقول الحاجة «أميرة» (قل لى ما هو تعريف الحنان أقل لك أخى محمد منير»، بالإضافة إلى أنه «ابن نكتة ودمه خفيف)؛ حيث لا تخلو جلساته مع إخوته وأبنائهم من الضحك، وفى الوقت نفسه هو خجول، ولأنه يخاف علينا جدّا، فلقد أصبح مؤخرًا يخفى مشاكله وهمومه حتى لا يقلقنا، ومع ذلك فهو لا ينفصل نفسيّا أبدًا عن إخوته، ويأتى دائمًا لأطهو له بنفسى، فهو يحب أن يأكل من يدى (صينية الرقاق والملوخية)، وهو فى العادة يفضل الأكل البيتى التقليدى، ولا يحب أبدًا أكل المطاعم والفنادق. الشهرة والنجومية لم تغيرا فى نفسيته أى شىء، فهو إنسان وفِىّ لكل مَن عَرف، بداية من رحلوا بسبب الزواج والإنجاب وصولًا إلى أصدقائه القدامى، وزملائه المطربين الذين لم تشتعل فى قلبه الغيرة منهم يومًا، ومن أمثلة أصدقائه المقربين الذين يكن لهم كل حب، الإعلامى محمود سعد، والفنان على الحجار. كان أمرًا غريبًا بالنسبة لى عندما طلبت من الحاجة «أميرة» صورة تجمعها بأخيها أن تكون إجابتها أنه لا توجد صور مشتركة بينهما، لكنها سرعان ما فسرت هذا الأمر بقولها (اتصورنا مع أخينا الكبير فحدثت وفاته بعدها بوقت قصير، ومن يومها نتجنب التصوير سويّا؛ لأننا نشعر أنه فأل سيئ). النونو دبت خطوتها خطفت عيونّا وشَغلتنا منذ نعومة أظافرها تعمل «شاكيرا» فى منزله، فالعلاقة بينهما تمتد لسنوات بعيدة؛ حيث تقول «كانت أسرته تعرف أسرتى جيدًا، وفى عمر السنوات التسع، ولضيق ذات اليد كان لا بُدَّ أن أعمل، وقرر أهلى أن يرسلونى للعمل فى منزل أخته السيدة خديجة، لكنه شاهدنى عندها يومًا، وقرر أن يأخذنى للعمل فى بيته، واليوم أتممت خمسة وعشرين عامًا عنده لم أشعر يومًا أنى خادمة، فهو أب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فقد تحمَّل مسئوليتى منذ الطفولة، وكنت ألجأ إليه فى مراهقتى فكان ينصحنى مثل أى أب، وعندما حان موعد زواجى تكفّل بكل شىء، وحتى بعد أن أنجبت ابنى الأول منذ أربع سنوات آخذه معى يوميّا؛ لأمارس مهام عملى فى المنزل، بينما يجلس صغيرى معه كما يجلس الحفيد مع جده؛ ليلاعبه بكل حب وخفة دم، حتى إنه هو من أطلق عليه اسم «كالوشة» الذى أصبح الجميع ينادى الصغير به، والخلاصة أننى عشت مع «منير» ما لم أعشه فى بيت أهلى، لذلك هو (كل أهلى)». أنت الأمل فى العيون والنشوة ساعة الجنون لمدة ثلاث سنوات يعمل «محمد أنور» كسائق خاص عنده، لكنه فى الأساس جاره فى أسوان، وصديق مقرّب لأحد أصدقائه، لكن السنوات الثلاث اختصرت سنوات طويلة من القُرب والمحبة، وجعلت التفاهم بينهما يتم من نظرة؛ لأن مرافقته فى طريقه سمحت له بأن يكون شاهد عيان على كثير من المواقف والتفاصيل التى يثبت فيها «منير» طيبة القلب و(الجدعنة)، يذكر منها «أنور» موقف سيدة من عابدين، وقفت طويلًا أمام منزله تنتظر عودته ومعها بناتها؛ لتخبره أن حالتها الصحية متردية، وتحتاج لجراحة عاجلة، وعندما استمع إليها، وهَمَّ أن يعطيها مبلغًا من المال رفضت، وطلبت منه أن يتكفل بإجراء العملية لها حتى تتمكن من العيش لبناتها، وبالفعل أرسل «منير» مَن يتابع معها الحالة، ويجرى لها الفحوصات، وعندما حان وقت إجراء الجراحة، تحدّث مع طبيب صديقه فى مستشفى الأنجلو أمريكان ليشرف على الجراحة بنفسه، وحتى اليوم تتصل بى هذه السيدة تليفونيّا لتطمئن عليه وترسل له دعواتها الصادقة من حين إلى آخر . أمّا «محمد أنور» نفسه فقد أجرى منذ فترة وجيزة جراحة فى القرنية تسببت فى أن يحصل على إجازة مؤقتة من عمله كسائق، لكنها ليست المحنة الأولى التى تعرّض لها وكان «منير» فيها الداعم والسند؛ حيث داهمته آلام الزائدة الدودية، والمرارة فجأة، وأوصَى الطبيب بإجراء الجراحتين بشكل عاجل، لكن التكلفة كانت مرتفعة جدّا، ولم يكن معه منها سوى بضعة آلاف قليلة، وعن ذلك يقول: تكفل «منير» ببقية المبلغ، ورفض أن يكون دَينًا يُسَدد، ويختتم حديثه قائلًا «كل أمنيتى أن أراه سعيدًا دومًا، وأن أظل أعمل معه لآخر يوم فى عمرى». لكن بيفرحنا أن انت جوّه القلب ساكن فى أفراحنا «أحمد رزة» هو عازف آلة إيقاعية تسمى (البونجز السودانى)، وفى مرحلة الطفولة، وقبل عمله فى مجال الموسيقى كان متأثرًا بشدة بشخصية «منير»، وبقصة نجاحه، وظَلّ هذا الحب والتأثر طَىّ الكتمان حتى جاءت مكالمة لاعب الدرامز الذى رافق «منير» منذ التسعينيات «حازم عبدالقادر» ليقول لى فيها إن «منير» شاهدنى فى أكثر من حفلة، ويريد أن يضمنى إلى فرقته؛ لتكون بمثابة تلك المكالمة الهاتفية بمثابة البوابة التى عبرت منها إلى عالم «منير»؛ لأصبح أكثر قربًا من النموذج الذى عشقته منذ الصغر، وزادت الفرحة بعدما هاتفنى بنفسه ليقول لى إنه يتابع خطواتى جيدًا، ويشعر أنى إضافة مهمة، فزادت ثقتى بنفسى، وبدأنا رحلة العمل سويّا، ومن يومها وأنا أشعر به «أب حقيقى» لكل أعضاء الفرقة، ويكفى أن أقول لك إنه يتصل بنا ولا سيما فى الفترات التى ليس بها حفلات معه ليطمئن على أحوالنا، وأمورنا المادية، وإذا ما كان هناك مشاريع وحفلات مع مطربين آخرين أمْ لا، بل يطلب منا أن نُسمعه كل جديد نقوم به ويتناقش فيه معنا، والحقيقة، فقد عملتُ مع عدد كبير من المطربين لم أجد منهم أحدًا يهتم بأدق بتفاصيل فرقته مثلما يفعل «منير»، يعجبنى فيه أيضًا أنه يُصر أن يكون فى الصفوف الأولى فى جنازات أو عزاءات تخص فرقته مَهما كانت طبيعة المكان المقام فيه هذا العزاء؛ ليرسل لهم برسالة أنه فرد منهم، وبالتالى فهو يغضب منا كثيرًا إذا لم نبلغه بأى أزمة أو ضائقة نمر بها، فهو إنسان بسيط، وروحه مرحة جدّا، أذكر منذ فترة أننى داعبته بقولى (يا كينج إيه رأيك فى مقولة إذا أردت أن تزور مصر يجب عليك أن تفعل ثلاثة أشياء تزور الأهرامات، وتشرب من مياه النيل، وتسمع صوت مصر محمد منير)، فصحك كثيرًا وقال لى (ما تقولهاش تانى.. ده كلام كبير عليّا جدّا). أمّا «محمد زتونة» فهو عازف الدف والبركشن فى الفرقة، وقد تربّى على موسيقاه أيضًا؛ حيث كان «منير» صديقًا لوالده، ومع ذلك فقد جاء العمل ضمن فرقته صدفة، وعن علاقته بمنير يقول: لم أجد منه سوى كل أخلاق وذوق وطيبة، فهو إنسان عفوى، ومجامل، فى الأفراح والأحزان، بالإضافة إلى أنه مستمع جيد جدّا، والحقيقة أننى أشعر بسعادة كبيرة عندما يطلب رأيى فى مزيكته، فهو يحترم كل الآراء، ويتقبلها بصدر رحب، واختصارًا هو شخص لا يمكن أن تملّ من جلسته، تمامًا كما لا يمكن أن تملّ من أغنياته.. لذلك أدعو الله أن يظل موجودًا بيننا، وألّا يتوقف عن الغناء أبدًا.