لم تكن أهمية مفتاح الحياة أو «العنخ» نابعة فقط من كونه رمزًا ذا دلالة دينية وثقافية مقدسة فى المجتمع المصرى القديم، ولكنه أيضًا يُعَد دليلًا حيّا على تفوُّق وهيمنة الحضارة الفرعونية وتأثر الكثير من الثقافات الأخرى بها، فالأيقونة التى استخدمها المصريون قديمًا كرمز للحياة الأبدية بعد الموت انتقلت للعديد من الثقافات الأجنبية وظهرت فى كثير من الأحيان على العملات المعدنية القديمة فى قبرص وآسيا الصغرى وغيرهما. كان استدعاء هذا الرمز للمرّة الأولى خلال حفل تخرُّج دفعة جديدة من طلبة الكلية الحربية والجوية بحضور الرئيس عبدالفتاح السيسى، بمثابة رسالة مقصودة من جانب مؤسسات الدولة هدفها التأكيد على هوية هذا المجتمع فى وقت تتصارع فيه الأيديولوجيات المختلفة للسيطرة على الخطاب العام، حتى أصبحنا أمام عملية تعمية متعمدة وواسعة النطاق لشرائح واسعة من المصريين عن الهُويَّة الأساسية للمجتمع. فى مشهد مهيب خلال حفل تخرُّج الدفعات رقم 113 حربية، و70 بحَرية و86 جوية، و56 فنية عسكرية، و47 دفاع جوى، و48 من المعهد الفنى للقوات المسلحة ظهَر الطلبة يشكلون رمز مفتاح الحياة، كما ظهرت عربة حربية يجرها بعض أصحاب الزى الفرعونى، بجانب مسلة مصرية فى آخر العرض، بينما كانت الآلات الموسيقية تعزف موسيقى أوبرا عايدة فى خلفية المشهد. تأكيدات سابقة للرسالة ربما كانت هذه هى المرّة الأولى التى يظهر التأكيد على المكون الفرعونى فى الهُويَّة المصرية خلال حفلات تخرُّج طلبة الكليات العسكرية بهذا الوضوح، لكنها ليست المرّة الأولى التى تُصدر رسائل مماثلة عن الدولة فى الكثير من الأحداث خلال السنوات القليلة الماضية، فقبل أيام قليلة جرى افتتاح النسخة 32 من بطولة أمم إفريقيا فى استاد القاهرة وكان التأكيد على الهُويَّة الفرعونية شديدًا سواء من خلال الأزياء والتصميمات أو من خلال تمثال أنوبيس إله العالم السفلى والمشرف على عمليات التحنيط عند قدماء المصريين، الذى ثار بشأنه لغط كبير بين رواد مواقع التواصل الاجتماعى. فى السياق ذاته، يأتى اختيار الهيئة الهندسية للقوات المسلحة أن يكون كوبرى الجيش المصرى الذى يخدم المدن الجديدة على طريق «مصر- السويس» ومدن حى عتاقة وفيصل على شكل زهرة اللوتس التى قدسها المصريون القدماء. قبل أيام أيضًا اجتمع الرئيس مع كل من خالد العنانى وزير الآثار والدكتورة رانيا المشاط وزيرة السياحة لمناقشة خطة نقل المومياوات المَلكية من المتحف المصرى بالتحرير إلى المتحف القومى للحضارة بمدينة الفسطاط، ووجّه بإتمام تلك العملية فى موكب عالمى يليق بعظمة الحضارة المصرية، كما وجّه بتطوير المنطقة المحيطة بالمتحف وبحيرة عين الصيرة، وقبلها بشهور قليلة كانت الموسيقى العسكرية تعزف ألحانها خلال عملية نقل تمثال رمسيس الثانى إلى مستقره داخل المتحف الكبير بالجيزة. للهوية جيش يحميها عند تحليل ما يجرى فى مسألة الدفاع عن الهُويَّة المصرية سنقف أمام عدة نقاط مهمة؛ أولاها إن المؤسسة العسكرية هى الجهة الأبرز التى أخذت على عاتقها مهمة الحفاظ على الهُويَّة المصرية بتنوّعها والتصدى لأى محاولات للنَّيْل من هذا التنوع، وربما يرجع ذلك لغياب حزب أو كيان فكرى أو سياسى منظم يتولى هذه المهمة، علاوة على ما يملكه الجيش المصرى من تاريخ ممتد منذ الدولة القديمة. تأكيدًا على هذا الدور، فقد جرى النص فى التعديلات الدستورية الأخيرة على أن القوات المسلحة مهمتها حماية البلاد والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها وصون الدستور والديمقراطية والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد. النقطة الثانية إن ثورة 30يونيو تُعتبر بمثابة ذُرْوَة الشعور الشعبى بالقومية المصرية وبروز ملامح الهُويَّة الوطنية، إذ انتفض المصريون سريعًا عندما استشعروا خطرًا على هُويَّتهم متمثلًا فى حُكم جماعة الإخوان الإرهابية التى سعت إلى طمس ملامح الشخصية المصرية لصالح مشروع يهدف لجعل مصر مجرد ولاية تابعة للنفوذ التركى الذى طمع فى استعادة السيطرة على المنطقة تحت مسمى عودة الخلافة الإسلامية، ويتساوَى الموقف الوطنى المسلمون الذين لم تخدعهم الشعارات الدينية للجماعة الإرهابية, والمسيحيون الذين رفضوا الاستقواء بأى طرف خارجى عندما أحرقت الجماعة 63 كنيسة ومبنى تابعًا على مستوى الجمهورية فى توقيتات متزامنة. النقطة الثالثة إن ثورة 30يونيو مَثلت نقطة انطلاق لموجة مَد عالمية للتيارات القومية فى مواجهة خطر تنامى الإرهاب وما ترتب عليه من موجات هجرة مشروعة وغير مشروعة على المجتمعات الغربية، وهو ما جرَى التعبير عنه بأكثر من صورة فى عدة دول، ومنها مثلًا وصول التيار اليمينى المحافظ إلى سُدَّة الحُكم فى كل من أمريكا (دونالد ترامب) وفرنسا (إيمانويل ماكرون) وأخيرًا إنجلترا (بوريس جونسون). صراع قديم متجدد بالعودة للوراء قليلًا سنعرف أن الصراع على الهُويَّة المصرية هو أحد أقدم الصراعات الفكرية والمجتمعية، وترجع أصوله لنهاية عهد الأسرة العَلوية (أسرة محمد على) فى نهاية القرن 19 وبدايات القرن ال 20، وهى الفترة التى شهدت عدة أحداث تاريخية مهمة، منها وقوع مصر تحت الاحتلال البريطانى، ثم قيام ثورة 1919، وسقوط ما سُمى بالخلافة العثمانية، وتأسيس جماعة الإخوان الإرهابية، وكذلك تأسيس أول جامعة أهلية مصرية. رفَعَ تيار القومية المصرية شعار «مصر للمصريين» ودافع رموزه (أحمد لطفى السيد، وطه حسين، ومحمود عزمى، وسلامة موسى، ولويس عوض) عن الهُويَّة المصرية فى مواجهة الاحتلال الإنجليزى من ناحية وفى مواجهة الفكرالأصولى من ناحية أخرى، وبدأ هذا التيار على يَد جمال الدين الأفغانى، الذى حاول نسف الشعور القومى وطالب المسلمين بأن (يعتصموا بحبال الرابطة الدينية التى هى أحكم رابطة اجتمع فيها التركى بالعربى والفارسى بالهندى والمصرى بالمغربى، وقامتْ لهم مقام الرابطة الجنسية). توالت عمليات إنتاج هذا التيار للرموز وصولًا إلى حسن البنا- مؤسس جماعة الإخوان-، وأخطر ما روَّج له هؤلاء قديمًا هو إقناع الشعوب بقبول الاحتلال الأجنبى وعدم مقاومة الاستعمار تأسيسًا على قاعدة (الرابطة الدينية)، ولا تزال مواقف قيادات هذا الاتجاه لم تتغير حتى يومنا هذا. عند قيام ثورة 1952 تعالت نبرة القومية العربية، فألغى اسم مصر تمامًا وأصبحت جزءًا من الجمهورية العربية المتحدة، ولكن سرعان ما خفتت هذه الأصوات بعد تولى الرئيس الراحل أنور السادات الذى أعاد بناء اليمين القومى المصرى، ولكن الإرث الناصرى من الهزيمة العسكرية، والتراجع السياسى كان أكبر من حدوث تحوُّل سياسى مصرى من اليسار لليمين بشكل سريع. ظل الصراع على الهُويَّة مستمرّا خلال الفترات اللاحقة، لكنْ الصوت الأعلى فيه كان للتيار الدينى ممثلًا فى جماعة الإخوان، وبلغت ذٌرْوَة تهديده للهوية المصرية واقترب من سحقها تمامًا خلال فترة حُكم محمد مرسى، فكان منطقيّا أن يحدث رد الفعل ببزوغ الروح القومية، واعتلائها قمة الهرم السياسى، فكانت ثورة 30يونيو 2013. تشويه منظم للعقل الجمعى رسخ هؤلاء الظلاميون لمجموعة من الأفكار والمفاهيم المغلوطة التى شوهت العقل الجمعى المصرى وجعلت شريحة منه تنظر لتاريخه بنوع من الاحتقار ولا ترى فى جدوده إلّا مجموعة من «الكفار»، ولا فى الحضارة التى بنوها سوى «أصنام» ينبغى هدمها تقربّا إلى الله. تتمثل أبرز دلالات التشويش الذى حدث لدى المصريين على يد هذا التيار فى أن كثيرًا منهم بات يفتقد للمعلومات الأساسية عن الحضارة المصرية القديمة، ومنها مثلًا أن الملك رمسيس الثانى ليس هو فرعون موسى كما يدّعى بعض الإسلاميين، فمن الثابت تاريخيّا أن رمسيس الثانى مات بعدما تجاوز التسعين من عمره وكان لديه أكثر من 100 ولد وبنت..ومن المعلومات أيضًا أن لا يوجد إثبات حقيقى لما يسمى ب«عروس النيل» وأن هذه القصة بدأها المؤرخ هيرودوت وتناقلها المؤرخون العرب، فالحضارة المصرية لم تعرف القرابين البشرية مثل حضارات المايا والأوزتيك مثلًا، أو أن زواج الإخوة كان يتم فى حالات معينة فى الأسرة المَلكية المصرية حفاظا على الدم المَلكى، فليس كل ملوك مصر ال551 تزوجوا من أخواتهم.