من بعيد يبدو المشهد لافتًا، يجبرك على الانتباه والدهشة، ما كل هذا الكم من السواد؟ هل أنا فى مصر التى أعرفها حقًا، أم أننى انتقلت فجأة إلى مدينة «كابول» الأفغانية؟ سيدات كثيرات يتشحن بالسواد لا تظهر منهن إلا عيون ضيقة تعكس واقعًا بائسًا، يمسكن فى أيديهن بأنامل أطفال صغار، يقدنهم إلى مصير مجهول، حتى وإن كان مقره معروفًا باسم مدرسة «النوران» الخاصة فى منطقة صفط اللبن بالجيزة. وكأنك فجأة ركبت آلة الزمن لتجد نفسك فى إحدى حقب التاريخ المظلمة، أو كأنك دخلت فى نفق ممتد معتم أوله فى الجيزة وآخره بين يدى طالبان الأفغانية.. الطريق الضيق المؤدى إلى المدرسة يخبرك بما ستجده فى الداخل، على جانبيه تصطف عشرات من التوك توك والعربات السوزوكى الصغيرة. سألنا المواطنين فأخبرونا أن إدارة المدرسة تفرض على المدرسات ارتداء النقاب والعباءة كشرط أساسى لقبولهن للعمل بها، فذهبنا لنتحقق من الأمر على أرض الواقع. لم يكن يحركنا الجدل الذى أثير حول مشروع قانون منع النقاب فى الأماكن العامة «المستشفيات والمراكز الصحية والمدارس ودور السينما والمسارح والمكتبات العامة والمبانى الحكومية وغير الحكومية العامة ووسائل نقل الركاب وصالات القادمين والمغادرين فى المطارات والملاعب المغلقة وقاعات المحاضرات ودور الحضانة ورياض الأطفال فى القطاعين العام والخاص». لمشروع القانون أهميته فى هذا الصدد، لكن لحين سن قانون جديد علينا تطبيق ما هو قائم بالفعل، فهناك قرار وزارى صادر عام 1995 بحظر ارتداء النقاب على المعلمات والطالبات، ولكن بعض المدارس الحكومية لا يلتزم به، ناهيك عن المدارس الخاصة التى لم تكتف بمخالفة القرار الوزارى وإنما جعلت مخالفته شرطًا للالتحاق بالعمل بها. أمام الباب شاهدنا العديد من أمهات التلاميذ يرتدين النقاب والملابس السوداء، عندما هممنا بالدخول قابلتنا إحدى المدرسات أمام الباب، ترتدى عباءة رأس «إسدال» وغطاء وجه كاملًا وجوارب سوداء، بصوت حاد للغاية ونظرات كلها تساؤلات بادرتنى: من أنت، لماذا ترغبين فى الدخول وإلى من؟، وتابعت: شكلك ليس من أولياء الأمور! قلت: بالفعل لا؛ ولكن أرغب الدخول لمديرة المدرسة.. ردت قائلة: آها تقصدين «الحاجة»! قلت لها «نعم» فى النهاية سمحت لى بدخول المدرسة، واصطحبتنى إلى غرفة المديرة أو «الحاجة» كما هى معروفة فى المدرسة وبين السكان المجاورين. كقطع الليل المظلم، يبدو المشهد داخل فناء المدرسة وفى الممرات الداخلية وبين جدران الفصول، المدرسات لا يرتدين سوى «العباءة» السوداء وعليها النقاب الرأسى، ظلمات بعضها فوق بعض، كخيمات سوداء متحركة، بداية من مديرة المدرسة وانتهاء بعاملات النظافة مرورًا بالمدرسات وبعض الطالبات وفى الخارج أولياء الأمور. دخلت لغرفة المديرة، قلت لها أنى أرغب فى العمل لدى المدرسة، وقبل أن تسألنى عن مؤهلى الدراسى فوجئت بها تسألنى: لكن ملابسك تتعارض مع لائحة تنظيم السلوك للمدرسات، وأعطتنى نسخة من لائحة يرجع تاريخها لعام 2012 تنص على إلزام المدرسات بارتداء عباءة رأس وغطاء وجه كاملًا وجوارب سوداء، أو عباءة كتف سوداء بلا ألوان أو زينة شريطة أن تكون فضفاضة مع غطاء وجه عادى، كما تشترط ارتداء اللون الأسود وممنوع وفقها نهائيًا ارتداء الألوان الأخرى. قبل أن أرفع عينى وأنا أقلب فى اللائحة وجدتها تضيف: إننا نرغب تعليم التلاميذ بالمدرسة الالتزام بالدين وهذا لا يتم إلا من خلال القدوة، فلابد أن ترى البنات فى معلماتهن القدوة طوال الوقت بدءًا من الملابس وصولًا إلى الأخلاق، والغريب أن المديرة لم تتحدث طوال 15 دقيقة التى أمضيتها معها سوى عن الكيفية التى أتخلى بها عن هذا النمط من الملابس وأرتدى العباءة والنقاب، كما أنها رفضت أن أملأ استمارة طلب العمل، حتى أغير ما أرتدى من ملابس قائلة بالضبط: «بعد ما تغيرى الزى بتاعك تعالى ونشوف هنعمل إيه». على خلاف السائد فى المدارس الخاصة تفصل مدرسة النوران بين التلاميذ من الجنسين والأهم أنها تفصل بين البنات والبنين بعد الصف الثالث الابتدائي؛ وفق ما أكدته لنا أسماء سمير إحدى أولياء الأمور بالمدرسة، وتضيف: الفصل بين الجنسين ليس قاصرًا فقط على الفصول بل وفى حوش المدرسة وتوقيت الخروج أيضًا فالبنات تخرج قبل البنين بنصف ساعة. سألت أسماء عن سر تمسكها ببقاء طفليها فى المدرسة طالما أن لديها ملحوظات على الأداء العام بها فقالت: النظام بالمدرسة أفضل من مدارس أخرى خاصة الاهتمام بالدين فهم يجبرون الطلاب على الصلاة داخل المدرسة وأنا سعيدة بتعلم أبنائى الصلاة وهذا شعور أغلب أولياء الأمور. عندما تقدمت سعدية محمد وهى خريجة كلية آداب قسم مكتبات لإدارة المدرسة للعمل أعطوها استمارة الطلب وبعد أن انتهت من ملئها طالبتها مديرة المدرسة بارتداء الزى المدرسى المنصوص عليه لائحيًا، ومديرة المدرسة سيدة منتقبة يشاركها فى الإدارة أبناؤها الأربعة، فتاتان منتقبتان وشابان ملتحيان. تقول سعدية: رغم أنى كنت وقتها أرتدى «بنطلون» عليه بلوزة طويلة تصل لما تحت الركبة لكن ارتداء بنطلونات أمر مرفوض نهائيًا بالمدرسة وقتها قالت لى المديرة: أنا خليتك تكتبى الاستمارة علشان أنتى جاية من طرف حد معانا بالمدرسة، وبكره تيجى لابسة عباءة ونقاب؛ وجعلتنى أوقع على إقرار بالالتزام بالزى الخاص بالمدرسة. تمضى الفتاة الثلاثينية فى سرد قصتها: قلت للمديرة «هل الدين الإسلامى يفرض علينا ارتداء ملابس معينة أم أنها حرية شخصية»، فأجابت ارتداء العباءة والنقاب شرط أساسى لدينا، ولكن من الممكن فى البداية نقبل بارتداء العباءة فقط ومع الوقت معنا سوف ترتدين النقاب، ولكن تمسكت بالرفض وانسحبت، وأعمل حاليًا بالمدرسة المجاورة لها. «أ.م» هى إحدى المعلمات بالمدرسة فُرض عليها ارتداء النقاب، من قبل إدارة المدرسة قالت: وافقت على ارتداء النقاب لأنى فى الأصل كنت أرتدى جلبابًا وبالتالى النقاب ليس بعيدًا، بالإضافة إلى أنى تعبت كثيرًا فى البحث عن عمل، وكشفت أن إدارة المدرسة تفرض على المعلمات توقيع إقرار بعدم خلع النقاب والعباءة، وفى حالة عدم الالتزام بالإقرار يتم فصل المخالف من مدرسة فورًا، والغريب فى الأمر أننا نوقع على هذا الإقرار دون أن يكون هناك تعاقد للعمل بين المدرسات والمدرسة، فالتعاقد الوحيد يكون على ارتداء الزى. سألنا عن وجود طلاب مسيحيين بالمدرسة، فقالت المعلمة إن المدرسة بها 9 طلاب مسيحيين فقط، وهذا إلزام للمدرسة من قبل الإدارة التعليمية حتى تبين أنها ليست مدرسة تفصل بين الأديان، وتشير إلى أن الإدارة التعليمية ألزمت إدارة المدرسة بالتعاقد مع معلمة مسيحية، وبالفعل تعاقدوا مع معلمة واحدة فقط ويرفضون توفير مكان لها لتدريس مادة الدين ودائمًا تجلس فى «الحوش»مع الطلاب المسيحيين أثناء حصة الدين. فاطمة محمد مدرسة منتقبة أيضًا بالمدرسة قالت إن وزارة التربية والتعليم أصدرت قرارًا قديمًا بمنع ارتداء النقاب فى المدارس، لكن إدارات المدارس حتى الآن لا تجرؤ على تنفيذه، وتابعت: فى حال إصرار الوزارة على تنفيذ القرار فسنجلس فى بيوتنا ومن الصعب إجبار مدرسات على خلع النقاب. وأشارت فاطمة إلى أنها تخلع النقاب أمام طلاب رياض الأطفال وطلاب المرحلة الابتدائية حتى لا يصيبهم الخوف، لكنها ترتديه أمام طلاب المرحلة الإعدادية. الطالب «ع. م» فى الصف الأول الإعدادى قال إن المدرسات يرتدين النقاب طوال الحصة، إحنا مش بنعرف نميز بين المدرسات إلا من خلال أصواتهن، كما أن علاقة المدرسات معنا تكون أكثر حدة من تعاملهن مع البنات «مفيش ضحك نهائيًا»، لذلك نفضل أن نأخذ مجموعة أو درسًا بعيدًا عن أساتذة المدرسة «على الأقل نشوف وش اللى بيتكلم معانا». إحدى طالبات المرحلة الثانية الإعدادية قالت إن المدرسات المنتقبات لا يضعنه أثناء الحصة وأنهن يميزن المدرسات عن بعضهن من خلال الأصوات، مضيفة: إن المدرسات يفرضن على البنات ارتداء الحجاب بعد الصف الرابع الابتدائى، تقول لنا: إن أى شعر يظهر تتم محاسبتك عليها يوم القيامة شعرة شعرة، وهذا يجعل البنات يشعرن بالخوف من يوم القيامة، لذلك هناك من ارتدين الحجاب وأخريات ارتدين النقاب خشية من العذاب يوم القيامة. وتابعت الطالبة: الأساتذة لا يكتفون بوجود حصة للدين وحصة للعلوم الشرعية، غير خطاب طابور المدرسة الذى غالبًا يدور حول نفس الموضوع «عقاب يوم القيامة» وإنما يقتطعن من وقت الفسحة لإلقاء خطب دينية فى الطلبة. وكشفت الطالبة أن الأستاذ عبدالله أو كما يطلق عليه «الشيخ عبدالله» اعتدى جسديًا ولفظيًا على بنت اسمها «مريم» فى الصف الثالث الإعدادى بعد أن خلعت الحجاب. قبل أن أغادر المدرسة تداعت أمامى كل العبارات الخاصة بتجديد الخطاب الدينى، أى تجديد وعقول التلاميذ تحت مقصلة يومية لا ترحم، ماكينة تعمل بكل دأب على خلق أجيال من المتطرفين، هم أنفسهم سيكونون وقودًا للتنظيمات الدينية بداية من الإخوان إلى داعش، عقول باتت مهيأة لاستقبال أى فكرة متطرفة باعتبارها تكليفًا دينىًا. لم تشغلنى الإجابة عن سؤال كيف سمح أولياء الأمور لأنفسهم بأن يفعلوا هذا بأبنائهم، ولكن شغلنى سؤال آخر أهم حول الحالة النفسية لهؤلاء الملائكة الصغار من المشاهد التى كادت أعينهم تعتاد عليها من فرط التكرار. سألت الدكتورة سوسن فايد أستاذ علم النفس بالمركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية حول خطورة ما تقوم به إدارة المدرسة على التلاميذ فأكدت على ضرورة خلع المدرسات للنقاب قبل أن يقفن أمام التلاميذ، لأن الطالب لن يثق فيها إلا إذا كان يرى تعبيرات وجهها. وأضافت فايد : اللون الأسود يتسبب فى ترهيب التلاميذ، وإخفاء الوجه يجعل الأطفال ينظرون للمجهول خاصة إذا كنا نتحدث عن الأطفال فى مرحلة الحضانة والابتدائى مما يجعلهم أكثر توتراً، ومع تكرار المشهد يوميًا قد يصاب التلاميذ بالاضطرابات النفسية نتيجة شدة الخوف، ومن الممكن أن يسبب المشهد خوفًا مرضيًا. وأضافت أستاذ علم النفس إن التواصل يصبح ضعيفًا للغاية فى وجود النقاب فى حين أن العملية التعليمية لابد يكون فيها تفاعلًا مستمرًا، فالنقاب يخلق حاجزًا كبيرًا بين التلاميذ والمدرسة، وأتمت: طالما هناك مدرسات لديهن رغبة شديدة لارتداء النقاب فالأفضل لهن الجلوس فى منزلهن.