إحسان عبد القدوس يكتب: أنا عار إلا من كفنى.. وأنا ذاهب لأبحث عن الله فى بيته.. إن السيارة تتقدم بى نحو البيت المقدس، ولكنى لا أتقدم معها.. إنى ما زلت بعيدًا، وما زلت تائها عن الطريق إلى الله.. شىء يشدنى عنه، يربطنى بالأرض، ويمنعنى من أن أسمو إلى السماء.. إلى حيث الله! إننى مقيد.. أغلال غليظة تربط روحى وجسدى وتحرمها من الانطلاق. أغلال ينسجها عقلى.. العقل الذى لا يستطيع أن يفسر ما يراه إلا بقدر وعيه.. العقل الذى لا يرى فى الصحراء سوى أنها رمال، ولا يرى فى الجبال إلا أنها أكوام من الحجارة، ولا يرى فى الكعبة إلا أنها بناء يستطيع أن يأتى ببنائه أى بناء، ولا يرى فى أستارها السوداء إلا أنها نسيج موشى أنتجته مصانع المحلة وزخرفته أيدى عمال تزيين.. وإذا أدهشه شىء من كل ما حوله فهو هذه السيارة «الكاديلاك» التى أركب فيها!! إنه العقل الذى مهما وعى ومهما اتسع له الأفق لا يستطيع أن يخرج عن حدود المادة، ولا يستطيع أن يعى أكثر مما يلمسه. يجب أن أسكت هذا العقل إذا أردت أن أصل إلى الله. يا رب أعنى على عقلى. وضغطت أعصابى كلها، واستنهضت كل قواى النفسية، حتى بدأت أسمع دقات قلبى، وحفيف رئتى، وقبضات كبدى.. وبدأت صفحات العقل تتلاشى من وعيى وتختفى فى ضباب كثيف، ومن خلف الضباب بدأت تبدو لى حواش من النور.. نور ينسكب على روحى فيوقظها ويفتحها على عالم آخر.. عالم لا يصل إليه العقل! وبدأت أرى فى هذا العالم أشياء لم أكن أراها. رأيت الجبال التى تحيط ببيت الله وقد انحنت كلها إلى الأمام وكأنها الملائكة وقد خشعوا سجدا، ورأيت جبل النور حيث غار حراء يقف بينها ضخمًا عاليًا مشرقًا كأنه عرش الله، ورأيت موجات الرمال كأنها آثار أقدام عمالقة من هواء لا نراهم، ولكن هذه آثار أقدامهم فوق الرمال وهم يسعون حول العرش. وأحسست برياح ندية تملأ صدرى، وأحسست كأنى ارتفع عن السيارة التى أجلس فيها وأسعى فى الهواء وأنا بملابس الإحرام بين الجبال والأودية. الجبال الكثيرة الجافة الخشنة والأودية الملتوية الضيقة.. والصمت الرهيب يحيط بى ويملأ أذنى ويتساقط فى قلبى.. وارتجفت وخفت.. إنى - حقًا - فى طريق إلى الله. وسحبتنى يد من داخل السيارة. إننى الآن فى رحاب البيت الكريم. ولم أرفع عينى إلى الكعبة.. لا أريد أن أرفعهما.. أخاف إن رفعتهما أن يفيق عقلى فلا يرى فيها إلا بناء يستطيع أى بناء أن يأتى بمثله، ولا يرى فى الستر السوداء إلا نسيجًا من صنع المحلة! إنى منكس الرأس مغمض العينين، أسير وراء الدليل بلا وعى.. إنما وعيى كله منحصر فى أن أتغلب على نفسى حتى لا يلهينى شىء مما حولى عن الله. وبدأت الطواف.. وسط مئات يطوفون ولا ينقطع طوافهم ليلًا ونهارًا على مدار السنة. بدأت أبحث عن الله فى بيته.. أين هو؟.. أين؟! إن هناك صوتًا يطن بجانبى ويبعدنى عن الله كلما اقتربت منه.. صوتًا خشنًا ليس فيه نغم ولا حس ولا شىء كأنه صوت أسطوانة قديمة ضاع من فوقها صوت المغنى ولم يعد فيها إلا الخشخشة. صوت من هذا؟.. إنه المطوف.. رجل يهرول بى حول الكعبة وهو يتلو أدعية فى سرعة كأنه تلميذ غبى يتلو صفحة حفظها من كتاب القراءة الرشيدة، ثم يحتم علىّ أن أرددها وراءه. أبعد يا رجل.. لا أريدك.. ولكنه لا يزال بجانبى، ولا يزال صوته الأجوف يخرق أذنى.. وأدعيته التى تتساقط من شفتيه كحبات الحصى الخشنة تقع فى طريقى وتحول بينى وبين مسعاى. أبعد عنى يا رجل.. لا أريد واسطة بينى وبين الله. ولكن الرجل محترف الدعاء لا يزال بجانبى.. وطفت الطوفة الأولى.. والثانية.. والثالثة.. والرابعة.. والخامسة.. وكدت أبكى، فإنى فى بيت الله ولا أستطيع أن أصل إليه.. إنى لم أره بعد. ولم يمد لى يده بعد.. والذنب هو ذنب هذا الرجل الذى يطوف بى وتصخب أدعيته الجوفاء من حولى. يا رب ماذا جنيت لتسلط علىّ هذا الرجل. يا رب إن كنت قد أذنبت فإنى لم أكفر بك. يا رب إن كان ذنبى كبيرًا فإن عفوك أكبر. يا رب إنى لم أصل لك كثيرًا، ولم أصم لك كثيرًا.. ولكنى آمنت بك كثيرًا، وخفتك كثيرًا، وراعيت حقك فى الناس كثيرًا، واستغفرتك كثيرًا، وتوكلت عليك كثيرًا، فلا تحسبنى فى عداد الكافرين.. وأبعد عنى هذا العذاب الأليم الذى يتمثل فى هذا الرجل الذى يزاملنى.. وأبعد عنى صوته الذى يبعدنى عنك، حتى أخلص لك. يا رب إنى جئت إليك فى بيتك.. فابد لى!! وبدأت الطوفة السادسة. وبدأ صوت المطوف يتلاشى شيئا فشيئا، ثم لم أعد أسمع شيئا، ولم أعد أحس أن لى أذنين.. ولم أعد أرى شيئا، ولم أعد أحس أن لى عينين. لم أعد أشعر بكيانى كله.. إنى روح خالصة لله. وانكفأت على جدار الكعبة.. وتعلقت فى أستارها بيدى... ورأيت الله.. رأيته فى هذه اللحظة. رأيته هنا.. فى قلبى وفى صدرى! ماذا أطلب منه.. من الله؟ وازدحمت أمامى الصور.. أمى، أبى، زوجتى، أولادى، أصدقائى، مصر.. كل هؤلاء تمر صورهم فى مخيلتى ولا أكاد أبدأ فى الدعاء لواحد حتى تقفز صورة الآخر.. كنت كالملهوف المجنون يريد كل شىء فى لحظة خاطفة لا تتسع لشىء. وسمعت شفتى تتمتمان: الحق يارب!! هذا هو كل ما نطقت به.. ومستنى يد المطوف لأتبعه فى الطوفة السابعة، فابتعدت عن الجدار المقدس.. ساهما يغمرنى إيمان عنيف، ويملأ صدرى هواء طاهر رطب يكاد يرفعنى عن الأرض ويسير بى فوق السحاب ولم أشعر بشىء فى هذه الطوفة الأخيرة.. لم أشعر بالبيت الذى أطوف حوله، ولا بالمسلمين الذين يطوفون معى، ولا بالمطوف الذى يحاول أن يسكب دعاءه فى أذنى، حتى عندما قبلت الحجر الأسود لم أشعر بشىء.. لم يتيقظ عقلى ليجادلنى فى قيمة هذا الحجر ويحاول أن يقنعنى بأنه مجرد حجر تفحم نتيجة التفاعلات الجيولوجية، ولم تنصرف إليه عاطفتى لأزداد به إيمانا فوق إيمان.. كنت لا أزال أعيش فى اللحظة الخاطفة التى التقيت فيها بالله. إنما توقفت سعادتى قليلا وأحسست ببعض التأنيب وأنا أسأل نفسى: هل من الإيمان أن أطالب الله بشىء؟! هل جئت إلى هنا لأطلب شيئا أم لأنى أحب الله حبا خالصا بلا طلب وبلا أجر؟! هل كنت أنانيا عندما ذكرت نفسى وذكرت عائلتى وأصدقائى ووطنى وأنا فى حضرة الله؟! واسترددت سعادتى وخلصت نفسى من التأنيب، عندما تذكرت أن مطالبة الله هى إحدى درجات الإيمان.. وأن الله فى كتابه يقول: «وقال ربكم ادعونى أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين».. وأن الرسل والأنبياء عاشوا يطالبون الله ويطالبون بالمعجزات، وأنا لم أطلب معجزة، إنما فقط طلبت الحق. وانتهيت من الطواف. وجلست على أرض ساحة الله فى انتظار صلاة المغرب، ولم أعد أشعر برهبة ولا بخوف، ولم أعد أقارن بين عقلى وعاطفتى، إنما كنت أشعر براحة وهدوء، كأنى فى حضرة صديق أعرفه وأحبه، ويعرفنى ويحبنى. وأخذت أرقب المسلمين من حولى.. هؤلاء الحضارمة- أهل حضر موت- فى مآزرهم الحمر، ووجوههم النحيلة، وأعوادهم الرفيعة القصيرة.. وأهل اليمن فى عماماتهم الكبيرة وأرديتهم الفضفاضة، والمسلمين من أندونيسيا والهند، والباكستان، وسوريا والملايو، وقبائل الشمال والجنوب والغرب والشرق.. وجوه مختلفة.. ألوانها مختلفة.. وأشباهها مختلفة.. ولباسها مختلف.. ثم هذا الأعرج الذى يسعى حول الكعبة فوق رجل خشبية، وهذا الكسيح الذى يطوف فوق يديه وركبتيه.. وهذا الأعمى الذى يسحبه أخوه ليمسح كفه فوق الأستار المباركة.. وهؤلاء النسوة وقد التف بعضهن حول بعض فى هذا الركن القصى، وقد أسدل بعضهن حجابا كثيفا لا يبين منهن شيئا وأسدل البعض الآخر نصف حجاب.. وهؤلاء الأطفال الصغار يمرحون فى ساحة الله ويتدللون عليه ويقفزون بين أعمدة الحرم ويرشون بعضهم بماء زمزم ثم يوقفهم شعور خفى عن الاقتراب من عرش الله، وكأنهم يعلمون أنا أباهم الكبير جالس هناك. وأن هذا البيت بيته، وكأنهم كهذا الحمام الذى يمرح آمنا مطمئنا فى ساحة الحرم دون أن يقرب الكعبة، أو يجرؤ على أن يحط فوقها. إنه عالم كبير. عالم لا يجمعه شىء إلا الإيمان.. الإيمان بالله. والإيمان ذخيرة كبيرة لو عرف المسلمون.. ذخيرة تستطيع أن تجمعهم للعلم وللفن وللحرب وللسياسة. لماذا لا يعقد هنا فى موسم الحج مؤتمر للمهندسين المسلمين، ومؤتمر للأطباء المسلمين، ومؤتمر للمحامين المسلمين، ومؤتمر للساسة المسلمين، ومؤتمر للقادة المسلمين.. إلخ. هذه هى حكمة الحج كما أرادها الله ونبيه. ولكن المسلمين نسوا حكمة الله ونبيه.. إنهم يأتون إلى هنا وكل منهم لا يسعى لشىء إلا إلى تصفية حسابه مع الله، والحصول على صك غفران.. ويعود إلى أهله وهو لا يحمل لهم شيئا إلا لقب «حاج» ولا ينتظر منهم شيئا إلا أن يستقبلوه على محطة كوبرى الليمون بالطبل والزمر.. ويقبلون يده تبركا، ثم يضعونه فى عربة «حنطور» تطوف به الحوارى والأزقة. لماذا لم يفكر المسلمون فيعقد مؤتمراتهم الشعبية فى موسم الحج، ليوحدوا صفوفهم وطريقهم فى وجه الاستعمار وفى وجه الأعداء وفى وجه الحكومات. ولماذا لم تفكر الحكومات الإسلامية فى عقد هذه المؤتمرات. ربما كان الأولى بالتفكير هى الحكومة السعودية.. وواجب الملك السعودى لا يقتصر على حماية بيت الله ومسح الكعبة وتأمين الحجاج، إنما هو أولا تطبيق حكمة الله ورسوله فى الحج. وحكمة الله ورسوله هى جمع كلمة المسلمين على مستقبلهم وعلى أعدائهم. مرت بى كل هذه الخواطر وأنا جالس على أرض الحرم فى انتظار صلاة المغرب. وغربت الشمس وخيل إلى أنها غربت فى هذا البيت الأمين.. وتركت وراءها هالة كبيرة من الضوء الخافت الوردى لفتنا فى طياتها وكأنها تحملنا إلى الله. ورددت مآذن الحرم الدعوة إلى الصلاة فى أصوات خافتة باكية ترتجف من الخشوع. ووقفت أصلى، وكأنى لم أنقطع عن الصلاة يوما.. حتى التحيات التى لم أتلها منذ سنوات، جرت على شفتى كأنى لم أنقطع عن تلاوتها أبدا. - وكنت سعيدا وأنا واقف بين يدى الله. وخيل إلى من فرط سعادتى أنى أبتسم وأنا أصلى.. ألست واقفا بين يدى صديق.. ألست صديق الله؟! نشر بالعدد 1344 بعد عودة إحسان من الحج.