«كمن يسير داخل حقل ألغام يوشك أن يقع فى المحظور فى أى لحظة»، هكذا هو حال الشاب الذى قرر بإرادته الحرة أن يدخل فى سلك الكهنوت ويخلع عنه حياته الدنيوية ليرتدى الجلباب الأسود والقلنسوة والصليب. عندما يراه الكثيرون يتصورون أنه أصبح من «علية القوم» وأنه دخل دائرة الضوء والسلطة، وانتقل فى لحظة من كونه إنسانًا عاديًا إلى شخص صاحب سلطة، وله كلمة مسموعة فى أوساط كثيرة، يعتقد البعض أنه عندما اختار أن يتنازل عن حياته الطبيعية ليدخل فى هذا المجال أنه يبحث عن مجد وشهرة من نوع مختلف، ولكن لم يسأل أحد أبدًا كيف يعيش الأب الكاهن؟! كلمة كاهن تعنى خادم أوامر الرب بتقديم الذبيحة، وهى مشتقة من الكلمة العبرية «كوهين» أى المنبئ بأمر الرب والكاهن له منزلة النبى وله امتيازات أكثر من الأنبياء، إذ إن الكاهن مؤتمن على الشريعة ومسموح له بتقديم الذبائح إلى الله للتكفير وحمل خطايا الشعب كما ورد فى سفر اللاويين، وفى تعاليم الرسل فى العهد الجديد. حسب المفهوم الحقيقى فى المسيحية هو شخص خلع زيه العلمانى خدمة لله، ولذلك هو مطالب بأن يرضى 5 جهات أساسية هى: الله وضميره الإنسانى ثم أسرته تلك المملكة الصغيرة التى تظلم معه دائمًا، وشعبه ورعيته التى تلقى مشاكلهم على كتفه، ثم الأسقف الذى يملك فى الواقع سلطة مطلقة. لكل مهنة أمراضها، ويرى بعض رجال الدين المسيحى أن أهم الأزمات التى تواجههم بعد رسامتهم هي «تبلد المشاعر»، وهو أمر ينتج من كثرة المشاكل والأحداث والجنازات والأفراح التى يتعامل معها بشكل روتينى يومى. هناك من يجد أن الكبرياء والغرور من أهم الأزمات النفسية التى تصيب بعض الكهنة فى بداية خدمتهم، حيث التحول من شخص عادى جدًا لشخص ذى مسئولية وصاحب قرار، يوجه ويرشد وتقبل يده دائمًا، وهنا عليه أن يجرى مسرعًا لمرشده الروحى الذى بدوره يعطيه قانونًا روحيًا صارمًا يجب أن يلتزم به حتى يعود لصوابه ويصبح خادمًا للكل. غير أن الظلم الواقع على أسرة الكاهن كان محل اتفاق بين الجميع، حيث تحرم بين ليلة وضحاها من أشياء كثيرة كان يقوم بها رب الأسرة، كما تصبح طوال الوقت رهن الملاحظة والرصد كونها واقعة فى بؤرة الضوء. يقول القس لوقا راضى كاهن بكنيسة ماريوحنا المعمدان بمركز القوصية محافظة أسيوط؛ إن أسرة الأب الكاهن تظلم كثيرًا، حيث إنه من الممكن أن تمر أيام لا يرى الكاهن فيها أولاده، ويقتصر التواصل بينهم على المكالمات التليفونية فقط، كما أن هناك أشياء كثيرة لا يستطيع أن يقوم بها مثل شراء مستلزمات الأسرة والمعاملات اليومية حتى ولو مرض أحد أبنائه ليلاً لا يستطيع التعامل بسهولة معه. ويضيف القس لوقا: إن اختيار إنسان للوظيفة الكهنوتية هو بمثابة ولادة جديدة وحياة جديدة؛تبدأ أولا ب«الترك» أى أنه يترك اسمه ويكون له اسم جديد؛ يترك ملابسه ليكون له زى جديد، يترك عمله ليكون له عمل جديد. ثانى ما تتطلبه الحياة الجديدة هو «التخلى» حيث يتخلى عن راحته لأنه صار خادمًا لشعب؛ يترك فكره الشخصى لأنه صار تحت فكر الله؛ يتخلى عن كثير من أسلوب حياته ليكون طوع المسئولية الجديدة. هذا التغيير يتطلب إعدادا للكاهن فيبقى أربعين يومًا بعد رسامته مباشرة فى الدير تحت يد أب ومرشد روحى يعلمه ويدربه ويهيئه على الصلوات الخاصة بالكاهن وهى كثيرة جدًا والألحان الكنسية؛ وأيضًا على التعامل مع رعيته الجديدة فى الافتقاد وحل المشكلات والاعترافات إلى آخره. ويلخص لوقا الكهنوت فى أنه «بذل من أجل راحة الغير، فعليه أن يفتقد الكل؛ يحفظ أسماء الكل؛يعمر ويبنى؛يحل المشكلات؛ يصلى؛ يعظ؛ يسافر، هذا ما ينتظره منه المسيحيون وهى توقعات فوق إمكانيات البشر. القس «مينا» أكد أن أكثر شىء مرهق فى الكهنوت أنه فى بعض الأحيان يصيبك بتبلد الأحاسيس، وذلك ينتج من كثرة ما يشاهده الكاهن فى خدمته، فقد يدخل عليك شخص باكيًا ليخبرك بأن والده توفى؛ فتجد نفسك تتحدث معه عن موعد الجنازة وترتيباتها وفتح المدافن إلى آخر هذا الكلام وكما لو أنه روتين يومى عادى. كذلك تجد بعض الكهنة يصيبهم الكبرياء خاصة فى بداية خدمتهم، وذلك لأنه يصبح شخصًا «بركة» تقبل يده كلما تراه، ومنهم من يدرك الأمر سريعًا ويعمل على علاج هذا العرض، ومنهم من يستمر فيه ولكن لفترة حتى يدرك حقيقة ما حدث له، وبالتالى يذهب لمرشده الروحى الذى يعطيه قانونًا كنسيًا يعمل على مساعدته ليسير نحو الهدف الأساسى وهو خدمة الجميع. ويضيف «مينا»: الكهنة الجدد بعد رسامتهم مباشرة يذهبون لأحد الأديرة لقضاء فترة أربعين يوما يكونون تحت إشراف مرشحين روحيين يعلمونهم كيفية التعامل فى سر الاعتراف، ومنهم من قال لنا: «حينما يأتى إليك المعترف؛تذكر وأنت معه خطاياك أو ركز فى أى شىء آخر وذلك حتى تنسى ما قيل لك فور خروجه من عندك». ويؤكد أن أصعب شىء قد يواجه الكاهن هو تذكره المستمر لبعض الاعترافات التى قد تسبب له فى بعض الأحيان عثرة فى حياته، ولذلك يعمل المرشد الروحى على فكرة النسيان. وتقول «جورجيت» وهى إحدى الخادمات التى شاركت فى مؤتمر أقامته أسقفية الشباب لتأهيل الكهنة للتعامل مع المعترفين إنها سعدت جدًا بالمشاركة فى مثل هذا المؤتمر الذى أكد على تطور فكر الكنيسة الأرثوذكسية تجاه معاملة الكهنة لأبنائهم، خاصة الذين قد يعانون من مشاكل كبيرة مثل الإدمان والاغتصاب والعنف الأسرى. وتوضح أن المحاضر كان أجنبيًا وتناقش معهم عن كيفية معالجة مثل هذا الموقف وألا يكون الحل فقط فى أنه يسمع ويصلى، ولكن يجب أن يكون مؤهلاً للمتابعة والعلاج وأنه فى مثل تلك الحالات يتحول إلى «ميسر نفسى» تعمل معه مجموعات من الحكام يتم تدريبهم على التعامل والمساعدة والمساندة. وأضافت أن ما لفت نظرها هو التجاوب الكبير بين المحاضر والآباء الكهنة خاصة فيما يتعلق بالإدمان وكيفية تقبل فكرة أن يكونوا أداة للحل وليس السمع فقط، وهى تعتبر نقلة كبيرة فى فكر الكنيسة التقليدى. أما المفكر القبطى «كمال زاخر»؛ فيؤكد أن الكاهن فى الكنيسة الأرثوذكسية المصرية التقليدية يعانى كثيرًا خاصة فى ظل الرفض المجتمعى المتنامى والمتزايد، فهو يعانى من نظرات الناس فى الشارع له، فلا يستطيع أن يخرج للتنزه مع أهل بيته، كذلك يحرم من السفر والذهاب للمصايف أو السينمات أو أى شىء ترفيهى. كذلك يكون مطلوبًا منه أن يتعامل مع زملائه الكهنة والذى لا يعرف أحد كيف ينظر كل طرف للآخر والتى عادة ما تتوقف على طبيعة البيئة المحيطة، فهل مثلا يرونه منافسًا أم مكملاً لهم أم جاء ليحمل عنهم بعض أعمالهم الخاصة بهم؟ كذلك يكون مطلوبا من الكاهن أن يرضى الأسقف المسئول عنه والذى فى الغالب تكون له سلطة مطلقة، وبالتالى يكون على الكاهن أن يخضع له بشكل كامل خاصة مع عدم وجود آلية واضحة للتعامل بينهما. ويضيف زاخر أنه على الكاهن أيضًا أن يرضى أسرته التى تعانى معه من اليوم الأول لرسامته، حيث يتحول لشخصية مباحة ومتاحة فى كل وقت طوال الأربع والعشرين ساعة، ولذلك دائمًا ما يحاول أن يعوضهم عن عدم وجوده المستمر والذى يلقى بعبء الأسرة على كاهل الزوجة. ويوضح زاخر أنه فى كل هذا لا أحد يسأل عن مشاعر الكاهن الذى إذا نجح فى إرضاء كل الأطراف فهل سيكون نجح فى إرضاء ضميره وربه؟ ويؤكد زاخر أن انتشار المفاهيم المغلوطة أصبح يسبب أزمات كبيرة يحملها الكاهن وحده على عاتقه، ومن أهم هذا المفاهيم هو سر الاعتراف ،مشيرًا إلى أن الكنيسة الأولى حتى القرن الثامن عشر لم يكن أى كاهن بها يستطيع أن يأخذ اعتراف الشعب، بل كان لشخصيات معينة فقط وتكون مؤهلة بشكل واضح على ممارسة هذا السر وهو معروف باسم «التوبة والاعتراف». ويشير «زاخر» إلى أن غياب المرشدين الروحيين حول الكاهن لطبيب نفسى وجلسة الاعتراف لجلسة علاج، وبالتالى أصبح الإنسان يبحث عن تبرير الذات وليس تقديم توبة حقيقية، ولذلك نجد أن أغلب الناس تكرر ما تقوم به لأنها لم تقدم توبة حقيقية، وكذلك أهدرت وقتًا كثيرًا، الكاهن الذى هو فى النهاية بشر يحتاج الراحة الطبيعية والمكفولة له خاصة فى ظل العبء الكبير الواقع على الكاهن فقط، حيث إنه لابد أن يصلى القداس والعشية يوميا؛كذلك عليه حفظ الألحان الطويلة، وكل هذا الأمور الطقسية والتى تؤثر فى النهاية على أدائه الروحى؛ إلا أنه لا أحد يرى ما يتواجد داخل الكاهن من أعباء وصراعات كبيرة ليصل إلى هدفه الأساسى وهو خدمة بيت الله.