كامل الشناوى يكتب عن سيدة بألف رجل: قال لى فتحى غانم: بعد أيام تبلغ «روزاليوسف» عامها الثانى والثلاثين، وكدت أضع كفى على فمه حتى لا يسترسل فى هذا الحديث.. فلا ينبغى للإنسان المهذب أن يتكلم عن أعمار السيدات، والمفروض فى فتحى أنه إنسان مهذب!.. ولكن فتحى غانم لم يكن يتكلم عن السيدة «روزاليوسف»، وإنما كان يتكلم عن مجلة «روزاليوسف».. والواقع أن ما أعرفه عن السيدة «روزاليوسف» يجعلنى أعتقد أن الحديث عن عمرها لا يسىء إليها، فقد عرفتها رجلاً.. كانت دائمًا ثائرة متحررة، عنيدة، شجاعة، تهاجم فى عنف، وتؤيد فى رفق، لا تقول إلا ما تعتقد، ولو كان ما تعتقده يعرضها لغضب الحاكم أو سخط الجماهير... فبين الناس من لا يقول كلمته.. وبينهم من يقول كلمته ويمشى.. وبينهم من يقول كلمته ويقف وراءها. ولقد عشت مع «روزاليوسف» وهى تقول كلمتها وتتمزق قطعة قطعة.. روزاليوسف السيدة، و«روزاليوسف» المجلة، و«روزاليوسف» الجريدة اليومية!.. كان ذلك فى عام 1935، وقد صدرت جريدة «روزاليوسف» اليومية، وأحدث صدورها انقلابًا جارفًا فى عالم الصحافة، صدرت فى 16 صفحة، واشترك فى تحريرها العقاد وعزمى وتوفيق صليب وزكى طليمات وعدد لا يحصى من الفنانين والرسامين والمصورين وعشرات من الصحفيين بعضهم كان معروفًا، وبعضهم صار معروفًا.. وقد اكتسحت «روزاليوسف» بقية الجرائد، بلغ توزيعها مائة ألف، وكان مجموع ما توزعه كل الجرائد الصباحية والمسائية الأخرى لا يزيد على مائة ألف!.. وكان مفهومًا أن «روزاليوسف» اليومية، لسان من ألسنة الوفد، ولكن الوفديين تنكروا لها، وأيدوا جريدة الجهاد التى كان يصدرها الأستاذ الكبير محمد توفيق دياب، وقد حدث أن انتدبتنى جريدة «روزاليوسف» لمرافقة رئيس الوفد فى رحلته إلى الصعيد.. ولم يكد يرانى حتى سألنى: إيه اللى جابك؟ فقلت: أنا مندوب «روزاليوسف» اليومية... فقال بصوت عال: روزاليوسف دى إيه.. فين مندوب الجهاد ومندوب كوكب الشرق؟! ولم أستطع أن أستمر فى مصاحبة رئيس الوفد، فعدت إلى القاهرة وكان سيادته لايزال فى سوهاج!.. وكان سر الخلاف بين الوفد و«روزاليوسف» أن «روزاليوسف» عارضت الوزارة القائمة، وزارة نسيم باشا، وكان الوفد يؤيد الوزارة النسيمية، فقد جاءت عقب استقالة وزارة صدقى، ووزارة عبدالفتاح يحيى، وكان معروفًا أنها وزارة انتقال، وقدجرت العادة على أن تجىء وزارات الانتقال لتمهد طريق الحكم أمام الوفد.. وكان الشعب ثائرًا على الوزارة النسيمية، فقد أعلن رئيسها أنه سيعيد الدستور، ويجرى الانتخابات العامة، ومضت الأيام، والأسابيع، والشهور ولم يبد فى الجو ما يبشر بقرب عودة الدستور، وإجراء الانتخابات.. كانت الصحف تجامل توفيق نسيم، وانفردت «روزاليوسف» بمعارضة الوزارة النسيمية، وجَمَل لواء المعارضة كل كُتّاب «روزاليوسف» وفى مقدمتهم الكاتبان الكبيران الأستاذ عباس العقاد والمرحوم الدكتور محمود عزمى. وأصدر نسيم باشا بيانًا للناس، حاول فيه أن يرد على حملات «روزاليوسف» ويطمئن المتشككين فى موقفه إلى صدق وطنيته، وحُسن نواياه!.. وقامت «روزاليوسف» بحملة جديدة على نسيم باشا، وتدخّل رئيس الوفد وزعماؤه لوقف الحملة، ولكن «روزاليوسف» أصرت على موقفها.. قال لها العقاد: إن حملاتى قد تتسبب فى إلغاء رخصة الجريدة.. فما رأيك؟ فقالت: ولو! قال لها عزمى: لقد علمت أن الوفد سيصدر قرارًا بخروج «روزاليوسف» على الوفد ومعنى هذا أن الجريدة ستنهار.. فقالت: ولو! وعقَد الوفد اجتماعًا عاجلاً.. كان أعضاء الوفد فى الإسكندرية، فجاءوا القاهرة فى قطار الصباح، واجتمعوا وقرروا أن «روزاليوسف» لا تعبر عن رأى الوفد.. ثم عاد الأعضاء إلى الإسكندرية فى قطار المساء! وقد صدر القرار يوم الأحد وهو يوم العطلة الأسبوعية ل«روزاليوسف» اليومية، فأصدرت «روزاليوسف» ملحقًا يحمل قرار الوفد وكانت عناوينه الكبيرة تحوى هذه الكلمات: «الوفد المصرى يحل القضية المصرية، فى جلسة خطيرة يحضر لها من الإسكندرية». ثم نشرت نَص القرار وعلقت عليه بالآية القرآنية الكريمة: «قد افترينا على الله كذبًا إن عدنا فى ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا». «ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين». وقد بيع من هذا الملحق 200 ألف نسخة.. وفى اليوم التالى بدأ العقاد بنشر مقالاته العنيفة ضد الوفد، ورئيس الوفد، وسكرتير الوفد، وكان العنوان الرئيسى لهذه المقالات هو «لسنا عبيدًا يا عبيد!». وانبرى الأستاذ مكرم عبيد سكرتير الوفد للرد على العقاد فى سلسلة مقالات كان عنوانها : «نهاية العقاد». وتخلى الجمهور عن جريدته، وهبط توزيع «روزاليوسف» من مائة ألف إلى عشرة آلاف.. ثم وصل التوزيع إلى ألف نسخة.. وفى هذه الأثناء كانت السيدة «روزاليوسف» ترفض كل وساطة للصلح مع الوفد، أو الصلح مع الوزارة، وكانت المظاهرات تطوف بدار «روزاليوسف»، وتهتف بسقوطها وسقوط محرريها، ولم يكن أحد منهم يجرؤ على مواجهة الجماهير إلا شخص واحد.. هو هذه السيدة الرجل!!.. رأيتها وهى تقف وحدها بين المتظاهرين الهاتفين بسقوطها وقد صاحت فيهم: - يا مجانين.. يا مجانين. اذهبوا إلى بيت الأمة واهتفوا بسقوط من باعوكم للإنجليز.. وتوفيق نسيم.. وألجمت الدهشة أفواه المتظاهرين، فارتفع صوت روزاليوسف يهتف بسقوط زعماء الوفد واحدًا واحدًا.. وهنا أخذ المتظاهرون يقذفونها بالحجارة والطوب وجذبها المحررون من ردائها وأغلقوا النافذة.. وتوقفت جريدة «روزاليوسف» عن الصدور ولم يمض عليها أكثر من سنة!! هذه السنة حفلت وحدها بمتاعب لم تحفل بمثلها كل حياة «روزاليوسف» الصحفية.. هذه السنة فى كفة وال32 سنة فى كفة.. كانت «روزاليوسف» تواجه غضب الحكومة، وثورة الجماهير، المنافسة.. كانت تحمل على كتفيها عبء الهزيمة، وعبء النضال، وطفلتها آمال، وطفلها إحسان.. ما أسرع مرور الأيام.. إنى أرى اليوم بعينى الذاكرة.. كيف ضممت الطفلة الصغيرة إلى صدرى.. وحملت الطفل الصغير بين يدى.. وقد عشت حتى رأيت الطفلة أُمًّا.. ورأيت الطفل رب عائلة ورئيس تحرير!! ولكن الكتفين المتعبتين، كتفى السيدة الرجل.. لم تستريحا بعد.. لقد نزل عنهما ولدان صغيران، وحل مكانهما ولدان آخران، أكبرهما ولد شقى عفريت اسمه «روزاليوسف».. وأصغرهما ولد هادئ وديع اسمه «صباح الخير»!! نشر هذا المقال بمجلة «روزاليوسف» فى 29 أكتوبر من العام 1956م