لعل إحسان عبدالقدوس هو الكاتب الأكثر اهتماما بأم كلثوم، على الصعيد الكمي، فى تاريخ الأدب المصري، ويتجلى ذلك بوضوح فى أعماله الروائية والقصصية. يتسع عالمه لاستعراض جوانب شتى من تأثيرها على المجتمع المصرى عبر أكثر من نصف قرن، فهى جزء أصيل من نسيج الحياة اليومية، الاجتماعية والفنية على حد سواء.. فى السطور التالية، نتوقف أمام الجانب الاجتماعى من خلال قصة قصيرة تكشف عن الكثير من جوانب تفرد وخصوصية أم كلثوم. قصة «الله الله.. يا ست»، مجموعة «علبة من صفيح صدئ»، من عنوانها إلى نهايتها، خير تجسيد لمكانة أم كلثوم الاجتماعية، دون نظر إلى قيمتها الفنية التى لا تحتاج إلى دليل أو برهان. تصل مكانتها هذه إلى الذروة فى حفلاتها الشهرية، تلك التى ينتظرها الناس، ويجتمعون بفضلها. أهمية الحفلات لا تقتصر على الاستماع وحده، فهى أيضا طقس اجتماعى وعيد حافل بالمسرات الجديرة بالانتظار، واللافت للنظر أن نسبة لا يُستهان بها ممن يتحلقون حول أجهزة الراديو لا يسمعون بقدر ما يتكلمون!. يكشف عنوان القصة عن خصوصية شخصية أم كلثوم، التى لا تُذكر كلمة «الست» إلا مقترنة بها، وفى مفتتح القصة اقتحام مباشر لموضوعها: «بدأ أفراد الشلة يتوافدون على منزل السيد المهندس محمد برعى أحد مديرى العموم بوزارة الأشغال.. وقد تعودوا أن يجتمعوا فى مثل هذا اليوم من كل شهر.. فى منزل أحدهم.. لسماع حفل السيدة أم كلثوم المذاع من الراديو». يعبر شخوص القصة فى تنوعهم عن شريحة اجتماعية واسعة، يتفق أفرادها فى حب أم كلثوم و«استغلال» حفلاتها كفرصة للتلاقى والشكوى والاستمتاع والاستماع لبعضهم البعض فى إطار تنفيسي: مدير عام بوزارة الأشغال، مدير مكتب وزير الأوقاف، محام، موظف فى هيئة الاستعلامات، طبيب. الجميع مع زوجاتهم، وموضوعات الساعة الأكثر أهمية، على الصعيدين السياسى والاقتصادي، هى مثار الاهتمام ومجال الحديث. أم كلثوم أداة حيوية للتداوى والعلاج، أو كما يقول أحدهم: «والله ما فى حاجة بتخفف المصايب إلا أم كلثوم.. الواحد يقبض من هنا ويتغم.. ويفضل مغموم لغاية ما يسمع الست». الأحاديث العامة العادية هى الشغل الشاغل للرجال والنساء على حد سواء، والحفل الشهرى وسيلة تجميع وحشد: «الساعة كام يا جماعة.. اوعى تكون الست ابتدت.. - ياه.. الساعة عشرة ونص.. دى زمانها ابتدت من زمان». الحياة تجذبهم بمشاكلها التى لا تنتهي، والهموم تسيطر عليهم وتشغلهم حتى عن أم كلثوم نفسها!، ومن هنا تنتهى القصة بسخرية إحسان من الممارسات البرجوازية الحافلة بالتناقض. الاجتماع للاستمتاع بالسماع يتحول إلى سمر ودردشة وتدافع إلى حجرة الطعام، وتساؤل عابر من أحدهم: «تفتكر الست حاتغنى إيه الوصلة الجاية؟ - أمل حياتى طبعا. - يا سلام.. عظيمة الست دي». لم يستمع أيهم إلى الوصلة الأولي، وربما لن يستمع أحد إلى الوصلة الثانية، لكن المهم هو اختلاس الفرصة للتلاقى واختراع مناسبة للقاء. أم كلثوم هى خالقة الحياة الاجتماعية التى يعز تحقيقها، فى ظل دوامة اللهاث اليومى من أجل استمرار الحياة. إذا كانت الجلسة العائلية المقدمة فى القصة السابقة، «بريئة» لا تتجاوز مسراتها الثرثرة والطعام، فإن حفلات أم كلثوم الشهرية تقترن أحيانا بالمخدرات. فى قصة «حتى لا يطير الدخان»، يعتمد فهمى عبدالهادى على «الغرزة» فى بناء مستقبله، وهو يرى أن مصر ليست منقسمة إلى أحزاب سياسية بالمعنى الصحيح للكلمة، بل إلى مجموعة من الغرز: «كل غرزة لها أعضاء يخدمون بعضهم بعضا فى سبيل بناء الوطن.. وكانت ليلة من ليالى أم كلثوم.. وهى الليلة التى يزدهر فيها الحشيش ويرتفع ثمنه ويصل إلى قمته.. عندما استطاع فهمى أن يقنع صديقه عبدالمحسن بأن يتوسط له لدى والده المحامى الكبير عبدالمجيد مرعى ليقبله فى مكتبه تحت التمرين». رؤية فهمى للواقع السياسى المصري، على اعتبار أنه مجموعة من «الغرز»، تتوافق مع شخصيته وتنسجم مع الأجواء التى تقدمها القصة. المسألة هنا ليست فى الاتفاق أو الاختلاف مع تصوره هذا، لكن الجدير بالاهتمام هو الحديث عن حفلات أم كلثوم الغنائية وتحول لياليها إلى موسم لازدهار الحشيش ورواجه وارتفاع ثمنه!. لا تخلو مقولات فهمى من صواب، وتحتاج فحسب إلى تفسير وتوضيح، ذلك أن أم كلثوم ليست سببا فى وجود الحشيش، الإدمان الذى لا ينتهى برحيلها، فهى تظهر على الساحة الفنية وتنتشر وتنجح فى ظل وجوده السابق لتألقها. إنها ليست مسئولة عن شيوع التعاطي، وازدهاره فى ليالى حفلاتها مردود إلى الحشاشين أنفسهم بطبيعة الحال.