وكأننا ننهل من معين لا ينضب، هكذا الحال مع قصص بطولات الجيش المصرى خلال حرب العزة والكرامة فى أكتوبر 1973، مثلما سجل التاريخ العديد من البطولات الجماعية للقوات المسلحة المصرية خلال الحرب، لا يزال العديد من البطولات والقصص الفردية المنسية قادرا على الإبهار بها رغم مرور الزمن وتتابع الأحداث. وإذا كان ماحققته القوات المصرية على مستوى الخطط والاستراتيجيات يدرس فى المعاهد والكليات العسكرية حتى يومنا هذا، فإن قصص البطولات الفردية تستحق أن تسجل بماء من ذهب فى صفحات الوطنية والفخار. من بين القصص المسكوت عنها فى الحرب واحدة تستحق أن تكون موضوعا لفيلم سينمائى، أبطاله ثلاثة ضباط أشقاء، خاضوا المعركة فى صفوف الجيش المصرى على جبهات مختلفة، فالأول هو الرائد مجدى بشارة الذى خدم فى سلاح الدفاع الجوى، والثانى هو الرائد طيار وصفى بشارة وهو قائد ثانى السرب 49 مقاتلات، أما الثالث فهو النقيب كمال بشارة وكان وقتها ضابطا فى مدفعية الجيش الثانى الميدانى. أبطال الحكاية رفضوا أن يتخلف أى منهم عن الحرب ويبقى لرعاية والديه، وهو حقهم، لكنهم جميعا أبوا إلا أن يخوضوا حربا شرسة مع العدو ليخلد التاريخ تفاصيلها، والعظيم أن والديهم لم يكونا على درجة أقل من ذلك، فسمحا لهم بالذهاب. عاش الأب والأم ساعات وأيامًا تحت سيطرة مشاعر القلق القاسية، وبينما هم على حالتهم تلك حتى جاءهم خبر كان وقعه عليهم كالصاعقة، لقد نال ابنهم مجدى الشهادة، وبقلب صابر رغم ما يعتصره من ألم أقاموا سرادقًا لتلقى العزاء فى ابنهم، وكلهم يقين أن أخويه وصفى وكمال سوف يثأران له وللوطن. لم تمض سوى ثمانية أيام حتى اتصل بهم مجدى ليخبرهم أنه لا يزال على قيد الحياة، وبعد ثلاثة أيام جاءهم خبر آخر بأن مجدى قد نال الشهادة لكنهم لم يصدقوا الخبر هذه المرة وإن كانت مشاعر الخوف والقلق قد ساورتهم. قصة صناعة الأبطال الثلاثة لم تبدأ مع حرب أكتوبر ومن قبلها حرب الاستنزاف وإنما بدأت منذ طفولتهم، حيث كانت الأسرة البسيطة تقيم فى مدينة بورسعيد، كما يروى لنا الرائد مجدى بشارة ويقول إن والده بشارة عاش قصة معاناة تحت وطأة الاحتلال الإنجليزى وإن كانوا يعانون من الإنجليز لدرجة قتل وإصابة الطلاب عندما قاموا بالمظاهرات فقرر بشارة وزملاؤه الانتقام من الإنجليز رغم أن عمرهم كان دون العاشرة. تمكن بشارة مع زميليه نبيل منصور وأحمد العجرودى من حرق بعض الخيام فى معسكر الإنجليز ببورسعيد ورد الإنجليز بقتل نبيل منصور وإصابة العجرودى. تمنى مجدى أن يصبح ضابطا فى الجيش عندما يكبر وأثناء حرب أكتوبر كان برتبة رائد بسلاح الدفاع الجوى وكان قائد كتيبة صواريخ سام 3 فى الجبهة نطاق الجيش الثانى منطقة فايد. ويمضى مجدى واصفا: مشاعر الأب والأم كانت لا توصف لأننا كنا فى معركة كل يوم فأنا وشقيقى وصفى نشتبك مع طائرات العدو والأخ الثالث فى سلاح المدفعية ووالدى تم إبلاغه نبأ استشهادى مرتين وقت الحرب استمرت ثمانية أيام ثم اكتشفوا أننى حى والثانية استمرت ثلاثة أيام وهى ظروف صعبة على أى شخص. وتابع مجدى: كنت أجد صعوبة شديدة عندما أريد الاطمئنان على شقيقي- وصفى وكمال- لكن الأهم كان تحقيق النصر وأذكر أننى فى حرب أكتوبر أسقطت طائرة ميراج وأخرى فانتوم وفى 9 أكتوبر وبعدها بشهر ضربت طائرة سكاى هوك وقمت بالقبض على الطيار الإسرائيلى وتسليمه. ولا ينسى الرائد مجدى بشارة وقت حرب أكتوبر معركته الكبرى ضد إسرائيل فى الجزيرة الخضراء التى تقع وسط خليج السويس والتى كانت من أهم المواقع العسكرية المصرية فى حرب الاستنزاف 1969 وكانت قوات الدفاع الجوى تتمركز فى الجزيرة وحاولت إسرائيل السيطرة عليها بكل الطرق وأمام الحصار الإسرائيلى للجزيرة طلب مجدى بشارة أن تقوم المدفعية المصرية بضرب الجزيرة وهو عليها ولم يخف الموت وفرت إسرائيل بعد أن جمعت قتلاها والمصابين وهذه المعركة تدرس بكل المعاهد العسكرية فى العالم، وظل الرائد مجدى بشارة بعد نصر أكتوبر فى أداء مهامه حتى وصل إلى لواء ورئيس شعبة البحوث فى الدفاع الجوى. كان الأخ الثانى البطل وصفى بشارة وقت الحرب رائد طيار وقائد ثانى سرب 49 مقاتلات ودوره كان حماية القوة الضاربة والجيش أثناء العبور ولا ينسى هجوم 90 طائرة إسرائيلية فى حرب الاستنزاف على قاعدة أنشاص وأنه قام بتفجير 4 طائرات إسرائيلية منها طائرة فانتوم وحصل على مكافأة قدرها 2000 جنيه على تدمير الطائرات الأربع. بتأثر واضح يروى وصفى عن مشاعره المتضاربة عندما علم نبأ استشهاد شقيقه مجدى الأول ثم الثانى وعن فرحته التى لا توصف عندما علم بأن أخاه لم يستشهد وأنه على قيد الحياة، مشيرا إلى أنهم فى كل لحظة خلال حرب أكتوبر وقبلها حرب الاستنزاف كانوا على أتم الاستعداد للنصر أو الشهادة دفاعًا عن الجميع. لم يستطع وصفى أن يصف شعوره فى اللقاء الذى جمع بين المقاتلين الثلاثة فى منزل العائلة بعد العبور والنجاة. وسط مشاعر الدهشة والذهول وقفت الأم غير مصدقة عودتنا وأننا نقف أمامها فى كامل الصحة والعافية وظلت تحتضننا وتقبلنا غير مصدقة عودتنا إليها وكان أول لقاء لنا بالأسرة منذ ثلاثة أشهر قبل أكتوبر بشهرين وبعد النصر بشهر وأنا وإخوتى لم نصدق أيضا تجمعنا مع الأسرة، خاصة أن أمى وأبى وأختى تلقوا نبأ وفاة شقيقى مرتين فى أكتوبر. الأخت الصغرى التى كانت وقتها طالبة كانت فخورة بأن إخوتها الثلاثة يقاتلون على الجبهة دون خوف أو تردد وأنهم يلبون نداء الوطن فى أروع بطولاته وكان الأب سعيدا وكان أكثر تماسكا، وكان يرى أنه لم يقدم إلا الواجب وأن أى أب فى موقعه كان سيفعل ما فعله ويقدم أولاده تلبية لنداء الوطن. ويمضى وصفى قائلا: الجميع كان فخورا بما حققته القوات المسلحة من نصر بفضل عزيمة وإصرار مكناها من كسر أنف إسرائيل وهذه القصص يتم توارثها للأجيال القادمة فى العائلة للفخر والمباهاة. يقف وصفى للحظات قبل أن يستطرد: الجنود الذين يحاربون الإرهاب فى سيناء هم أبطال مثل أبطال أكتوبر ولديهم عزيمة وإصرار على وأد الإرهاب والقضاء عليه وهم يخوضون حربا شرسة ضد عدو جبان وخائن ويجب أن نقف جميعا خلفهم وبكل قوة. البطل الثالث والأخ الأصغر كان النقيب كمال بشارة قلينى وخدم خلال حرب أكتوبر فى سلاح المدفعية وكان فى منطقة الفردان ويقول كمال بشارة إنه كان من الممكن أن يتحول أحدنا إلى سلاح إدارى ولكننا رفضنا وكانت مشاعر الأب والأم والشقيقة الرابعة لا توصف.. وكنا نصر على الحرب والعبور وتحقيق النصر، كل فى موقعه يؤدى عمله بكل عزيمة وإصرار ولم نكن نتمكن من التواصل مع بعضنا وكل أخ مشغول بالمهام التى يؤديها ودوره فيها لتحقيق النصر. ويتذكر أنه كان تحت قيادة المشير أبوغزالة وقت الحرب.. ولا ينسى أنه كلف بضرب الجزيرة الخضراء فى حرب الاستنزاف ولم يكن يعرف أنه كان يضرب نيران مدفعيته على شقيقه المكلف بحماية الجزيرة وهو اللواء مجدى بشارة والذى طلب بأن يضحى بنفسه حتى لا تحتل إسرائيل الجزيرة. لا يمكن لكمال نسيان المشاعر لحظة العبور ولا عند معرفته بأن شقيقه مجدى وصفى على قيد الحياة، قائلا إن المشهد الأروع فى حياتهم عندما تجمعوا فى منزل العائلة بعد النصر ولا تفارق ذاكرته لحظات احتضان وقبلات أمه له ولإخوته فى فرحة وسعادة الأب. لم يزل كمال يلتقى بزملاء الدفعة وزملاء الحرب حتى الآن، وهو يقول إن جنود القوات المسلحة الذين يحاربون الإرهاب ليسوا أقل من جيل أكتوبر العظيم.