طلال فيصل تنشغل هذه الزاوية التى تستحدثها «روزاليوسف» بصوت الروائى أو المبدع نفسه. صُورة مقرّبة ولصيقة أكثر للعمل. صحيح من الهُراء أن يشرح كاتب عمله، هذا تبسيط مُخلّ. لكن الفكرة هنا تُركّز على ما يمكن تسميته ب«كواليس الكتابة»، أحيانا هناك ما يودّ الكاتب قوله خارج عمله عن عمله. شهادة ذاتية، إنسانية أكثر، يصف فيها الكاتب رحلته الشخصية فى عمل ما، منذ كان فكرة برقت فى ذهنه وخياله وحتى مراحل البحث والكتابة إلى خروجها للنور فى كتاب. رحلة تحفظ بصمات الظرف التاريخى والاجتماعى والسياسى والإنسانى والشخصى والإبداعى الذى صدر فى أعقابه هذا العمل الأدبى. فى السطور التالية يحدثنا طلال فيصل عن «بليغ» بعد مرور وقت كاف وهدوء الضجة التى صاحبت الرواية وتساءل عما تبقى له من تجربة الكتابة عن بليغ. مطلع هذا العام نشرت روايتى «بليغ»، التى يدور قسم كبير منها عن حياة الموسيقى الراحل «بليغ حمدى»، والآن، ماذا تبقى لى الآن من الرواية بعد عام من نشرها؟! هذا هو السؤال الذى تشغلنى الإجابة عنه وأنا أكتب هذه الشهادة! مرّ وقت كافٍ وخفتت الضجة التى صاحبت صدور الرواية، وهى الضجة التى لا علاقة لها بموهبتى ولا جودة ما كتبت، ولكنها - ببساطة وكما يسهل التوقع - ضجة متعلقة باسم الراحل الجميل الذى منحه المصريون حبًا غير مشروط، ولايزالون يمنحوه له يومًا بعد يوم، وأغنية مع أغنية! بليغ حاضر بشكل مدهش فى قلوب وآذان الجميع، من مختلف الأجيال والأعمار، وكانوا ينتظرون أى شيء يكتب عنه حتى يمنحونه محبتهم واهتمامهم. ها قد مر وقت كافٍ ليهدأ كل ذلك، ولأسأل أنا نفسى: ماذا تبقى لى من تجربة الكتابة عنه، ومن التعليقات التى تلقيتها على الرواية؟! أولا، وباستخدام الكليشيه الذى ابتذل لكثرة استخدامه، كان الكنز فى الرحلة! فى رحلة البحث عن بليغ والكتابة عنه كسبت صديقًا جديدًا، صديقًا طيبًا وجميلاً، ولا يريد من الدنيا غير أن يجلس فى ركن بعيد ويلعب بعوده، بالموسيقى، باللعبة العجيبة التى منحتها له السماء دون أن يفهم لماذا ولا كيف! يقول عنه عبدالوهاب فى عبارة يمكن أن تتلمس فيها الغيرة قدر ما تدرك الإعجاب الخفى «بليغ يعثر على جمل موسيقية من الألماس ولا تعرف كيف يتوصل لها، ولكنه يضعها على سطح من الصفيح» العبارة دقيقة - مثل كل شيء فى حياة وموسيقى عبدالوهاب - فهناك جمل لدى بليغ ولا تعرف كيف اهتدى إليها، وأدركت وأنا أتعلم الموسيقى - استعدادا لكتابة الرواية - أن ألحانه سهلة الغناء والعزف للمبتدئين. منحة سماوية هبطت بشكل مباغت على رأس رجل طيب ولا يعرف ماذا يفعل فى دنياه. هل يفسر لنا هذا العبارة التى كان يرددها بليغ كثيرًا، المزيكا الحلوة رزق! هذا التصور للفن، للعمل الفنى، باعتباره مخاطبة للمجهول، وباعتباره صيغة من صيغ الدين، أليس الدين فى آخر الأمر هو خطاب لمجهول لا نراه، ولكننا نؤمن بوجوده وبرحمته. كان بليغ أثناء الكتابة يتحول من ملحن كبير لصديق شخصى، صديق ضائع أشعر نحوه بالحب والإشفاق. كلما كنت أكتب كنت أراقب صورته المعلقة على مكتبى، أقول له أننى أتمنى أن يحوز ما كتبت إعجابه، أنت رجل طيب وأتمنى أن يدرك الناس ذلك فى الرواية. هذا ينتقل بى للملاحظة الثانية والمتعلقة بتعليقات القراء من جيل أكبر قليلا، الجيل الذى حضر واقعة موت/انتحار المطربة المغربية سميرة مليان عارية من شرفة بليغ وتحول الأمر لفضيحة حقيقية انتهت بهروبه لفرنسا. كل تعليقات القراء من هذا الجيل كانت أقرب لرثاء الرجل، أو الشعور بالذنب لسمعته السيئة وقتها باعتباره عربيدًا نزقًا ولا يفعل شيئًا غير السهر والحب والزواج والصرمحة! قراء هذا الجيل هم الذين كانوا أكثر اهتمامًا بما أوردته من رسالة للقاضى - الذى حكم على بليغ- باعتباره مروجًا للدعارة - حكما أخلاقيًا من منطلق قناعات القاضى، منشغلاً بحماية المجتمع من الرذيلة التى يمثلها فى رأيه بليغ وأمثاله، ولكنه يقترب منه، ويرى شيئًا آخر، شيئًا لا يمكنه الحكم عليه ببساطة، فيسلم أمره لله العزيز القدير ليتصرف هو فيه كيف يشاء، مدركًا أن الأمور ليست بالبساطة التى كان يتصورها فى الحكم على الأشياء. والحديث عن القاضى ينتقل بنا للنقطة الثالثة والأخيرة، وهى التساؤل المتكرر بخصوص وثائق القاضى أو بليغ والتى أوردتها فى الرواية، ما إذا كانت حقيقية أم لا، لأستعيد مقولة الناقد الإنجليزى دافيد شيلدز فى كتابه «جوع الحقيقة»، حيث عرض فكرة أن قراءة الرواية المعاصرة صارت مشغولة بشكل ما «بالتلصص»، وهو ما يربطه كذلك بانتشار كتب السير الذاتية ومراسلات المشاهير وتليفزيون الواقع. هذا الخيط الغامض بين الواقعى والمتخيل واحد من أهم ملامح الرواية المعاصرة، وهو ما جعلنى - ولا أعرف لأى مدى كنت موفقًا - استخدام اسمى الشخصى لبطل الرواية، رغم أنه أبعد ما يكون عنى فى الحقيقة. ربما سبب ذلك شيئًا من الارتباك للقارئ، ولكن هل هناك جدوى من عمل فنى ولا يسبب هذا الارتباك؟! مرّ وقت على صدور الرواية، ولكن بليغ يظل طيبًا وجميلاً، وموسيقاه لا تزال ممتعة رغم كل شىء.!