مئات بل آلاف قصص المعاناة يعيشها المصريون يوميا، بين جنبات الهيئات والمصالح الحكومية، متنقلين بين مكاتب «مدام سعاد» و«الأستاذة عصمت» والأستاذ متولى «اللى إجازة النهاردة».. إيقاع رتيب للحن حزين تشكله عبارات من نوعية: «خلاص الخزنة قفلت» و«ورقك كده تمام بس ناقص الختم» و«فوت علينا بكرة نكمل الإجراءات». على مدار تاريخ طويل تشكلت ملامح البيروقراطية المصرية الضاربة فى القدم، وخلقت قوانينها الخاصة التى ليس لها علاقة بالقوانين الرسمية للدولة، وبات المصريون جميعا يحفظون القوانين الخاصة للبيروقراطية عن ظهر قلب، ولا يجدون غضاضة فى أن يتحايلوا عليها باختراع مصرى أصيل اسمه «الإكرامية» أو «الشاي». طبقات متراكمة بعضها فوق بعض من «أبناء العاملين» والأقارب من الدرجة الثانية والثالثة داخل كل هيئة أو مؤسسة، حتى انتهى بنا الأمر إلى مجموعة من الشبكات العائلية تعمل بكل جد للحفاظ على مكتسباتها ومصالحها ضد أى محاولة للإصلاح تحقق حيوية للجهاز الإدارى للدولة أو نفعا عاما للمواطنين. تجسد المشهد الأغرب فى مسار هذه البيروقراطية فى شتاء 2011 عندما كان آلاف الشباب يملأون جنبات ميدان التحرير للثورة على النظام الحاكم، بينما يرفض الموظفون أن يحول بينهم وبين مكاتبهم فى مجمع التحرير أى حائل، وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد. بعد 30 يونيو وقبل التفكير فى أى خطة للإصلاح كان على رأس السلطة أن يدرك فورا أن الترهل الذى أصاب الجهاز الإدارى للدولة يحتاج تدخلا جراحيا عاجلا ودقيقا، تدخلا يعيد للدولة حيويتها ولا يعصف بحياة ملايين الأسر المصرية، فكانت الخطة المعلنة هى تقليص حجم الجهاز الإدارى للدولة إلى النصف بحلول 2030. أرقام وإحصائيات مفزعة اللافت أن هذه الشريحة التى تمثل القطاع الأكبر من المجتمع لا تقدم عملا حقيقيا ولا تتقاضى أجرا يكفى نفقاتها، ومن ثم فهى تعمل وفق مبدأ «على قد فلوسهم» وفى المقابل فإن أغلبهم يغطى نفقاته إما من خلال عمل خاص أو من خلال ممارسة طرق غير مشروعة كالسمسرة والرشوة وغيرها. للوقوف على حجم المشكلة علينا أن نعرف أن عدد العاملين بالجهاز الإدارى للدولة وصل وفقا لما ذكره النائب عبدالرازق زنط، أمين سر لجنة القوى العاملة بمجلس النواب، إلى 6 ملايين و400 ألف موظف وعامل، بلغت أجورهم فى موازنة عام 2015/2016 حوالى 218 مليار جنيه، وقفز هذا الرقم فى العام المالى الحالى 2016/2017 إلى 228 مليار جنيه أى ما يقرب من ربع الموازنة العامة للدولة، نتيجة تثبيت الموظفين والعمال فى وظائفهم والمكافآت التى صرفت لهم. قد تبدو الأرقام عادية فى نظر بعضنا فى ظل تعداد يقترب من 100 مليون أو يزيد، لكن إذا ما قورنت الأرقام بمثيلتها فى دولة بحجم الصين التى يفوق تعدادها المليار وربع المليار نسمة، تصبح الأرقام مزعجة، إذ إن عدد موظفى الدولة فى الصين وصل فى 2013 إلى 7.089 مليون موظف وأن 188 ألف شخص تم اختيارهم كموظفين فى الدولة، يعمل 18 ألفا منهم فى الحكومة المركزية و170 ألفا فى المناطق المحلية. مزيد من التوضيح لمأساوية المشهد كشفته تصريحات اللواء أبوبكر الجندي، رئيس الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، عندما قال إن نسبة الموظفين إلى المواطنين فى مصر بلغت موظف لكل 14 مواطنا، فى حين تبلغ النسبة نفسها فى المغرب موظف لكل 88 مواطنا وفى فرنسا والدول الأوروبية موظف لكل 140 مواطنا، بما يعنى أن عدد الموظفين يبلغ 10 أضعاف العدد المثالى لأداء الخدمة، واللافت أن الجندى قال إن عدد العاملين بالجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فى مصر يبلغ 4 أضعاف أكبر جهاز للتعبئة والإحصاء فى العالم. تزداد الصورة قتامة عندما نعلم أن على الدولة أن تستوعب نسبة لا بأس بها من إجمالى 750 ألف خريج كل عام ليسوا مؤهلين لسوق العمل ليصبحوا عبئا على الدولة فى ظل رغبة المصريين على «التمرمغ فى تراب الميري». اختلالات وعيوب هيكلية الأهم من تزايد أعداد وترهل الجهاز الإدارى للدولة هو العيوب الهيكلية والتى تكشفها الأرقام التى أعلنها الدكتور طارق الحصري، مستشار وزير التخطيط، عندما قال إن لدينا 8760 مديرا عاما، و2140 وكيل وزارة، و530 وكيل أول وزارة، و219657 كبير موظفين، بالإضافة إلى 4.84 مليون موظف كادر عام، و1.074 مليون موظف كادر خاص، كما أن لدينا 600 ألف موظف على الصناديق الخاصة»، وهو يعنى نسبة كبيرة جدا من العاملين فى الدولة لا يمارسون عملا فعليا. من أهم العيوب الهيكلية أيضا عدم وضوح أهداف العمل فى الإدارة الحكومية، وغياب معايير تقييم الأداء، إضافة إلى تضخم العمالة وسوء توزيعها، وإجراءات البيروقراطية المعقدة، التى تتسبب فى نفور بعض الفئات من السير فى الإجراءات العادية للحصول على الخدمة، والبحث عن باب خلفى يضمن سرعة إنهاء الخدمة وكفاءتها، مما تسبب فى ظهور سماسرة ووسطاء يختصرون الطريق الطويل للإجراءات عن طريق «الشاي» أو الإكرامية أو الرشوة التى تبدأ من 10 جنيهات ولا تقف عند ملايين الجنيهات، وبات المواطن لا يجد حرجًا فى دفعها مقابل تجنب الوقوف فى الطوابير الطويلة. خطط الحكومة للمواجهة خطة الحكومة ممثلة فى وزارة التخطيط، فى مواجهة هذه الأزمة المستفحلة تضمنت عدة خطوات أولها تقليص أعداد العاملين الجدد الملتحقين بالجهاز الإدارى للدولة، وكان فى مقدمتها قرار وقف التعيينات الجديدة فى الجهاز الإدارى للدولة، إضافة إلى دراسة بمقترح لإعادة هيكلة وظائف الخدمات المعاونة، والحرفية، التى تمثل النصيب الأكبر من العمالة فى الجهاز الإداري. ويجرى التفكير حاليا داخل أروقة وزارة التخطيط فى وضع نظام جديد للتعاقد مع العمالة المؤقتة والموسمية، يقوم على التعاقد مع شركات فى القطاع الخاص تضم عمال حراسة وصيانة ونظافة، بدلاً من تعيينها فى الجهاز الإدارى للدولة، للتخفيف عن كاهل الجهاز الإدارى من مئات الآلاف من الموظفين ممن يجرى التعاقد معهم بصفة مستمرة للقيام بالخدمات المعاونة والحرفية، الذين يلتفون على قرار التعيين فيما بعد بتقديم طلب تسوية لحالتهم الوظيفية بعد الحصول على مؤهل أعلى لترك وظائفهم السابقة شاغرة. هناك اتجاه نحو الاستعانة بشركات تتبع القطاع الخاص متخصصة فى الحراسة والصيانة والنظافة للتعاقد معها بموجب عقود تعيين مؤقتة للعدد المطلوب من العاملين الملتحقين بها، بغرض تأدية مهام تحتاج إليها الجهة الحكومية لفترة زمنية محددة، وفقًا لاحتياجاتها لخدمات هؤلاء، مقابل مكافأة يتم التوافق عليها بين الشركة والجهة الحكومية. يستهدف قانون الخدمة المدنية خفض عدد العاملين بالجهاز الإدارى ليكون فى حدود موظف لكل 20 مواطنًا خلال عام 2020، ثم موظف لكل 40 مواطنًا خلال عام 2030 بخلاف أعداد المحالين للتقاعد سنويًا من 120 إلى 150 ألف موظف، والمتقدمين للخروج إلى المعاش المبكر. القانون يأتى متماشيا مع خطة الإصلاح الإدارى التى طلبها البنك الدولى قبل تمويل عدة مشروعات بمصر، وطبقا للبيانات الرسمية، فإنه تتم إحالة 185 ألف موظف للتقاعد سنويا بعد بلوغهم سن الستين، ما يعنى أنه قبل بلوغ عام 2030 سيصل عدد الموظفين إلى 3 ملايين موظف من أصل 6.5 مليون موظف موجودين بالدولة حاليًا.