ما إن تطأ قدماك «منشية ناصر»، وبالتحديد مدينة الزبالين إلا ترى تجمعات الأطفال، فتظن أنهم يلعبون ببراءة الأطفال، والحقيقة عكس ذلك تماما، فهم فى مرحلة الطفولة عمريا أو اسما فقط، وفى الحقيقة رجال رغم أنهم لم يبلغوا الحلم. كل من لم يتجاوز ال18 عاما فهو طفل وفق تعريف القانون، لكن فى مدينة «الزبالين» الأمر مختلف، فهم رجال فى عمر الطفولة، لكن هذا أيضا ليس مبررا لهم أو إلغاء لمبدأ وقانون تجريم عمل الأطفال الذى له ضوابط حددها القانون منها أن العمل لا يكون إلا فى أضيق الحدود وفى أعمال بعينها ليس بها مخاطر وبعدد ساعات محدد. كل طفل فى «المدينة» شال الهم بدري، فهناك أسرة فى عنقه تحمل مسئوليتها بعدما مرض الآباء من المهنة وسوءاتها وما تحمله من أمراض! أسرة كاملة تعيش من العمل فى القمامة، لكل فرد مهمة محددة ما بين الجمع والفرز والتحميل وغيره وكأنها خلية نحل تعمل بانتظام. الأسر راضية بما تعيشه فى المدينة ومكسبها منها وحكمتهم فى ذلك «من رحم القمامة يولد الخير».. بين الأطفال العاملين مواهب ومثقفون، فهناك من يجمع الكتب من القمامة ليفرزها بعد انتهاء اليوم وهناك لاعبو كرة قدم ينظمون «دوري» مصغرا بالمدينة وبينهم مواهب تحلم بالانضمام لأندية القمة. قائد كتيبة أطفال أنطونيوس مينا، بعد أن انتهى من عمله اليومى ويظهر على ملامحه الإرهاق فى تدوير القمامة على مدار 8 ساعات متواصلة، قال: أنا الأخ الأكبر بين إخوتى وعددهم 6 أطفال جميعهم أصغر مني، يعملون فى جمع القمامة معى فى هيئة كتيبة وأنا قائدها للحفاظ عليهم، فأنا مسئول عن عودتهم سالمين إلى مدينة الزبالين يومياً، عمرى 18 عامًا وأعمل فى المهنة منذ أن كان عمرى 7 سنوات، وسبب عملى فى المهنة أن والدى تعب من المهنة، فقد حضر والدى وهو طفل صغير مع جدى من سوهاج منذ أكثر من 50 عامًا، وعمل مع مجموعة أطفال الزبالة للحصول على قوت يومه وسط إخوته ال10، ثم تزوج من والدتى التى كانت تعمل فى نفس المهنة، لكن الاختلاف أنها تفرز القمامة ولا تجمعها. تابع أنطونيوس: مسيرتى لا تختلف كثيراً عن مسيرة والدي، فأستيقظ للعمل يوميا من 3 الفجر وأرتدى ملابسى القديمة، فكل زبال له ملابس ثابتة للعمل وهى ملابس قديمة جداً ومهلهلة، وأكياس لتعبئة القمامة وأركب السيارة مع عشرات الأطفال مثلى مع إخوتى ككتيبة ثابتة للعمل فى الحى العاشر على 50 عمارة يومياً، كل عمارة لا يقل الأدوار فيها عن 10 أدوار بها أكثر من 30 شقة. وأضاف: تعرضت للكثير من الحوادث بسبب جمع القمامة، لكنها أشياء تقليدية هنا فى المدينة، مثل الجروح التى يتعرض لها الأطفال وحمل أحمال ثقيلة على الظهر، ليس لنا أى وسائل ترفيه سوى العمل وأثناء العمل نتجول فى شوارع الأحياء الراقية ونشاهد كل ما يتمنى أن يراه الإنسان، وحاجتنا للمال والشعور بالمسئولية هو الذى يجعلنا نركز فى العمل فقط، ونكتفى بأننا قادرون على العمل ونستطيع شراء ملابس العيد للفرحة بها وسط أصدقائنا فى المدينة. أحصل يومياً على دخل يبدأ من 50 إلى 150 جنيهًا، ويتوقف على الرزق، وفى بعض الأحيان نكتفى بأن يكون دخلنا اليومى يمكن به شراء طعام اليوم الواحد ونكون سعداء، ونفسى أنشئ شركة صغيرة لتدوير القمامة وأرفض العمل فى مهنة أخرى فأنا حالياً قائد كتيبة ناجحة. «حنا» يفرز الكتب لقراءتها حنا لم يتجاوز عمره ال13 عامًا، قال وهو يمسك كتابًا فى يده: عملت زبالا صغيرا فى سن 6 سنوات وسط أشقائى من أهل المدينة وأفتخر بمهنة والديّ، فوالدتى ووالدى قعيدان بسبب المرض الذى أصابهما لجمع القمامة منذ طفولتهما، ونحن علينا الدور فى إكمال المسيرة، وحياتنا مختلفة تماماً عن الأطفال خارج باب تلك المدينة، لأننا نعيش وسط القمامة ونعمل بها وحتى أفراحنا وأعيادنا وسطها فقط لا يخرج معظمنا للتنزه فى الخارج. وأضاف: لكل طفل أحلام رغم حياته التى بها مشاكل، وكنت أحلم بتعلم القراءة والكتابة، لذلك أحضر بشكل دائم ولو على الأقل ثلاث مرات أسبوعياً إلى المدرسة فى جمعية «روح الشباب» الوحيدة التى تعلم الأطفال عن طريق فرز القمامة، فأتعلم الحساب بعدد الوحدات البلاستيكية التى أحضرها وأتعلم الألوان وأسماءها من خلال الوحدات أيضا، فلكل وحدة لون واسم، أتواجد فى المدرسة منذ عام والسبب الرئيسى أننى أحلم بالقراءة فمنذ طفولتى وأنا أجمع الكتب التى أجدها فى الزبالة ولا أبيعها، بل أحتفظ بها فى مكتبة صغيرة أنشأتها فى منزلى فى هدوء لأن الجميع يتعجب من أننى أريد أن أنشئ مكتبة فلماذا لا؟ ولكل شخص هواية وهى هوايتي، وعندما يريد أصدقائى تقديم هدايا لى تكون كتابًا وهو شيء يسعدني. «مينا».. كريستيانو رونالدو المدينة «مينا» جلس على كرسى خشبي، وقال: أنا أعمل «قزاز» أى أجمع الأكياس فقط من الزبالة أثناء الفرز، وأنا من أسرة عددها 7 أفراد جميعهم أكبر منى ويعملون أيضا وأنا الأصغر بينهم، لذلك أنا المدلل ولا أعمل سوى فى الفرز، ووالدى ووالدتى مريضان، فمعظم أولياء أمور الأطفال فى القرية مرضى بأمراض أصابتهم من القمامة، فوالدى مريض منذ 10 سنوات وعلمنا جميعاً المهنة لنكون على قدر مسئولية مصاريف البيت، وتزوج معظم إخوتى من فضل القمامة علينا. وأضاف مينا: كنت أحلم منذ طفولتى بأن أكون لاعب كرة قدم، وهذا ما حققته على مستوى مدينة الزبالين فأنا لاعب الكرة الأول والأكثر تفوقًا، والبعض يطلقون عليّ لقب «كريستيانو رونالدو المدينة»، وهذه الإشادة من الكنيسة التى تقيم لنا دورات كل نصف عام وأحصل فيها على جوائز وتكريمات، وأحلم بدخول النادى الأهلي، ومصروفى اليومى 30 جنيهًا أحصل عليها من والدتى بعد بيع حصاد القمامة أنا وإخوتي، ولا نعلم شيئا عن المناسبات المهمة الخاصة بأفراد الأسرة فلا نعترف بعيد الأم فى المدينة ولا نحضر هدية لأمهاتنا. البنات مهمتهن الفرز «جوليا مايكل»، البالغة من العمر 7 سنوات قالت: أعمل فى الفرز ويوميتي50 جنيهًا، البنات فى مدينة الزبالين مهنتهن معروفة العمل قدام البيت منذ الساعة 10 صباحا حتى الساعة 4 العصر، تخرج كل أسرة ببناتها للعمل. وأشارت «جوليا»: بعد الانتهاء من العمل أجتمع مع صديقاتى للعمل فى الشارع ومشاهدة الكتب الصغيرة لأدوات التجميل التى تباع فى المنطقة لأشترى منها «توك شعر» وشامبوهات وملابس جديدة مصروفى كله على الشراء. وأضافت «جوليا»: أثناء العمل أتعرض لجروح فى يدى ووالدتى تعلمنى استخدام الإسعافات الأولية وأتوقف عن العمل ساعة واحدة، ثم أعود وأرتدى الجوانتى للحفاظ على يدي، وأوضحت أن البنات معظمهن فى المدينة لا يخرجن فالأمهات تخاف عليهن خصوصا أن الأمهات معظمهن مرضى ولا يستطعن الذهاب مع بناتهن خارج المدينة، وتوجد ألعاب فى جمعية «روح الشباب» وكمبيوتر نكتفى بالذهاب إليها للجلوس بها ساعة يومياً كنوع من الترفيه. «كرستينا» تعمل بدلا من الأم وأكدت «كرستينا»، 10 سنوات: لا يشغلنى سوى العمل مكان أمى التى جلست قعيدة منذ 5 سنوات فقط فهى تجلس بالقرب منى لتعلمنى أصول المهنة، خصوصًا أن والدى متوفى وأنا أكبر البنات سناً وأسرتى تعتمد عليّ فى الفرز اليومى بمساندة شقيقين من إخوتى الأولاد الصغار، أكتفى فى الترفيه بسماع التليفزيون ومشاهدة المسلسلات، فمدينتنا أعلى الجبل وبعيدة عن الأماكن الترفيهية، وليس من السهل الخروج منها، ويجتمع أطفال المدينة البنات بشكل يومى للجلوس مع بعضهن ساعة بعد العصر للعب فى الشارع بالعرايس التى نجدها فى الزبالة، ونستطيع تصليحها بشكل جيد للعب بها وعمل فساتين جديدة لها من بقايا ملابسنا. روح الشباب مؤسس جمعية «روح الشباب» عزت نعيم قال: حصلت على لقب مبدع على مستوى العالم العربى 2009 للدور الذى أقوم به فى الحفاظ على أطفال الزبالين ومحاولة تعليمهم أثناء عملهم زبالين وهم صغار، لأن الأطفال يد منتجة ولا يستطيعون التراجع عن العمل هنا فى «منشية ناصر» فهم جزء كبير من العمالة اليومية. وأضاف: قصتنا بدأت عندما رحل بعض سكان الصعيد لمساندة الزبالين فى القاهرة فى عملهم اليومى فى 1949. وكانت طريقة جمع الزبالة عبارة عن جمع الزبالة من ضواحى وبيوت القاهرة، ثم يخرجون لتنشيفها خارج القاهرة ثم يحضرونها إلى القاهرة مرة أخرى لاستخدامها فى إشعال النيران تحت قدرة الفول أو الحمامات الشعبية لتوفير المياه الساخنة، أو لإشعال أفران العيش بها بدل المازوت. وسكن الزبالين الحاضرين من الصعيد بشكل ثابت فى القاهرة فى عزبة الورد بجوار منطقة الشرابية وجلسوا عشر سنوات، ثم انتقلوا إلى منطقة الخياط فى شبرا الخيمة 4 سنوات، ثم انتقلوا للعيش فى مدينة إمبابة فى منطقة البصراوى من 62 إلى 70 وازداد عددهم فى القاهرة لأن الزبالين لا يحددون النسل، النسل لديهم يصل إلى 20 طفلاً وجميعهم يد عاملة. وبعد تزايد عددهم فى القاهرة قرروا الانقسام إلى ثلاث مناطق متفرقة فى هيئة مجموعات، مجموعة بمنشية ناصر ومجموعة فى عزبة النخل وأرض اللواء والبراجيل، ثم فى الثمانينيات تواجدت مجموعة منهم فى منطقة «طرة» وأكبر عدد لنا فى منشية ناصر. وأشار نعيم إلى أن منشية ناصر كونها المدينة الأكبر للزبالين ظهر فيها نشاط اجتماعى لدعمهم من خلال الجمعيات الأهلية التى وصل عددها إلى 13 جمعية، لكن الأكثر نشاطا 4 جمعيات فقط والجمعيات الأخرى فى حالة خمول، وجمعية والدة نجيب ساويرس بها نشاط كبير مثل مشغل للسجاد اليدوى من بقايا المصانع وغيرها من النشاطات المهمة التى خدمت الزبالين، وجمعية الزبالين أقدم جمعية ظهرت 74 وحالياً نشاطها ضعيف، ثم جمعية روح الشباب لخدمة الشباب التى أرأسها. وأكد أنه من الصعب أن يترك الأطفال العمل فى القمامة فكان لابد من طريقة لتعليمهم أثناء العمل، وظهر ذلك فى جمعية روح الشباب التى بدأت 2004 ب 45 شابًا وشابة من أبناء الزبالين. شركة رسمية عزت نعيم قال: حرصنا على التركيز على نشاط تعليم أبناء الزبالين الذين تفوتهم فرصة التعليم لأنهم يد عاملة مع أسرهم، وبعد تعليمهم ويكونون شبابًا ناضجًا وواعيًا فنفتح شركات رسمية لهم لتدوير القمامة تعترف بها الحكومة، وعملنا 85 شركة كل 20 زبالا مع بعض لعمل الشركة ويستطيع الأطفال إنشاء المشروع فى سن ال21. وأشار نعيم إلى أن رحلة الأطفال فى العمل فى القمامة يومياً ثابتة ومعروفة، يستيقظ الطفل مع ذويه العاملين فى الزبالة الساعة 4 الفجر ويركبون عربات كارو ويتوجهون إلى الأماكن التى يحصلون منها على الزبالة، ولكل طفل منطقة ثابتة يحصل منها على الزبالة يومياً، ورغم وجود الشركات الأجنبية فإن الأطفال تفوقوا عليهم لأن الشركات الاجنبية ترفض الصعود للمنازل، وهنا كان الزبال البلدى من فئة الأطفال ناجحًا فى مهمته. لافتا إلى أن متوسط نسبة الإنجاب فى مدينة الزبالين 6 أطفال وهذه إحصائية رسمية، ويتم توزيعهم كالتالي: 2 من الأطفال يجمعون الزبالة مع والدهما ويعملون على 30 عمارة ويعملون من 4 الفجر إلى 10 الصبح، ثم يعودون للنوم والاستراحة، ويدخل الطفل المهنة فى عمر 6 سنوات، وهنا من 10 صباحا تخرج الأم أمام بيتها بعد عودة زوجها وابنيها الطفلين من جمع الزبالة ومعها هى أيضاً اثنتان من بناتها، لتقوم بعملية الفرز حتى نهاية اليوم، والأم والأب أميان أبًا عن جد لم يذهبا إلى المدارس، والجيل الثالث من الزبالين هو من يحاول التعليم بشكل نسبى وليس بشكل كامل، وتقوم الأم مع بناتها بعمل شاق بتخزين الورق والنحاس والصفيح فى مكان متوسط بين الفرز وبين البيت، وفى الخلف يوجد مكان لإطعام الخنزير من بقايا الزبالة. ومن هنا كان دور الجمعية التى أتولى مسئوليتها هو تعليم البنات والأولاد تدوير القمامة فى المدرسة وتعليمهم فى نفس الوقت من خلال الزبالة وبدأنا ب50 طفلاً فى العام حتى وصل إلى أن 2017 يوجد 250 طفلاً فى المدرسة، وكان هدفنا الحفاظ على مهنتهم لأنهم جميعا لديهم مسئوليات فى نفس الوقت يتعلمون، ولهم مصروف يومى من خلال المدرسة وتعمل المدرسة على مدار 12 ساعة يقوم الأطفال بتدوير القمامة بها ويحصلون على المال والتعليم، ويجلس الطفل 3 سنوات للتعلم فى المدرسة بإرادتهم وخرّجنا 650 طفلا كلهم أخذوا شهادات محو أمية ويستطيع فتح شركة بها. نشاط ثقافي نعيم أوضح أن الأطفال الصغار أقاموا فريق مسرح لحياة الزبالين والأغانى والكورال، وتجولنا بها فى جميع الأماكن المهمة فى المركز الثقافى الروسى وساقية الصاوى والمركز الثقافى الإيطالى وغيرها، ونخرج 50 طفلاً سنويا، وكل طالب له ملف لأنه لا يحضر بشكل يومى فيحضر كما يشاء، وربطنا حضور المدرسة بتسليم القمامة، واختتم عزت حديثه أن الجمعية مهددة بالإغلاق فالمنظمات الممولة أوقفت التمويل، ولن يكون هناك أى مكان لتعليم الأطفال فى المدينة.