إذا كنت من محبى الكاتب والمنتج والمخرج «كريستوفر نولان»، فبالتأكيد ستسعى لمشاهدة أحدث أفلامه Dunkirk .. أما إذا كنت ممن لا يعرفون هذا المخرج، فيكفى فقط الجدل الذى أثاره هذا الفيلم على مواقع التواصل الاجتماعى لتدخله، حتى وإن كنت ستدخله بصحبة زوجتك وطفلك الرضيع، فالفيلم مصنف (PG-13 بإرشاد عائلى لمن هم دون 13 سنة)! .. لا لشيء إلا لأن تقول بأنك مثل الآخرين قد شاهدت الفيلم.. وفى كلا الحالتين لن يمكنك هضم الفيلم بسهولة!. فيلم Dunkirkهو عن عملية الإجلاء لجنود بريطانيا، حيث تقطعت السبل بالجنود، وحوصِروا بواسطة الجيش الألمانى فى شواطئ ومرافئ «دونكيرك» الفرنسية عام 1940 أثناء القتال بفرنسا فى الحرب العالمية الثانية. أسلوب «نولان» واضح جداً فى هذا الفيلم، فهو الشهير بطريقته الخاصة فى السرد، فالمخرج الشهير بأفلام مثل Inception ل«ليوناردو دى كابريو» أو Memento أو الثلاثية الأخيرة من سلسلة أفلام «باتمان» والتى بدأها ب Batman Begins بالتأكيد لن يحكى لك قصته بطريقةٍ بسيطةٍ وسهلة، فهو العاشق للحبكة فى أدق التفاصيل عند السرد .. وDunkirk ليس بعيداً عن الأسلوب، وإن كان العمق فى الأفلام السابقة الذِكر، يفتقدها Dunkirk، بحيث تشعر بأنك أمام فيلم حربى آخر فى لحظة أو فيلم أقرب للتوثيق للحرب، وفى لحظةٍ أخرى تشعر بأن رسائل الفيلم تضرب بعضها البعض فى مقتل داخل الفيلم نفسه! «نولان» البريطانى منحاز فى أول شريطه السينمائى لعدم ذِكر اسم الجيش الألمانى سوى بوصفه «العدو»، فانحيازه لا يخفيه، وهو ما يشعرنا بِهِ «نولان» فى الدقائق الأولى من فيلمه، حيث لا أثر ل«العدو» بهيئته الواضحة أو حتى لعلامته المميزة «الصليب المعقوف»، بل يشير للعدو بإشاراتٍ عِدة، يتتبعها فى الفيلم كله بعدها، ويتم التركيز على «المحاصرين» ولحظاتهم التى يعيشونها، ففى بداية الفيلم نرى مجموعة من الجنود المحاصرين فى مكانٍ مجهول، يتجولون، يبحثون عن طعامٍ أو ماء، ثم فجأة تنهال عليهم الرصاصات، فالعدو هنا غير واضح سوى كرصاصات تقتل الجنود، يتساقطون، فيبقى جندى واحد، والذى يسرع إلى شاطئ «دونكيرك» كما نعرف فيما بعد، حيث يتم إخلاء الجنود ببطء شديد بسبب محاصرة «العدو» لهم. ومن هذه النقطة ينطلق الفيلم لسرد هذا الحِصار بأسلوب حِصارى هو الآخر، فنتتبع ثلاث قصص داخل الفيلم نفسه، برية وجوية وبحرية، القصة البرية عند شاطئ «دونكيرك» وتتابعات محاولة أحد الجنود الإنجليز للهرب وتعرفه بأحد الجنود الفرنسيين الذى يحاول التخفى والهرب هو الآخر، والقصة الجوية لمحاولة طائرتين إنجليزيتين الوصول ل«دونكيرك» وإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتوفير تغطية جوية للجنود المحاصرين، والقصة الثالثة بحرية - وهى أفضلها- لمركب بسيط وفاخر بعض الشيء يمتلكه رجل عجوز ومعه ولده وأحد أصدقاء ابنه والذين لبوا نداء الواجب للذهاب ل«دونكيرك» ومحاولة المساعدة .. وهذا الأسلوب يتبعه «نولان» بأسلوبٍ آخر، معقد بعض الشيء، بسرد الحدث الذى تراه على الشاشة بعِدة زوايا، فمثلاً فى حين أنك ترى الطائرة الألمانية التى أسقطها الطيار الإنجليزى من وجهة نظر الطيار، ستعود للزمن بقليل بعض الشيء- دون تنبيه - لترى الحدث من وجهة نظر صاحب المركب العجوز وهو يرى سقوط الطائرة الألمانية من وجهة نظره هو.. وهكذا. هذا الأسلوب الحِصارى عمقه «نولان» أكثر بضخ المزيد من الواقعية، فهو مثلاً قد استعان بمدمرات بحرية حقيقية بدلاً من المؤثرات البصرية لاستخدامها فى فيلمه، بل إنه استعان ب 1500 كومبارس لتنفيذ تتابعات إخلاء الجنود، وتشعر بأن «نولان» يريد التخلى وعدم التخلى فى الوقت نفسه عن طريقته المميزة، فهو فى لحظة يريد أن يحكى تفاصيل الحرب، بوجهة نظر الذين انتصروا بعدها، دون تدخل كبير منه. وفى لحظةٍ أخرى لا يستطيع «نولان» الابتعاد كثيراً عن طريقته المميزة فى طرح الرسائل أو الأسئلة أو التلميحات إن أردنا الدِقة، وهى للغرابة تعزز من واقعية الفيلم أكثر وتقتله بعدها! .. تلميحات مثل تِلك الخاصة ب«البراجماتية» البريطانية هنا تحديداً تدل على هذا .. ففى مشهد يقف أحد القادة أمام قائده الأعلى عند الشاطئ المحاصر ليخبره بأنهم فى حاجة لمزيدٍ من السفن الحربية لإجلاء الجنود بأسرع وقتٍ ممكن، يخبره القائد الأعلى بأن القوارب المدنية ستأتى، فرئيس وزراء بريطانيا وقتها «تشرشل» يتوقع بأن الجنود الذين سيعودون هم 30 ألف فقط، فى حين أن المحاصرين هم 400 ألف، بالتالى هو لا يريد المخاطرة بخسارة المزيد من السفن أو غيرها استعداداً للحرب القادمة ! .. أو حينما يطلب الجندى الإنجليزى الذى أنقذه صاحب المركب العجوز بالعودة إلى السفينة وعدم الذهاب لإنقاذ أحد من شاطئ «دونكيرك» لأن ببساطة ما الذى سيفعله رجل عجوز بمركبٍ بسيط وسط الحرب؟! .. وهو ما يرفضه صاحب المركب العجوز، ويصر الجندى على العكس!.. أو حين يُحاصر الجندى الفرنسى وصديقه الجندى الإنجليزى مع مجموعة أخرى من الجنود الإنجليز داخل مركب، ويضطرهم الأمر لتخفيف حمولة المركب، فيتجمع الجنود الإنجليز على ضرورة خروج الجندى الفرنسى للموت لأنهم الأحق بالخروج من هنا! وحين يتصدى لهم الجندى الإنجليزى لمساعدة صديقه الفرنسى، يخيرونه بأن يخرج هو بدلاً من الفرنسى، فيرفض الخروج، ويكتفى بالقول بأن ما يقومون به خطأ! هذه التلميحات التى يمكن اعتبارها أفضل ما فى الفيلم سرعان ما يقتلها «نولان» نفسه بتتابعات النهاية مثلاً، وكأنه لا يريد إدانة كاملة للقادة أو للجنود الإنجليز، فيتأرجح بين أن يظهر شجاعة صاحب المركب العجوز وغيره من المدنيين فى عملية إنقاذ الجنود، وهو هنا شيء له دلالاته، نجده يميل لأن نرى فى الوقت نفسه الطيار الإنجليزى الذى لا يجد مفراً من الهبوط على شاطئ «دونكيرك» بطائرته المحطمة ليُقبض عليه بعدما ألحق ضرراً بعددٍ من طائرات العدو على خلفية مونولوج طويل لما كتبته الصحف عن الحرب، وهو نفس المونولوج الذى يتبعه بأن نرى القائد الأعلى وقد أخبر من هو أقل منه رتبة بأنه سيبقى فى شاطئ «دونكيرك» لأن الفرنسيين فى حاجة له للمقاومة!. ولعل أبرز هذا التضارب وقتل الرسائل لبعضها البعض هو وصول الجنديين الإنجليزيين لمحطة القطار وللوطن، حيث يقابلان رجلاً عجوزاً يسلمهما الماء والطعام وبعض الأغراض، وينتبه أحد الجنديين بأن الرجل العجوز يرحب بهما فى الوطن دون أن ينظر لهما وكأن هناك حالة من خيبة الأمل على وجهه لا يريد أن يظهرها، بل وأن الجندى الإنجليزى فى القطار يشعر بالعار ولا يريد أن ينظر من شباك القطار حتى لا يرى خيبة الأمل على الوجوه، فهو لا يعلم ما الذى يمكن أن يقوله عن نفسه وعن جبنه فى الحرب، إلا أن هذا سرعان ما يتبدد مع المونولوج والفرحة الغامرة التى ترتسم على وجوه المواطنين الإنجليز بعودة جنودهم، والذى عاد منهم 350 ألف جندى، وهو عكس ما توقعه «تشرشل» نفسه، فرغم أن ما حدث كان «كارثة عسكرية» باعتراف الإنجليز أنفسهم، إلا أنهم يؤكدون بأنه «يجب ألا يستسلموا له أبداً»، كما يحكيها المحاربون وقتها.. المنتصرون بعدها.. وكأن «نولان» يريد أن يُذكر ذات الرسالة الآن للإنجليز فى حربهم على الإرهاب، والذى عززته حكومته البريطانية ذاتها من قبل!.