25 عامًا مضت، ولا تزال ذكرى اغتيال «د. فرج فودة» ترسم ضميرًا للحرية على جدران «الدولة المدنية».. رحل الرجل، وبقى فكره راسخًا.. رحل الرجل ولا تزال «واقعة اغتياله» تضع أمامنا جملة من «الحقائق» لا بُدَّ أن نتوقف أمامها مرارًا؛ إذ كان «الجهل» بكل أنواعه: [الشرعى/ التعليمي/الثقافي/ المعرفى... إلى آخره] هو العنوان الأبرز لتلك الواقعة.. قتله «جاهل» (لا يقرأ ولا يكتب!) بفتوى مغرضة من شيخ صدّر «فتاوى الجهل» تصديرًا. تظل واقعة اغتيال «فرج فودة» صرخة فكرية [حقيقية] فى وجه «دعاة الرجعية»، ممن يوظفون «الفتاوى الدينية»؛ لخدمة «الأجندات التنظيمة» (أى: دعاة الإسلام السياسى).. إذ قُتل الدكتور «فرج فودة» بفتوى من هذا النوع، بعد أن أجهز على عديدٍ من الأساطير، التى يؤسس عليها تيار «الإسلام السياسى» أفكاره: (الشرعية، والسياسية). حدثت «عملية الإجهاز» تلك، خلال مناظرته ومرشد جماعة الإخوان الأسبق «مأمون الهضيبى» بمعرض القاهرة للكتاب (!).. حدثت المناظرة فى بدايات العام 1992م.. وبعدها بنحو 4 شهور [8 يونيو من العام نفسه]؛ كان أن توقف شابان ب«دراجة بخارية» أمام المفكر الراحل أثناء خروجه من مكتبه [فى شارع أسماء فهمى بمدينة نصر]؛ لتنهال - بعد ذلك - الطلقات من «بندقية آلية» كانت فى حيازة أحدهما (تبين، فيما بعد، انتماؤهما إلى «الجماعة الإسلامية»). .. وداخل قاعة المحكمة سأل «القاضى» القاتل: - لماذا قتلت فرج فودة (؟) = لأنه كافر. - ومن أى كتبه عرفت أنه كافر (؟) = أنا لم أقرأ كتبه. - كيف (؟) = أنا لا أقرأ ولا أكتب (!) لم تكن إجابات القاتل «الجاهل»، الذى استحلَّ دم فودة ، بفتوى من شيخه «عمر عبدالرحمن» [صاحب فتوى إهدار دم الرئيس السادات، أيضًا] هى الصدمة الوحيدة بالقضية.. فدفاع المتهمين طلب استدعاء الشيخ الإخوانى «محمد الغزالى» (أحد محاورى فودة، أيضًا، بالمناظرة نفسها) للشهادة.. [فراح «الشيخ الغزالى» يغزل على المنوال، الذى غزل عليه الأمير الضرير «عمر عبدالرحمن».. وقال إن فرج فودة «مرتد».. والمرتد يجب قتله (!)] سألوه: أليس هذا من حق أولى الأمر (؟).. فقال: يجوز لأفراد الأمة «إقامة الحدود» عند تعطيلها، وإن كان هذا يُعد افتئاتًا على حق السلطة (!).. قالوا له: وما عقوبة الافتئات (؟).. فأجاب: ليس له عقوبة(!) لا يعترف، هنا [وتلك «حقيقة» ظاهرة] أبناء تيار «الإسلام السياسى» (بمختلف انتماءاتهم) بالدولة [بمفهومها الحديث].. إذ لأسباب مختلفة (تتعلق ب«البناء المعرفى» لتيار الإسلام السياسى)؛ فإن أغلب الروافد «المغذية» لمعتقدات ذلك التيار؛ تقف فى موضع «الخصم» من مرتكزات «الدولة الوطنية» (أى دولة) بمفهومها المعاصر. وتتراجع مرتكزات الدولة الوطنية (عند أبناء تيار «الإسلام السياسى») فى مقابل إعلاء فكرة «دولة الخلافة»، وحتمية استعادتها.. وبالتالى.. ينطلق جُل أبناء التيار - غالبًا - فى فهمهم لنموذج «الدولة الحديثة» (بحدودها الجغرافية؛ المُتعارف عليها) من أنها صنيعة «القوى الاستعمارية»، التى أسقطت «دولة الخلافة» فى عشرينيات القرن الماضى (وهو قول «عاجز» يحتاج فى عديدٍ من جوانبه إلى مراجعات حقيقية). كما لا يلتفت - كذلك - «أبناء التيار» إلى عديد من الخصوصيات التاريخية، والحضارية، التى تزخر بها بلدان «الشرق الأوسط».. [فالدولة المصرية (على سبيل المثال)؛ امتلكت- من الناحية التاريخية - حدودًا «مستقرة»، ومعروفة، حتى قبل تأسيس «دولة الخلافة» نفسها بآلاف السنين] (باستثناء حقب تاريخية، معدودة).. وإجمالاً.. يؤسس «التيار»، هنا، توجهاته؛ اعتمادًا على رافدين «رئيسين»: الأول؛ هو «المُنتج الفقهى» (الشرعى)، والثاني؛ هو «توظيف» هذا المُنتج (سياسيًّا، وتنظيميًّا)، فى إطار التخديم على مفهوم استعادة «دولة الخلافة» (المندثرة). [تيارٌ «رجعى» - إذًا- لا يقرأ التاريخ، ولا يفهم ثوابت «الجغرافيا».. يعيش داخل «عزلة شعورية»، و«فجوة زمنية» رسمت أمامه «صورة ضبابية» عن الواقع، وظروفه]، واشتراطاته (البذرة التى غرسها «حسن البنا» فى نهاية العشرينيات).. تيارٌ يتنفس العنف، و«الإرهاب» تنفسًا؛ إذ تعهد من بين أبنائه الإخوانى «سيد قطب» بالرعاية بذرة «التكفير»، و«جاهلية المجتمع» فى الخمسينيات.. ثم أصبحت البذور أشجارًا تقطر دماءً، وتطرح أشلاءً (!).. ومنذ السبعينيات والثمانينيات؛ كان أن شهدت مصر أعنف «موجات التطرف». وامتدت -كذلك - موجة العنف للتسعينيات.. ومنذ الخمسينيات إلى التسعينيات؛ كان أن تمخض عن التنظيم عدة تنظيمات (!).. ففى العام 1958م؛ خرج شاب من صفوف جماعة «الإخوان» يُدعى «نبيل برعى» من داخل السجن، متأثرًا بآراء «ابن تيمية» كمنهاج.. وطالب «برعى» بالعنف المسلح.. ثم انضم إليه فيما بعد كلٌ من: إسماعيل الطنطاوى، ومحمد عبدالعزيز الشرقاوى، وأيمن الظواهرى (كان إخوانيًّا، أيضًا)، وحسن الهلاوى، وعلوى مصطفى.. وأصبح «إسماعيل الطنطاوى» قائدًا للمجموعة الجديدة. وفى العام 1973م؛ انشق «علوى مصطفى»، ومعه بعض كوادر المجموعة، وكونوا «تنظيم جهادى»؛ بدعوى محاربة اليهود على حدود القناة، وانضم إليهم الملازم «عصام القمرى»، الذى أصبح - فيما بعد - أخطر عناصر «الجهاد الإسلامى»، التى خططت لاغتيال «السادات» العام 1981م (لقى مصرعه العام 1988م، أثناء محاولة هروبه من السجن، واثنين من زملائه).. وفى العام نفسه كوّن صالح سرية تنظيمه المعروف إعلاميًّا ب«الفنية العسكرية»، وانضم إليه «حسن الهلاوى».. وفى العام 1977م؛ ظهر تنظيم «التكفير والهجرة» الذى أسسه «شكرى مصطفى».. وفى العام 1979م؛ تكوّن تنظيم «الجهاد الإسلامى»، وقُسّم لاحقًا، إلى ثلاث مجموعات: الأولي؛ بقيادة «محمد عبدالسلام فرج» (صاحب كتاب «الفريضة الغائبة»)، وعبود الزمر.. والثانية؛ بالوجه القبلى بقيادة «ناجح إبراهيم»، و«كرم زهدى»، و«فؤاد الدواليبى».. والثالثة؛ بقيادة «سالم الرحال» (أردنى الجنسية)، وخلفه فى قيادة المجموعة بعد ترحيله من مصر «كمال السعيد حبيب».. إذ كانت كتابات: «سيد قطب»، و«أبى الأعلى المودودى»؛ هى الرافد الفكرى «الأساسى»؛ لمعتقدات أصحاب التوجهات الجهادية، عبر هذه المراحل المختلفة. وفى سياق مراحل التكوين، التى تمخض عنها «الجهاد الإسلامى»؛ كان أن التقى كلٌ من: «كرم زهدى» (عضو شورى «الجماعة الإسلامية»)، و«محمد عبدالسلام فرج» (صاحب الفريضة الغائبة) ؛ العام 1979م.. إذ عرض «الأخير» على «زهدى» فكر الجهاد، وأن الحاكم قد كفر، و«خرج عن الملة».. لذا؛ وجب «الخروج عليه»، وخلعه، و«تغيير النظام».. وأن تنظيمه (أى: التنظيم الجهادى، الذى كان يقوده فرج)، يمتلك تشكيلات متنوعة. وبالتالي؛ فعليهم التعاون بشكلٍ مشترك؛ من أجل «إقامة الدولة الإسلامية».. ومن ثمَّ.. عرض «كرم زهدى» الفكرة على مجلس شورى «الجماعة الإسلامية» بالصعيد (كان يرأسه، وقتئذ، د. ناجح إبراهيم).. فوافق «المجلس» على هذا الأمر؛ شريطة أن يكون هناك «مجلس شورى عام»، و«مجلس شورى القاهرة»، وأن يتولى «إمارة الجماعة» أحد العلماء العاملين، الذين لهم مواقفهم الصلبة ضد الطاغوت (وقع الاختيار، حينها، على الشيخ «عمر عبد الرحمن»).. وعلى هذا؛ تم إقرار تشكيل «الجناح العسكرى»، و«جهاز الدعوة والبحث العلمى»، و«التجنيد»، و«تطبيق القوانين الإسلامية».. وهو ما أسفر، فيما بعد، عن واقعة «اغتيال الرئيس السادات». وفى مراحل تالية على اغتيال الرئيس السادات.. لم تكن «تنظيمات العنف المسلحة» بمعزل عن عمليات التوظيف السياسى من قبل قوى دولية متنوعة.. إذ قررت «الولاياتالمتحدةالأمريكية» - على سبيل المثال - توظيف هذا التيار، وتوجيه عنفه نحو خصمها الرئيس (الاتحاد السوفيتى السابق)؛ لتقويض مناطق نفوذه فى كل من آسيا وشرق أوروبا.. وأسفر هذا الأمر (فى النهاية) عن ظهور تنظيم القاعدة، بدعم وفتاوى من جميع روافد التيار (بما فى ذلك جماعة «الإخوان» نفسها). لكن.. [لم تتوقف «الدائرة» عند تنظيم «القاعدة»؛ إذ أسهمت بلورة المنهج الذى رسخته «القاعدة» بدعم من مختلف القوى: (الإسلامية والدولية) ؛ فى تلقيح عديد من أفكار التنظيمات الجديدة.. ومنها ما يُعرف فى الوقت الحالى باسم «تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام» (داعش)].. لتصبح منطقة الشرق الأوسط (بشكلٍ رئيس) أمام أعتى خصومها المُصدرة للإرهاب. .. ونحن إذ نفتح صفحات هذا الملف الآن، بعد مرور 25 عامًا على واقعة اغتيال «فرج فودة».. فإنّنا نؤكد أننا (فى روزاليوسف) كنا [ولانزال] رأس الحربة «الرئيسة» فى مواجهة التطرف (بأنواعه كافة).. عاهدناكم على ذلك.. وإنَّا على العهد باقون.