أكثر من 2200 عامل يعانون فى بيئة غير آدمية تنتهك إنسانيتهم يوما تلو الآخر، فى أخطر الصناعات حسب التصنيف العالمى، بل تسمى الصناعة الأقذر على مستوى العالم. عمال شركة النصر للكوك والكيماويات، الذين يقبع مصنعهم على بعد كيلومترات من حلوان، وكان يمثل إحدى القلاع الصناعية الاقتصادية منذ نشأته عام 1964، فإن هذا الكيان الصناعى أصبح كيانا اقتصاديا هزيلا كأجساد عماله، بعد أن فتكت به أمراض الفساد المالى والإدارى. دفتر معاناة عمال فحم الكوك يمتلئ بالصرخات التى يقولون إنهم لم يجدوا ردا عليها من الحكومة سوى التصريحات المعسولة، هى بالنسبة لهم مسكنات لا تجدى نفعا. عصام الزينى يعمل منذ 21 عاما فى قسم البطاريات التى تشغل الأفران، يبدأ الحديث بنبرة كلها غضب وحزن قائلا: «الكوك يعتبر من أقذر الصناعات على مستوى العالم، وفى حلوان هى صناعة بدائية للغاية، ولا توجد معايير أمن وسلامة، والمعدات لم تتغير منذ تدشين المصنع، والشركة أصبحت مقبرة خاصة بالنسبة للعمال الذين يعملون فى الأفران». ورغم الظروف القاسية فإن العمال يصممون على الاستمرار فى عملهم دعما لهذه الصناعة المهمة، كما أنهم لا يملكون مصدر رزق آخر. ويقول: رغم ظروف الثورة العصيبة وحتى فى غمرة الاضطرابات السياسية، كانت الشركة تحقق أرباحا بلغت 163 مليون جنيه، لكن مع تولى الإخوان الحكم، وتكليف أحد عناصرهم وهو محمد موسى الطنطاوى برئاسة مجلس الإدارة قرر بعد ثورة 30 يونيو الانتقام وتدمير الشركة عبر حرمان العمال من مستحقاتهم، والترويج لنغمة أن الشركة تخسر. ويوضح أن ما زاد حال الشركة سوءا هو قيام المهندس زكى بسيونى رئيس الشركة القابضة للصناعات المعدنية والتى تتبعها بتخفيض سعر طن الفحم بأثر رجعى من 2700 إلى 1600 جنيه، رغم اعتراض الجهاز المركزى للمحاسبات، وبدلا من أن يحاسب المهندس بسيونى المتورطين ومنهم رئيس مجلس الإدارة السابق على الأخطاء، رقاه إلى مستشار (أ) بفرع الشركة بجاردن سيتى براتب 20 ألف جنيه شهريا. ويتساءل: هل يعقل أن يكافأ المخطئ ويعاقب العمال؟ ويقاطعه «محمد» الذى يعمل بالشركة منذ 20 عاما قائلا: المهندس زكى بسيونى حول شركة الكوك من كيان ناجح إلى شركة تخسر وعليها مديونية 120 مليون جنيه، بعد تخفيض سعر طن الفحم، ولتعويض الخسائر لم يجد إلا حرمان الموظفين من الحوافز، وهى بالنسبة لهم «جرعة أكسجين» ترحمهم من الاختناق فى ظل الضغوط الاقتصادية الصعبة عليهم. ويقول: كلما طالب العمال بحقوقهم المسلوبة يزعم المسئولون فى الإعلام أن مطالبهم فئوية، نحن لم نطلب علاوات ولا تحسين ظروف العمل، مشيرا إلى أن أول المطالب هى إنقاذ الشركة من الإهمال وصيانة البطاريات الموجودة التى أصبحت غير قادرة على العمل وأصبح إنتاجها لا يعادل %10 من كفاءتها الأصلية، بالإضافة إلى تعديل سعر الفحم، متسائلا: لمصلحة من يتم إغراق شركة الكوك فى المديونية لصالح مصنع الحديد والصلب الذى يخسر طوال الوقت؟ وهل يتم إغراق شركة الكوك أيضًا وغلق أكبر منشأتين صناعيتين فى مصر. ومن جانبه يقول فهمى - الذى يعمل بالشركة منذ 50 عاما بقسم الإنتاج: إن العمال فى شركة الكوك يعملون فى ظروف غير آدمية، فهم معرضون للموت فى أية لحظة ولا توجد معايير للسلامة والصحة المهنية ولا وجود لما يسمى بالأمن الصناعى، ورواتبهم تتعرض للاقتطاع منها، والحجج ملقاة دائما على شماعة الخسارة وانخفاض الإنتاج بالشركة، هذا فى حين أن رواتب كبار الموظفين تبلغ عشرات الآلاف. ويضيف أنه لا توجد مهمات وقاية للعاملين، لا توجد كمامات لحماية العامل من الأتربة المنبعثة عن احتراق الفحم، بل إن العمال يرتدون أحذية بلاستيك ويثبتون فى نعلها أخشابا حتى تتحمل السخونة المنبعثة من الأفران، مشيرا إلى أن العناية الإلهية أنقذت العمال مؤخرا من موت محقق، إثر سقوط عربة أفران على مقربة منهم، من ارتفاع 6 أمتار. ويقول: انبعاث الغازات والأتربة تسبب فى إصابة الكثيرين بالسرطان والفشل الكلوى والتهابات الجهاز التنفسى المزمنة، ومع غياب الرعاية الصحية، يمكن القول إن الموت أرحم بهم مع الأسف. ومن جانبه يتساءل إيهاب بيبو 45 عاما يعمل بالشركة منذ 20 عاما: كيف يتولى رئيس الشركة القابضة للصناعات المعدنية المهندس زكى بسيونى وهو الذى تم طرده سابقا من شركة الألومونيوم نظرا لشبهات حول فساد مالى وإداري؟ ويضيف بيبو: «إن بسيونى بالتعاون مع شحاتة مخيمر رئيس مجلس إدارة شركة النصر للكوك يسعيان إلى تدمير الشركة لبيعها للقطاع الخاص، وكل ادعاءاتهما عن الخسائر مغلوطة، فالشركة حققت أرباحا بواقع 238 مليونا العام الماضى، وهذه حقيقة تثبتها المستندات. ومن جانبه يقول مجدى بدوى، نائب رئيس اتحاد عمال مصر ورئيس اتحاد عمال حلوان، إن شركة النصر للكوك وصناعة الكيماويات تعد من أعرق الشركات المنتجة للفحم المستخدم والمغذى لمصنع الحديد والصلب وغيره من المصانع، وتعتبر أحد أعمدة الصناعة والاقتصاد المصرى منذ نشأتها، ولكن مع مرور الزمن تدهور حالها حتى وصلت إلى أنها أصبحت تعمل بثلاث بطاريات فقط بالكاد وبطارية مهدمة على الأرض، والبطاريات هى المسئولة عن تشغيل أفران إنتاج الفحم. ويضيف أن شركة الحديد والصلب التى تقع ملاصقة لشركة الكوك تعتمد على 95 % من إنتاج شركة الكوك، ومنذ تدهور حالها تأثرت صناعة الحديد والصلب أيضًا، مما جعلها تخسر عشرات الملايين من الجنيهات. ويؤكد أن أبرز أسباب تدهور شركة الكوك يرجع للقيادات التى تتولى إدارتها والتى تستمر فى عملها منذ عهد مبارك، فضلاً عن تحويل تبعية «شركة الكوك» إلى الشركة القابضة للصناعات المعدنية بدلاً من الشركة القابضة للكيماويات، وسيطرة المهندس زكى بسيونى على رئاسة القابضة للصناعات المعدنية رغم تجاوزه 70 عامًا. ويقول الدكتور مصطفى مفتاح - الخبير فى مجال الأمن الصناعى - إن السلامة المهنية مفقودة بمصر، موضحًا أن العامل فى مصر «ممكن يروح فى داهية» بسبب الأتربة المنبعثة والأدخنة الخاصة بالكربون، وما ينجم عن ذلك من وفيات بالسرطان وتحجر الرئتين والتسمم. ويؤكد أن عدم وجود أقنعة وقفازات وأحذية مطابقة لا يتنافى مع المعايير الدولية فحسب بل أيضًا مع قانون العمل الذى يلزم بوجود جهاز قياس يرصد نسبة الغازات والأتربة ومدى خطورتها ومدى ارتفاعها وتأثيرها على صحة العمال بل والأهالى الذين يقطنون بجوار المنشأة. هدى كامل - القيادية العمالية فى المركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية - ترى أن الدولة مستمرة فى التنكيل بالعمال وضياع حقوقهم والترويج المضاد دائمًا بأن العمال يطالبون بحوافز ومرتبات والشركات خاسرة، مع أن حقيقة الأمر أن المسئولين عن إدارة هذه المنشآت الصناعية العملاقة هم الذين استمروا وراء تدميرها من خلال إهمال التطوير والصيانة للأدوات والمعدات كما حدث مع بطاريات شركة النصر للكوك والكيماويات والتى كانت تنتج أطنانًا من الفحم سنويًا يمد مصنع الحديد والصلب حتى انهارت.