قبل حوالى 60 عامًا فى زمن «الأبيض والأسود» فى الأعمال الدرامية كانت المعارك بين الأبطال - إن وجدت - تدور وكأنها مباراة ملاكمة لا نرى فيها عُنفًا مقززًا، حتى ينتهى المشهد بطعنة بسكين أو خنجر، أما اليوم فالمعركة تبدأ بسيف وساطور وسنجة، ولا تنتهى قبل إسالة الدماء على الأرض وتقطيع جسد أحد الأبطال، أو يموت أحد أبطال المسلسل بعد جرعة زائدة من المخدرات. فى رمضان هذا العام انتقل العنف - الذى سيطر فى آخر 10 سنوات فى السينما إلى الدراما وأصبح عنفًا مصرحًا به للتداول على الشاشات التى تطل على الأسرة، والتى تقذف المشاهدين بمشاهد المعارك الطاحنة وتعاطى المخدرات، وكأنها تحاول توجيه الجمهور لهذه الحياة الممتلئة بالدم، وحجة بعض المؤلفين والمخرجين «أن الشارع المصرى أصبح عنيفًا وهذه ترجمة للواقع». والمسلسلات التى تناولت العنف بإفراط هذا العام كثيرة، نذكر منها «حوارى بوخارست» الذى أخرجه محمد بكير وكتبه هشام هلال وجسد بطولته أمير كرارة الذى يبدو أنه عشق أدوار البلطجة ووجد نفسه فيها لتكراره ذات الشخصية التى قدمها من قبل فى مسلسل «طرف تالت» عام .2012 وفى افتتاح مهرجان الدراما الرمضانية وفى أولى حلقات المسلسل طل كرارة (لاعب جودو سابق يسكن بمنطقة شعبية) على المشاهدين بمعركة طاحنة مع أحد الأشخاص العمالقة وينتصر كرارة عليه فى النهاية بعد معركة دموية بين جزارى المذبح الذى شهد المعركة. ورغم أن «حوارى بوخارست» يواجه انتقادات عدة خاصة من سكان المناطق الشعبية أو البسيطة، قال كرارة فى أحد حواراته الصحفية «نقدم عملاً يتناول المناطق الشعبية بشكل محترم وشيك ونبرز جمال الحارة المصرية». وعن مشاهد المعارك قال: «هذه المشاهد مُبررة داخل منطقة شعبية، ومن الضرورى أن تنشب مشاجرات فيها، وإذا كانت هذه المشاهد تثير ضيق فئة من الجمهور فستجد فئات أخرى تميل لمشاهدتها». وفى أولى حلقات مسلسل «أرض النعام» الذى أخرجته غادة سليم وألفه ناصر عبدالرحمن، ظهرت إحدى بطلاته سوسن بدر فى مشهد تتعرض فيه للاعتداء بالضرب والسحل وطردها من مستشفى أمراض نفسية، وتدور أحداث المسلسل فى فترة الانفلات الأمنى التى سادت المدن المصرية مؤخرًا. وفى أحد مشاهد مسلسل «بين السرايات» الذى أخرجه سامح عبدالعزيز وتأليف أحمد عبدالله، يظهر الفنان محمد شاهين الذى يجسد شخصية «حداد»، وهو يصنع لنفسه درعًا من الحديد يرتديه على صدره ويقف أمام المرآة ويقول لنفسه: «يا سلام ياما نفسى أخش بيك معركة وأجربك».. وفى الحلقة ذاتها يدخل شاهين فى مشاجرة بالسيوف مع مجموعة من الشباب الدُخلاء على الحارة ويصيب بعضهم بطعنات كبيرة فى صدورهم ليخلق المخرج مشهدًا دمويًا من الدرجة الأولى. وخلال أحداث مسلسل «حق ميت» لمخرجه فاضل الجارحى ومؤلفه وحيد محب يظهر بطل العمل حسن الرداد بمشهد القبض عليه، وتتعقد الدراما فى العمل وتصل لذروتها بمقتل إيمى سمير غانم على يد إحدى العصابات المتخصصة فى اغتصاب بنات الملاجئ وتوظيفهن فى شبكات الدعارة، وبعد ذلك جردوها من ملابسها. كما قتلت العصابة محمد سلام صديق إيمى، فى مشهد لاثنين من مدمنى المخدرات انتهى بنهاية سلام بجرعة مخدرات زائدة. وفى مسلسل «بعد البداية» للمخرج أحمد خالد والمؤلف عمرو سمير، يتجسد العنف فى أكثر من مشهد خاصة فى مشاهد المطاردة الشرطية للمتهم طارق لطفى فى شوارع وسط القاهرة، ومشهد آخر لمجموعة مسلحة تطلق النيران عشوائيًا وتفجر سيارة وتخطف طفلا وتدمر المكان الذى شهد الحادث بعد ذلك. وفى هذا السياق قال دكتور سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسى: إن رمضان هذا العام شهد أعمالاً تروج للعنف الأسرى، وأكد أن المنفذين للأعمال لا يدركون المسئولية الاجتماعية والتى من المفترض أن تمنعهم عن عرض مشاهد العنف، مشيرًا إلى أن شاشات الفضائيات المصرية بصفة عامة تفتقد لأخلاقيات الإعلام والمسئولية الاجتماعية، ويظهر ذلك فى الأعمال التى تعرض مشاهد شرب السجائر وتعاطى الحشيش وغيرها. وأضاف صادق إن مثل هذه الأعمال المليئة بالعنف تنزع من الإنسان الإحساس بالغير وسيأتى يوم يُقتل فيه الناس فى الشارع ولا أحد يتحرك لنجدتهم. خلال أحداث الحلقة الخامسة لمسلسل «ظرف أسود» للمخرج أحمد مدحت والمؤلف أيمن مدحت، تدخل سيارة نصف نقل يقف عليها مجموعة مسلحة فى مشهد يشبه سيارات تنظيم «داعش» فى سوريا والعراق، ويطلقون النار فى الهواء لإرهاب عمال البناء الذى يعملون بإحدى الأراضى فى محاولة لطردهم من أرض يستولى عليها أحد البلطجية يعملون لحسابه. وفى مشهد آخر للمسلسل ذاته يطلق عمرو يوسف النار تجاه أحد الأشخاص فى معركة مسلحة مع عصابة تحاول خطف طفل من والدته. وركز المخرج عثمان أبو لبن على مشهد إصابة مصطفى شعبان فى مسلسل «مولانا العاشق» للسيناريست أحمد عبدالفتاح خلال أحداث الحلقة التاسعة، حيث ظهر شعبان مصابًا بطلق نارى فى كتفه وركز المصور على مكان الإصابة بشكل مقزز ودموى. وخلال أحداث الحلقة الثانية عشرة لمسلسل «طريقى» الذى تقوم ببطولته المطربة شيرين عبدالوهاب وأخرجه محمد شاكر وكتبه تامر حبيب، يظهر الفنان السورى باسل خياط وهو يدخل غرفة شقيقته وفى يده كرباج، وركز المخرج على ضربات الأخ لشقيقته بالكرباج بسبب خلاف بينهما. وبشأن أسباب تفاقم ظاهرة العنف الدرامى فى رمضان هذا العام، قال الدكتور هاشم بحرى رئيس قسم الطب النفسى بجامعة الأزهر «إن الدراما بشكل خاص لها تواصل مستمر مع المجتمع وتحولاته وسماته، والمجتمع المصرى الآن أصبح مسرحًا للعنف بكل أشكاله السياسية والجنائية لأسباب لها علاقة بالتدهور الاقتصادى والسياسى». وأشار بحرى إلى أن الدراما تصور المواطن الفقير على أنه المواطن صاحب أحلام اليقظة ويبدأ يسرق ويقتل ويغتنى ويدمن ويعيش فى الترف الذى حلم به طوال حياته، ليتصور المشاهد أن هذا النموذج طبيعى المسار، ثم يقرر المخرج فى النهاية التخلص من هذه الشخصية بالقبض عليها أو قتلها. ويوضح أستاذ علم النفس أن هناك إشكالية قديمة بين الدور الاجتماعى للدراما والواقع الذى تترجمه، ظهر جليًا بعد عرض فيلم «أريد حلاً» للراحلة فاتن حمامة الذى كان نموذجًا سينمائيًا على أن الفن بإمكانه حل مشكلة اجتماعية، «فهناك فريق يرى أن الفن بصفة عامة والدراما بصفة خاصة دورها يقتصر على طرح المشكلة فقط دون السعى وراء حلول وعلى الحكومة البحث عن حلول، وفريق آخر يرى أن على الدراما طرح بدائل للمشكلات»، مشيرًا إلى أن بعض كتاب الدراما يقولون إنهم «ليسوا اجتماعيين وأن الدراما ليس لها دور إصلاحى»، وأكد بحرى أن هذا رأى غير صائب. كما قال رئيس قسم الطب النفسى بالأزهر إن المواطن المصرى لديه وعيان الأول بعيد مرتبط بالحب والعاطفة يعود لزمن الفراعنة، والآخر قريب مرتبط بالأحداث القريبة مثل الانفجارات وعنف الإخوان وغيرها، وأصبح وعى المواطن ممتلئاً بمشاهد العنف وانعكس فى ردود أفعال البعض. ونوه بحرى إلى أن هناك ظاهرة اجتماعية تكون فى أوقات العنف والحروب حيث يبدأ الناس فى الزواج وتقريب العلاقات الأسرية وزيادة علاقات الحب كرد فعل على العنف المفرط، لكن كتاب الدراما لا يظهرون هذا الجانب العاطفى والرومانسى فى أعمالهم المليئة بالعنف والإرهاب. ولم يسلم مسلسل «حارة اليهود» الذى يتناول رواية تاريخية من مشاهد العنف والعُرىّ أيضًا، حيث نفذ المخرج محمد العدل والمؤلف مدحت العدل مشاهد مشاجرات النبابيت فى حلقات مختلفة للعمل الذى قامت ببطولته منة شلبى. وبجانب الأعمال السابقة يأتى مسلسل «استيفا» للمخرجين حسام على وشريف البندارى وأشرفت على كتابته عزة شلبى، ويعتمد المسلسل فى الأساس على جريمة تحدث خلال أحداث حلقتين، ويبرز المخرج بعد مشاهد العنف الدرامى التى سيطرت بشكل شبه كامل على شاشات الفضائيات المصرية هذا العام. وحتى فى الأعمال الكوميدية مثل مسلسل «أستاذ ورئيس قسم» للفنان عادل إمام ظهرت خلال الحلقة الأولى للعمل مشاهد عنف تمثلت فى اعتداء بعض البلطجية التابعين لنظام مبارك عام 2010 خلال أحداث المسلسل، وينقل على إثرها للمستشفى فى حالة خطيرة. وخلال أحداث مسلسل «الكبير قوى» يتعرض الفنان أحمد مكى للضرب المبرح من مجموعة من البلطجية فى تركيا ويصاب بجروح خطيرة نتيجة ضربه بالسيوف والجنازير. ورغم أن مسلسل «الكابوس» ل غادة عبد الرازق درامى فى الأساس فإنه لم يسلم من مشاهد العنف الدرامى، عندما حلمت بكابوس شاهدت فيه رأس ابنها ملقاة فى أكياس القمامة. وفى مسلسل «العهد» لبطلته هنا شيحة تظهر الفنانة فى الحلقة الثانية وهى تقتل جدتها وأخواتها بمساعدة والدها، وعندما علمت سوسن بدر والدتها بالجريمة تقرر إعدام زوجها وأولادها، عدا هنا، وحتى لا يتم تنفيذ حكم الإعدام شنقت هنا والدتها. هكذا ظهرت معظم أعمال الدراما فى رمضان 2015 وكأن مؤلفى المسلسلات يرون أن المجتمع المصرى أصبح قاتلاً وعاشقاً للعنف والمخدرات وجرائم الخطف وقتل الأقارب والعنف الأسرى وجميع أعمال البلطجة. حتى تحولت دراما الشهر الكريم إلى تصدير العنف والدم للبيوت وتكريس الدم على الشاشة.∎