التخبط.. هو العنوان الأمثل لتوصيف علاقات مصر الخارجية فى عهد أول رئيس منتخب بعد ثورة 25 يناير المجيدة.. عدم وضوح الرؤية تجلى فى أكثر من مناسبة، أغلبها جرى على أرض غير مصرية، بالتحديد فى زيارات الرئيس الخارجية التى تجول خلالها بطائرة الرئاسة فى نصف الكرة الأرضية.. فى تلك الزيارات حضر الاقتصاد وغابت السياسة.. السبب أن الرئيس نفسه وفريقه المعاون ينقصهم الكثير من الخبرة فى العلاقات الدولية والدبلوماسية. سنة أولى حكم للرئيس مرسى، كانت حافلة بالسفر والتجوال بين ربوع المعمورة.. من الصين فى أقصى الشرق إلى البرازيل فى أقصى الغرب ومن روسيا شمالاً إلى جنوب إثيوبيا وجنوب أفريقيا جنوباً.. كلها جولات خارجية تثبت أن سفريات الرئيس الخارجية كانت هروباً من استحقاقات داخلية عاجلة، تتطلب حضور وتركيز الرئيس لحل القضايا الداخلية الملحة، من الحرب على القضاة إلى الصراع مع وسائل الإعلام، ومن غضب الجيش لاستفزاز المعارضة وملاحقة نشطاء حركة «تمرد».. كلها أزمات كان ينبغى على الرئيس أن يعطيها كل أولوياته، ويترك ملف العلاقات مع العالم الخارجى تتولاها مؤسسة «الخارجية» لأنها تمتلك الخبرات اللازمة للتصدى لمشكلات مصر الخارجية، بما لديهم من رصيد هائل فى التعامل مع جميع الملفات الشائكة، مهما كانت درجة تشابكها، لأن خبرات الرئيس فى هذا المجال الجديد عليه تبقى متواضعة باعتباره متخصصا فى هندسة الفضاء. منذ اللحظة الأولى لدخول الرئيس مرسى قصر الرئاسة، وكانت عينه موجهة إلى العالم الخارجى أكثر من اهتمامه بالقضايا الداخلية، وبما أنه لا يثق كعادة الإخوان فى غير الإخوان، لجأ إلى الدكتور عصام «الحداد» عضو مكتب الإرشاد، وأسند إليه ملف العلاقات الخارجية، ورغم حساسية هذا الملف وعدم دراية الحداد بدهاليز الدبلوماسية المصرية العتيقة، باعتباره خبيراً بمجال المعارض الدولية، وقضى أغلب حياته طبيباً فى بريطانياٍ فبدأ يمارس دور وزير الخارجية. منذ ثورة يوليو 1952كان رئيس الجمهورية هو المسئول عن رسم ملامح السياسة الخارجية بالتعاون مع بعض المؤسسات منها المخابرات ووزارة الخارجية، وظل هذا العرف مطبقاً، فى عهد كل من عبد الناصر والسادات حتى مبارك ربما تميز بأنه لم يشرك سوى رئيس المخابرات الراحل عمر سليمان فى وضع الإطار الأساسى لسياسة مصر الخارجية. ولأن مصر دولة محورية، تنطلق علاقاتها الخارجية من ثوابت مستقرة، لا يسهل تغييرها مهما كان لون أو انتماء رئيس الجمهورية أو النظام السياسى الموجود فى السلطة ، فلم تشهد علاقات مصر الخارجية تغيرات تذكر سوى بالنسبة لملف العلاقة مع إيران والخليج، حيث رأت مؤسسة الرئاسة قطع خطوات سريعة نحو تطوير العلاقات مع طهران، بصرف النظر عن الموقف من الخليج، والغرب، لكن ظلت العلاقة مع إيران محور القلاقل فى السياسة الخارجية المصرية فى عهد مرسى.. السبب فى ذلك أن المؤسسة العسكرية والخارجية تمسكتا ببقاء الموقف من طهران على ما كان عليه فى عهد الرئيس السابق، مع توسيع آفاق التعاون والتفاهم فى المجالات الاقتصادية والفنية، حفاظاً على التوازن المطلوب فى العلاقة الاستراتيجية مع دول الخليج والسعودية. . بعد ثورة يناير تمسك الرئيس الجديد بميراث ثورة يوليو الذى منح الرئاسة منفردة تحديد الإطار العام لسياسة مصر الخارجية، لكن البعد الجديد الوحيد الذى أضيف هو العامل الشعبى، حيث أصبح للرأى العام بعد يناير 2011 دور حيوى فى تحديد أولويات العلاقات المصرية مع دول العالم.. هذا الدور كان مؤثراً فى تحجيم اندفاع الرئيس وجماعته، نحو تطوير العلاقات مع إيران، كما تكرر الأمر مؤخراً فى الأزمة الطارئة مع إثيوبيا، بعد أن حولت مجرى النيل الأزرق تمهيداً لمواصلة بناء سد النهضة المثير للجدل. اللافت أن سياسة مرسى الخارجية تطابقت مع سياسة مبارك الخارجية فيما يتعلق بالعلاقات مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل وباقى دول العالم، فلم يحدث أى تغيير يذكر على علاقة مصر بتلك الدول اللهم ربما أبدى الإخوان مرونة وتجاوباً فى كثير من القضايا بدرجة أكبر مما كان يبديها مبارك نفسه فى العديد من الملفات، كما أنهم بالغوا أحياناً فى تلك المرونة، حتى بدوا كأنهم مستعدون لتقديم تنازلات أكثر مما كان يقدمها سابقهم مبارك خاصة مع الإسرائيليين والأمريكان، فمثلاً رحبوا بافتتاح مقر جديد لسفارة إسرائيل بالقاهرة، تطوعوا لإقناع حماس بالالتزام بالهدنة، ووقف إطلاق الصواريخ وهو ما كان يطالب به الاحتلال والجانب الأمريكى دوماً، وأرادت الجماعة أن تبدوا أكثر تجاوباً وتقارباً مع إسرائيل والغرب خرج علينا أحد قادتها البارزين يدعوا للترحيب بعودة اليهود المصريين واستعداد مصر لتقديم التعويض المناسب لهم ، المدهش أن هؤلاء المعارضين ردوا على الدعوة الإخوانية بالرفض والسخرية. عندما أراد مرسى أن يسير عكس اتجاه مبارك خارجياً، اختار ملف الشيعة الشائك، وراهن على التحالف مع دولة صغيرة الوزن مثل قطر، ثم ضحى بدولة أكثر تأثيراً وأهمية مثل السعودية وباقى دول الخليج، لكن الذى زاد الطين بلة رغبة الرئيس والجماعة فى التحالف الكامل مع إيران الأمر الذى ترك غيوماً كثيفة خيمت على علاقة مصر الاستراتيجية بدول الخليج. هذا التحول المفاجئ فى السياسة المصرية الخارجية بشأن الخليج وإيران، أثار قلق المملكة العربية السعودية وأغلب دول الخليج، فدفع دولة مثل الإمارات العربية المتحدة إلى الرد على هذه الخطوة، بالكشف عن أول خلية «إخوانية» تهدف إلى قلب نظام الحكم، ولا تزال التحقيقات مع عناصرها مستمرة، وفشلت كل جهود عصام الحداد للإفراج عنهم وإغلاق هذا الملف حتى الآن، ثم جاءت الضربة الثانية هذه المرة من الكويت بعد الإعلان عن ضبط خلية «إخوانية» مماثلة لخلية الإمارات على أراضيها، وبدأت السعودية تتوجس خيفة من العمالة المصرية المقيمة على أراضيها خاصة بعد رصد أجهزتها أن أغلب هؤلاء يمثلون خلايا إخوانية نائمة على أراضيها. الدبلوماسيون بالخارجية المصرية قلقون من أن تؤدى التحولات الأخيرة إلى تأثيرات سلبية على أكثر من ثلاثة ملايين مصرى يعملون فى السعودية ودول الخليج. أثناء زيارة الرئيس مرسى الأخيرة للعاصمة الروسية موسكو، فوجئ المراقبون بتصريح الرئيس حول «تطابق» المواقف بين مصر وروسيا بشأن الأزمة السورية، نفس التصريح تقريباً أطلقه الرئيس مرسى أيضاً خلال مباحثاته مع الرئيس الإيرانى أحمدى نجاد فى أول زيارة لرئيس مصرى لطهران بعد أكثر من ثلاثة عقود من القطيعة، كما تكرر الأمر فى المملكة العربية السعودية، وشتان بين مواقف الأطراف الثلاثة!!. أما فى السودان الشقيق فكانت الأزمة أكثر تأثيراً وخطورة، لأن الرئيس كان ينظره فخ فى الخرطوم، حيث طلب موسى محمد أحمد، مساعد الرئيس السودانى، عن منطقة شرق السودان من الرئيس مرسى التعهد بإعادة الأوضاع فى مثلث حلايب الحدودى إلى ما كان عليه الوضع عام ,1993 فرد عليه الرئيس بإن شاء الله.. هذا الرد اعتبره موسى موافقة ضمنية وتعاملت معه الصحف ووسائل الإعلام السودانية على أنه موقف سياسى من رئيس مصر «الإسلامى». نفى رئاسة الجمهورية وتوضيحها أن موافقة الرئيس على طلب المسئول السودانى لم يكن المقصود منها تغيير الموقف المصرى التقليدى من حلايب، إلا أن هذا الموقف تسبب فى نشوب أزمة سياسية معقدة مازالت تبعاتها تتداعى بين البلدين حتى الآن. وربما تكون آخر تلك المواقف الحرجة كانت فى إثيوبيا، حيث لم يمر أكثر من 24 ساعة على عودة الرئيس من أديس أبابا، فإذا بالتليفزيون الإثيوبى يبث على الهواء مباشرة عملية تحويل مجرى نهر النيل استعداداً لتنفيذ مشروع سد النهضة المثير للجدل، فى صفعة للرئيس واستهانة بمصالح مصر العليا ودليل قوى على التخبط الذى تعانى منه السياسة الخارجية فى عهد مرسى.