تتغير الدنيا ولا تتغير هموم المصريين! يتغير الحكام - ملوكا ورؤساء - ولا تتغير مشاكل الناس! يذهب رؤساء الحكومات والوزراء ولا تذهب المشاكل! وكأن «مصر» هى البلد الوحيد الذى يدمن مشاكله وأزماته وهمومه سواء كانت بسيطة أو كبيرة، تافهة أو عميقة، مألوفة أو غريبة! ولا أظن أن بلدا فى العالم كله لديه مشكلة عمرها أكثر من ستين سنة لا تجد حلا إلا هنا فى مصر وأقصد مشكلة «الدعم»! مشكلة الدعم هى العفريت الذى دوخ وأجهد وأتعب وحير حكام مصر حتى الآن!وعند الحديث عن موضوع «الدعم» يختلط السياسى بالاقتصادى، والبحث عن الشعبية وسط الجماهير، رجل الاقتصاد له ملاحظات وتحفظات على الدعم - أمس واليوم - ورجل السياسة لاعتبارات عديدة يتجاهل دراسات وآراء رجل الاقتصاد لاعتبارات السياسة!
وأعود بكم إلى الوراء، وكان وزير المالية وقتها الدكتور «عبدالجليل العمرى» فى حكومة «على ماهر باشا»، وكان ذلك فى النصف الثانى من أغسطس سنة 1952- أى بعد قيام ثورة يوليو بثلاثة أسابيع - وحتى ذلك الوقت لم يكن «عبدالجليل العمرى» قد التقى أو تقابل مع أعضاء مجلس قيادة الثورة، وكان هذا الاجتماع هو أول لقاء له معهم، وعن ذلك اللقاء يقول:
«كنت قد انتهيت من عرض أول موازنة عامة على مجلس الوزراء ووافق عليها، وجاءت المقابلة فى مكتب رئيس الوزراء - على ماهر - وحضرها عدد من الضباط أذكر منهم «محمد نجيب» و«جمال عبدالناصر» و«جمال سالم» و«عبداللطيف البغدادى».
كان اللقاء فى شأن الزيادة على الضريبة الجمركية على الدخان والسجائر، مما استتبع زيادة سعر علبة السجائر «20 سيجارة» قرشا واحدا، وكانوا يطالبون ويصرون على إزالة هذه الزيادة والعودة بسعر السجائر إلى ما كانت عليه من قبل، لأن سياسة الضرائب غير المباشرة كالضريبة الجمركية على سلعة يستهلكها الكثير من جمهور الشعب لا تتماشى مع ما قامت عليه الثورة من الرغبة فى إسعاد جموع الشعب!
ويظهر أنهم كانوا قد أثاروا الموضوع من قبل مع رئيس الوزراء عقب صدور الموازنة العامة مباشرة لأن «على ماهر» تكلم فى الموضوع فى مجلس الوزراء فى اليوم السابق لاجتماعى بمجموعة الضباط فى مكتبه، ولكنه ذكر أن هناك شكوى عامة من زيادة أسعار السجائر، وسألنى إن كان من المستطاع إلغاء الزيادة فى ضرائب الدخان وكانت إجابتى تتلخص فى أن الضرائب الجمركية من المسائل الحساسة جدا فى سوق التجارة والمال ففرضها وإلغاؤها بعد ذلك مباشرة يدل دلالة واضحة على ضعف سياسة الحكومة ثم إن هذه الزيادة ستجلب للخزانة خمسة ملايين جنيه وهو مبلغ لا يستهان به فى ذلك الوقت الذى كانت جملة إيرادات الدولة لا تجاوز ال 220 مليون جنيه «مائتين وعشرين مليونا».
ومن غريب المصادفات أنه عندما حان وقت تحضير الموازنة العامة «1953-1954» وكان الحال قد تغير فأصبح «محمد نجيب» رئيسا للوزراء مع كونه رئيسا لمجلس قيادة الثورة، وكان هذا المجلس قد أخذ سلطة السيادة، كان واجبا على وزير المالية أن يعرض الخطوط العريضة لمشروع الميزانية الجديدة على مجلس قيادة الثورة قبل عرضها على مجلس الوزراء لإقرارها واستصدار القوانين الخاصة بتنفيذها، فلما عرضت الخطوط العريضة وكان من بينها خفض وزن رغيف العيش دراهم معدودات ثار غالبية أعضاء المجلس.
واكتفيت هنا بالقول إن الإبقاء على وزن الرغيف سيستتبع أولا زيادة فى بند نفقات الدعم الذى كان فى ذلك الوقت حوالى مليونين من الجنيهات، وكان الدعم أصلا غير مقبول من الناحية الاقتصادية لأنه يخل بصرح الكيان الاقتصادى، وثانيا أن الموازنة العامة ستظهر وبها عجز يكاد يصل لخمسة ملايين من الجنيهات!
وهنا اقترح أحد الأعضاء زيادة سعر علبة السجائر قرشا كما حدث فى العام الماضى، وكان هذا القول مثار تعليق من أكثر من عضو، وكان من بينهم زكريا محيى الدين الذى قال إن زيادة القرش لعلبة السجائر فى العام الماضى لاقت معارضة شديدة من جانبنا وكادت تدفع بوزير المالية أن يستقيل فكيف يحق لنا أن نقترحها الآن؟!
وأخيرا يقول د. عبدالجليل العمرى: «انتهى المجلس إلى الموافقة على الخطوط العريضة كما هى ومن بينها خفض وزن الرغيف، وقال محمد نجيب فى ذلك الوقت كلمته المأثورة «دى لقمة للقطة»، وقد استعمل هو هذا التعبير فى خطاباته بعد صدور الموازنة العامة مما كان له أكثر الأثر فى قبول الشعب لخفض وزن رغيف العيش وهكذا توازنت الميزانية ولم نضخم بند نفقات الدعم»!
∎∎
وفى خطاب لجمال عبدالناصر ألقاه على أهالى حى الجمالية فى 18 نوفمبر 1953 قال بوضوح وصراحة: «إن مصر البلد الزراعى يستورد كل عام قمحا بأربعين مليونا من الجنيهات، وتعداد مصر 22 مليونا دخلهم القومى 660 مليونا من الجنيهات، يعنى دخل الفرد فى السنة 20 جنيها، وفى الشهر جنيهان ونصف الجنيه، ونحن فى كل عام نزيد 350 ألف نسمة، وبعد خمسين سنة تصبح مصر 44 مليونا، والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، فإذا كنا نريد أن نرتفع بمستوى حياتنا وجب أن نضع نصب أعيننا هذه الحقيقة، مستوى المعيشة فى هبوط والسكان فى ازدياد». وفى حديث أجرته صحيفة «الأهرام» مع جمال عبدالناصر فى أغسطس 1953 سأله المحرر قائلا: إن الموظفين يشكون من خفض علاوة الغلاء فى الوقت الذى اشتد فيه الغلاء؟
وأجاب عبدالناصر بقوله: لقد جئنا ووجدنا الميزانية خاوية، بل مستدينة، ولقد أدت حوادث 26 يناير «حريق القاهرة» إلى تهريب 125 مليون جنيه، أى أن ميزانية البلاد كانت مشرفة على الإفلاس والخراب، وكانت الحكومة ستعجز لو تأخرت الحركة «الثورة» عن دفع مرتبات الموظفين الساخطين على خفض علاوة الغلاء بنسبة 10٪ من جملة هذه العلاوة وليس من جملة المرتب.
وتمضى الأيام والشهور والسنوات، وعلى الرغم من كل الإيجابيات والإنجازات الاقتصادية، فقد ظلت الزيادة السكانية مشكلة، وزيادة اعتمادات الدعم للسلع الأساسية مشكلة أكبر! وهو ما أشار إليه جمال عبدالناصر فى عيد العمال «أول مايو 1968» قائلا: «إحنا محناش بلد غنى إحنا بلد الحقيقة عندنا مشكلتين: ثروتنا محدودة وعندنا زيادة فى السكان مليون كل سنة، إزاى نوفق بين الحاجتين الصعبتين، الثروة المحدودة والزيادة فى السكان من 800 ألف إلى مليون فى كل سنة..»!
وهو نفس المعنى والمضمون الذى سبق أن صرح به أمام المؤتمر التعاونى «ديسمبر 1957» وقال: «دخلنا القومى محدود، ولازم نختصر فى استخدام الكماليات والأكل، لا نستورد بعشرين مليون جنيه قمح، وبمليون جنيه لحم».
∎∎
وطوال كل هذه السنوات يظل «رغيف العيش» هو مشكلة المشاكل فى مصر للحكام والناس أيضا، ومن الطريف أنه بعد شهور قليلة من قيام ثورة يوليو 1952 تنشر مجلة «آخر لحظة» «4 فبراير 1953» تحقيقا صحفيا عنوانه «مشكلة رغيف الخبز هى مشكلة الدولة هذه اللحظة»! وتمضى سنوات طويلة وتظل مشكلة الرغيف على حالها، ومن أعجب ما يرويه أمين هويدى - الوزير السابق - هذه الواقعة التى كان شاهدا عليها داخل مجلس الوزراء، يقول: «فى إحدى الجلسات دخل الرئيس قاعة المجلس ومعه الشنطة «متوسطة الحجم»، وحينما بدأت الجلسة أخذ يفرغ محتوياتها وفوجئ الوزراء بأن المحتويات كانت عددا من أرغفة الخبز البلدى مأخوذة من بعض المخابز فى عدد من أحياء القاهرة: شبرا وروض الفرج والوايلى ومصر القديمة والدرب الأحمر، وأخذ يلوح بها لوزير التموين معربا عن عدم رضائه عن حالة الرغيف، سواء من ناحية الحجم أو اللون أو الشكل.
وكان يقول: مين يقدر منكم ياكل مثل هذا الخبز؟ هل هذا معقول؟
وطالب غاضبا بعلاج سريع للموقف وانتقال أجهزة الوزارة إلى المخابز حتى يتم إصلاح الرغيف، وقد كان»!
ويرحل جمال عبدالناصر فى سبتمبر ،1970 وتبقى مشكلة الدعم فى تفاقم، ولم يخلُ خطاب واحد للرئيس السادات من الإشارة إلى هذه المسألة فيقول مثلا فى خطاب الاحتفال بثورة يوليو أمام جامعة الإسكندرية سنة 1974 بالحرف الواحد:
«حتى نثبت سعر الرغيف فى مواجهة الارتفاع الجنونى فى أسعار القمح من حوالى خمسين جنيها للطن إلى 250 جنيها للطن خصصت الدولة 391 مليون جنيه لإعانة تكلفة إنتاج الرغيف الذى نوفره للمستهلك بخمسة مليمات «تكلفته الحقيقية 22 مليما»، كنا نستورد الذرة بسعر 25 جنيها للطن فى سنة 1970 ونبيعه محليا بسعر 24 جنيها أى تتحمل الحكومة جنيها واحدا إعانة للطن فى سنة 1974 هذه السنة نستورد الذرة بسعر 88 جنيها للطن ونبيعه محليا بسعر 35 جنيها، أى تتحمل الدولة إعانة تبلغ 53 جنيها فى الطن الواحد، معنى هذا أن سياسة الحكومة فى تثبيت أسعار الذرة أدت إلى أن تتقاسم الدولة مع المستهلك الزيادة فى الأسعار بنسبة 11 جنيها للمستهلك و42 جنيها تتحملها الدولة.
كنا نستورد العدس فى سنة 1970 بسعر 82 جنيها للطن، وفى سنة 74 ارتفع سعر العدس المستورد إلى 214 جنيها للطن ونبيعه محليا بسعر 99 جنيها ونصف الجنيه وتتحمل الدولة الفرق».
وراح «السادات» يتحدث عن السلع سلعة سلعة إلى أن قال: «إننا نقوم بكل هذه الجهود - أيها الإخوة والأخوات - فى مواجهة ما تعرفونه من زيادة هائلة فى عدد السكان وزيادة فى تطلعات الجماهير».
وفجأة حدث ما لم يتوقعه أحد لا السادات ولا حكومته ولا الناس، فمنذ بداية العام الجديد 1977 راحت الصحف القومية تنشر عشرات التصريحات الوردية والمتفائلة من عينة: لن ترتفع أسعار السلع الأساسية، تحسين أوضاع العاملين فى الدولة.. و.. و.. لكن المفاجأة أن المجموعة الاقتصادية فى حكومة ممدوح سالم وعلى لسان الدكتور «عبدالمنعم القيسونى» الذى تحدث أمام مجلس الشعب مساء 17 يناير وكذلك وزير التخطيط ووزير المالية، واستغرق ما تحدثوا به عن الوضع الاقتصادى وخطورته مساحة 84 صفحة من مضابط المجلس: كانت القنبلة التى انفجرت هى رفع الدعم عن عدد من السلع وزيادة مباشرة فى أسعار البنزين والسكر والزيت والبوتاجاز والسجائر! و.. و.. وانتفضت مصر من أسوان للإسكندرية ضد هذه القرارات طوال يومى 18 و19 يناير التى أسماها السادات «انتفاضة حرامية»، وكان موقف مجلة «روزاليوسف» واضحا وحاسما عندما قالت: «الحكومة أشعلت الحريق والسادات أطفأه»، ولم يغفر السادات لقيادة «روزاليوسف» هذا الموقف المنحاز للجماهير وجرى ما جرى بعدها!
وفى هذا الصدد يقول الكاتب الكبير «أحمد بهاء الدين»:
«بعد انتفاضة 18 و19 يناير سنة 1977 استدعانى الرئيس الراحل «أنور السادات» من الخارج، وجئت بعد أن هدأ كل شىء إلا الرئيس السادات نفسه وقضيت ثلاثة أيام متوالية أذهب إليه فى استراحة القناطر صباحا وأعود قبل منتصف الليل فى مناقشات ساخنة، وقلت للرئيس السادات:
- لنعترف هنا بأن القرارات الاقتصادية والطريقة التى أعلنت بها كانت خطأ اقتصاديا هائلا، اسمح لى يا سيادة الرئيس بعض وزرائك «خواجات» لا يعرفون إلا الزمالك، لا يعرفون ما فعلته ثورتكم منذ 1952 للمجتمع، لقد اعتبروا البوتاجاز سلعة كمالية! لا يذكرون أن المصانع الحربية أنتجت بوتاجازات دون أفران ثمن الواحد عشرة جنيهات ثم جعلوا شراءه بالتقسيط جنيها واحدا كل شهر، البوتاجاز الآن فى كل بيت تطور حدث وعلينا أن نستقبله ونوجهه!
-اطلب من مباحث وزارة الداخلية أن تحضر لك وابور بريموس ولن تجد واحدا فى كل أسواق القاهرة! اسأل يا ريس الأسطى الذى يقدم لنا القهوة ماذا يستخدم فى الطهى فى بيته، ثم إن كل قرص طعمية وكل حفنة فول مدمس تطهى على البوتاجاز، رفع سعر البوتاجاز رفع سعر ساندويتش الفول، وقد بدأ الاضطراب كما فهمت من عمال مصنع فى حلوان فاجأهم بائع الفول والطعمية برفع أسعاره قبل أن يقرأوا صحف الصباح! - لم يأخذ الرئيس السادات باقتراحاتى وهى مواجهة الموقف بعلاج بعض جذوره الاجتماعية والاقتصادية.
∎∎
ويرحل الرئيس السادات فى أكتوبر 81 وتبقى مشكلة الدعم تتفاقم وتتوغل، وفى الشهور الأولى من تولى الرئيس «مبارك» انعقد تحت رعايته واحد من أهم وأخطر المؤتمرات لإصلاح المسار الاقتصادى من الألف إلى الياء، واشترك فى أعمال وجلسات المؤتمر خيرة أساتذة وعلماء مصر!
وبطبيعة الحال كانت مشكلة الدعم ضمن ما نوقش فى المؤتمر، حيث بلغ وقتها ألفى مليون جنيه مقابل تسعة ملايين جنيه فى أوائل الستينيات لدعم ثلاث سلع فقط حسب شهادة «د. عبدالجليل العمرى»!
ومهما طال الكلام عن الدعم فهو قليل، لكن الأزمة والمأزق أن نسبة كبيرة من هذا الدعم لا تذهب إلى مستحقيه، بل تذهب لمن لا يستحقون!
والكل يشكو من هذا الوضع الشاذ والغريب: الحكام والحكومة والناس والمعارضة والنخبة، والكل يضحك على الكل فى مسألة الدعم!
لقد أصبح الدعم بمثابة «بقرة مقدسة» لا يجوز المساس بها، والكل يهتف بوعى وبدون وعى: «الدعم والشعب إيد واحدة»!