أحدثت فتوى قتل المتظاهرين للشيخ هاشم إسلام عضو لجنة الفتوى بالأزهر جدلاً كبيراً، والتى قال فيها إن من يخرج يوم 42 أغسطس ويستخدم العنف والسلاح وإراقة الدماء يعتبر من الخوارج ويجوز التصدى له بعنف وتصفيته، وقد اعتبر نفسه قد أخطأ فى استعجاله حيث إنه كان ذاهباً للقاء فى إحدى الفضائيات فجاءت كلمته سريعة وارتجالية. وفى خطبة الجمعة الأخيرة في رمضان هاجم خطباء المساجد من يدعون لمظاهرات إسقاط الإخوان واعتبروها خروجاً على الحاكم، أما قضية التحرش التى تتم مناقشتها هذه الأيام فلم يأت ذكر لها، فالخطاب الدينى والفتوى يتجاهل كل منهما موضوع التحرش وإن تناولاه فيكون ملخص الرأى يدور حول اتهام المرأة في ما ترتديه من ملابس. فهناك أزمة حقيقية فى الموضوعات التى يتم تناولها فى الخطاب الدينى والفتوى والتى عادة ما تكون بعيدة عما يهم الناس فى حياتهم اليومية، فالتحرش مثلاً يطارد الفتيات فهو هم بالليل ومذلة بالنهار، وتزداد نسبته فى الأعياد وتكثر نسبته فى الأماكن المزدحمة، حتى أصبح النزول إلى الشارع مغامرة خوفاً من التحرش الذى أصبح حقيقة واقعة جعلت للمجتمع سمعة سيئة، حتى أن عددا من الدول الغربية تحذر مواطنيها من التحرش الذى انتشر فى مجتمعنا.
صارت المعاكسة هواية عند بعض الرجال، ثم تطورت لتصبح حقاً مكتسباً ثم زاد عليها التحرش ليصبحا معاً ظاهرة تقبلها المجتمع وكأن ما يحدث عادى فلا يوجد من يعترض من المارة ولا يأتى ذكر لذلك فى الخطاب الدينى.
ويرى البعض أن انتشار مثل هذه السلوكيات يرجع إلى ارتداء الفتيات للملابس المثيرة مع تأخر سن الزواج فى ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، إضافة لانتشار مشاهد العرى عبر الفضائيات والإنترنت، ويرى البعض الآخر أن المشكلة فى الأخلاق وأنه إذا كان هناك وعى دينى وأخلاقى لدى الشباب ما حدث التحرش.
فماذا عن الخطاب الدينى وعلاقته بالحياة حيث يعتبر فيه أن الداعية هو المتحدث باسم الحق، مع أن الخطاب الدينى يجب أن يتضمن فى دعوته عدم تزكية النفس على حساب الآخرين، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكى مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً . انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) النساء 49 .50 فالمفاهيم الخاطئة أصابت فكرنا الإسلامى بالجمود، وجعلتنا نعيش فى واقع افتراضى يتم الكلام عنه فى الخطب الدينية بعيداً عن الواقع الحقيقى، حيث بقينا مشاهدين لحركة التاريخ غير فاعلين فيه ولا مشاركين فى صنع أحداثه، وبالتالى نكرر نفس الأخطاء لأننا لم نستفد لا من تجاربنا ولا من تجارب الآخرين.
لقد أسهم تغييب العقل والمنطق فى تكوين الحالة الفكرية التى نعيشها، فالخطاب الدينى غير الواقعى يعبر عن الثقافة التى تم ترسيخها فى وعى المجتمع، فى حين أن هذا الخطاب يجب أن يعتمد على الحكمة والموعظة الحسنة ليصبح خطابا بناء فيدعو إلى التسامح والعمل والتعاون بين الناس كما يدعو إلى الإبداع والفكر والعلم، ويعمل على الاهتمام بالحياة اليومية للمجتمع والمشاركة فى إيجاد حلول عملية لمشاكل الناس.
وتجديد الخطاب الدينى أصبح ضروريا لأن لكل عصر ظروفه ومستجداته، وعلى الداعية أن يجدد معلوماته وأفكاره وأن يعمل على إصلاح الفرد لأن فى ذلك إصلاح للمجتمع، كما يجب أن يكون من أساسيات الخطاب الدينى الصدق والإخلاص والأخذ بالعلم فى تقديم ما ينفع الناس. أما عن ظاهرة الفتاوى الإعلامية السريعة، فبعد أن كانت الفتاوى لا تصدر إلا ببحث ودراسة مع الأخذ فى الاعتبار ظروف العصر الذى تصدر فيه، أصبح بعض رجال الدين يصدرون الفتاوى فى موضوعات غريبة حتى تحدث فرقعة إعلامية حول موضوع بعيد عن مشكلات وهموم الناس، كما أن أصحاب هذه الفتاوى لا يأخذون وقتهم فى الدراسة والبحث قبل إصدارها، لذلك فإن رجال الدين أنفسهم هم أول من يختلف مع هذه الفتاوى.
ولكن ما هى الفتوى؟ وهل هى مجرد رأى أم حكم ملزم؟، والفتوى يتم تعريفها بأنها: «الإخبار بالحكم الشرعى من جهة لا تستطيع أن تلزم من أخبرته بسلطة القانون»، فهى عبارة عن رأى دينى لبيان شرعية التحليل فى كل ما هو جديد فى الحياة ولكنها غير ملزمة لأحد. مع أن الفتوى تأتى فى القرآن الكريم بمعنى طلب الرأى بعيداً عن شرعية الحلال والحرام، مثلما طلبت ملكة سبأ: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونى فى أَمْرى مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ) النمل 32؟ فالفتوى هنا تعنى طلب الرأى لإيجاد الحل الأمثل للخروج من مشكلة سياسية وعسكرية لذلك فهى تحتاج إلى دراسة وإعداد من المختصين، كذلك كان طلب ملك مصر: (..يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونى فى رُؤْيَاى إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) يوسف .43
فطلب الفتاوى يكون من المختصين وأصحاب الخبرة فى مختلف التخصصات العلمية وليس فقط من تراث السابقين، وحتى لا تكون الفتاوى مصدراً لتعطيل العقول بل لتحرير الطاقات من أجل الإبداع الحضارى والإنسانى.
وفى قوله تعالى عمن يفتون بالتحليل والتحريم: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) يونس 59 فالإفتاء فى تحريم الحلال وتحليل الحرام لم يأذن به تعالى مما أوجب التأكيد على تفصيلات الحرام والتحذير من تحليل ما هو حرام أو تحريم ما هو حلال، لذلك يعقب تعالى: (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..) يونس .60
لذلك فقد يتحول الافتراء فى الفتوى إلى فتنة، والفتنة فى القرآن الكريم تعنى الخداع عندما تأتى فى موقف يهدف إلى خلط الباطل بالحق، قال تعالى: (لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) التوبة .48
لذلك فإن استغلال الدين لتحقيق مكاسب فى العمل السياسى من خلال استخدام فتاوى التحليل والتحريم أدى إلى سيطرة فكر التحريم على عقل المسلم، وبذلك أصبح كل من الخطاب الدينى والفتوى منفصلين عن القضايا التى تشغل بال الناس، وإذا تناولا ظاهرة معينة فيكون التناول سطحياً لا يفيد بل قد يضر مثل ما يحدث مع ظاهرة التحرش.
كما أن اختزال السبب فى ملابس المرأة ليس مبرراً، فالمحجبة تتم معاكستها والتحرش بها، وفى المقابل لا يوجد تحرش فى أوروبا مع وجود التحرر فى ارتداء الملابس بسبب تطبيق القانون الرادع، كما يوجد مجتمع يحترم حرية المرأة فى أن ترتدى ما تشاء بدون أن يهينها أحد لأنها إنسان مساو للرجل فى الحقوق والواجبات.
لذلك فإن الحل ليس فى فرض القيود على المرأة أو تقوية الجانب الدينى عند الرجل، فالتحرش فى الدول المتقدمة يعتبر شكلاً من أشكال التمييز العنصرى بين الرجل والمرأة وله عقوبات رادعة.
فالمرأة فى مجتمعنا تدفع ثمن غياب القانون وانهيار المنظومة الأخلاقية بعد تفشى الفساد والاستبداد السياسى، كما تدفع ثمن دونية وضعها الذى ساهم فيه الخطاب الدينى، باصراره على اعتبار المرأة مجرد وعاء جنسى لأنها ناقصة عن الرجل الذى تحول إلى متربص بها ولا يرى فيها غير الأنثى المثيرة، فلم يعد يفرق معه سن المرأة أو جمالها أو ما ترتديه، يحدث هذا فى زمن انتشر فيه التدين الشكلى مع ما صاحبه من الانحطاط الأخلاقى.