من المفترض أن يترك المجلس العسكرى الساحة السياسية - كما جاء على لسان المشير طنطاوى فى أواخر العام الماضى- ويعود إلى مواقعه بعيدًا عن مهاترات السياسة ومشاكلها التى لا تنتهى، فلاشك أن انخراط الجيش فى العمل السياسى وتوليه المسئولية هى مسألة بالغة الخطورة كانت تتطلب التروى وإعادة النظر منذ البداية؛ فدور الجيش فى حماية الأمن القومى المصرى مسألة بالغة الأهمية وأولوية قصوى تأتى قبل أى شىء. منذ اشتعال الثورة وحتى الآن يُثار فى ذهنى تساؤل رئيسى يحمل العديد من التناقضات وهو: فى الوقت الذى اشتعلت فيه ثورة يناير وسالت فى سبيلها دماء الشهداء لإسقاط نظام مبارك وللإتيان بنظام ديمقراطى سليم يضمن حرية الرأى والتعبير، هل يمكن اعتبار تولى المجلس العسكرى زمام الأمور بعد نظام مبارك مرحلة جديدة من الديمقراطية؟
الديمقراطية - كما درسناها فى العلوم السياسية - تقوم بالأساس على تنظيم العلاقات المدنية العسكرية من خلال مدنية الدولة وابتعاد العسكريين تمامًا عن الحياة السياسية، وبالتالى فقد كان لا بد من أخذ تلك المسألة فى الاعتبار منذ الأيام الأولى للثورة حتى لا نحيد عن أهدافها كما هو حادث الآن؛ فحينما تولى المجلس العسكرى المسئولية تباينت ردود أفعال القوى السياسية بشأن هذا الأمر حيث تمسكت بعضها بمبادئ الثورة وحقوق الشهداء فى إقامة حياة ديمقراطية سليمة ورفضت الاعتراف بشرعية المجلس العسكرى فامتنعت بعضها عن المشاركة فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذى أُجرى فى مارس 1102 وشارك البعض الآخر مصوتًا ب«لا»، واستمرت تلك القوى فى احتجاجاتها تحت شعار «يسقط يسقط حكم العسكر».
وفى الوقت نفسه حادت بعض القوى السياسية الأخرى عن إيمانها بالثورة وغَلَّبت مصالحها الشخصية على المصلحة العامة؛ إيمانًا منها بأنها قد وجدت ضالتها وحقها فى الممارسة السياسية الذى حُرمت منه طوال الأعوام السابقة مع المجلس العسكرى وبالفعل شاركت فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية من خلال حشد الجماهير للتصويت ب«نعم» باستخدام كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة.
بدأت بعد ذلك معركة الانتخابات البرلمانية وتصارعت جميع القوى السياسية فيما بينها على مقاعد البرلمان المُنحل من خلال انتخابات اتسمت إلى حد كبير بالنزاهة إلا أن الغلبة والأغلبية كانت من نصيب أصحاب الأصوات القائلة «نعم للتعديلات الدستورية»، تلك القوى التى اعتبرت نفسها بمثابة مراكز قوى داخل البرلمان حيث توهمت من خلاله أنها قادرة على صياغة دستور يخدم أهدافها إلا أن تصدى القوى السياسية الثورية لها قد حال دون تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور حتى الآن.
ومع كل هذه التطورات ظلَّت القضية الأكبر التى اشتعلت الثورة من أجلها وهى محاكمة رموز النظام السابق أو محاكمة القرن -كما وصفتها وسائل الإعلام- معلقة إلى أن جاءت لحظة النطق بالحكم فى وقت بالغ الحساسية؛ وقت كان فيه الشارع المصرى فى أمس الحاجة إلى الشعور بنجاح ثورته خاصةً بعد أن جاءت نتيجة المرحلة الأولى لانتخابات الرئاسة مخيبة لآمال فئة كبيرة من الشعب المصرى.
إن الحديث عن مرشحى الرئاسة يقودنا إلى مسألة أخرى فى غاية الخطورة وهى صلاحيات الرئيس القادم، فقد كان من المفترض أن تُحدد تلك الصلاحيات مسبقًا من خلال دستور أو يُنص عليها صراحةً فى الإعلان الدستورى إلا أن المجلس العسكرى قد حددها بالفعل فى الإعلان الدستورى المُكَمِّل الصادر فى ثانى أيام الانتخابات وهو توقيت يثير العديد من الشكوك ويدفعنا إلى تساؤل هام وهو: هل توقفت صلاحيات رئيس الجمهورية التى نص عليها الإعلان الدستورى المُكَمِّل على المؤشرات الأولى للجولة الثانية من الانتخابات أو بصيغة أخرى على مرجعية الرئيس القادم؟!
لقد جاء صدور المجلس العسكرى للإعلان الدستورى المُكَمِّل مخيبًا لآمال جميع المصريين ومعبرًا عن نظام سياسى جديد من نوعه غير موجود على الإطلاق فى العلوم السياسية، فأى نظام سياسى هذا الذى يتمتع فيه العسكريون بالسلطة الفعلية فى الوقت الذى يتمتع فيه رئيس الجمهورية المُنتَخب من قبل الشعب بسلطة شرفية أو رمزية لاسيما وأننا بصدد ثورة شعبية ولسنا بصدد انقلاب عسكرى؟!
فى ضوء تلك التطورات التى شهدتها مصر منذ اندلاع الثورة العام الماضى وحتى محاكمة مبارك واقتراب تسليم السلطة لرئيس مدنى منتخب من قبل الشعب، يبقى أمامى سؤال مُلح وهو: هل يمكننا القول بأن المجلس العسكرى قد نجح فى إدارة المرحلة الانتقالية بما يتواكب مع روح الثورة صاحبة الفضل فى كل تلك التطورات التى شهدتها مصر على مدار عام ونصف العام؟