نزلة برد سخيفة ورذيلة داهمتني فمنعتني من تلبية دعوة كريمة لحضور حفل افتتاح «مركز أحمد بهاء الدين الثقافي» في قريته «الدوير» بأسيوط يوم الخميس الماضي. الحفل أقيم برعاية وعناية جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين التي تأسست سنة 1996 وتهدف إلي حفظ تراث هذا الكاتب والمفكر الذي يندر أن يتكرر. لقد أسعدني الحظ وشاءت الظروف أن أعرف الأستاذ «بهاء» وأن أحاوره وأن أنشر خلاصة حواراتي معه علي صفحات «صباح الخير» بتشجيع وحفاوة وتقدير من الأستاذ الكبير والأخ والصديق الرائع «لويس جريس» رئيس تحرير مجلة صباح الخير وقتها، وصاحب الفضل الصحفي والإنساني النادر علي كل أبناء جيلي. وأعود إلي «أحمد بهاء الدين» والذي مهما طال الكلام عنه فهو قليل، وأتأمل حياة ومشوار شاب مصري في مقتبل العمر وماذا كانت أحلامه وطموحاته. في مقال عنوانه «معني القانون» نشره أحمد بهاء الدين علي صفحات مجلة «العربي» الشهيرة والتي كان يرأس تحريرها منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي كتب يقول: كل إنسان يتفتح وعيه لأول مرة علي شيء مختلف، هكذا الحياة لو كانت زهورها بلون واحد، وأشجارها بطول واحد لفقدت جمالها بل لصارت جحيماً، ونفس الحال في البشر، لو كانوا علي شاكلة واحدة ونمط واحد لفقدت الحياة مذاقها بل وربما مغزاها والإخوة في البيت الواحد كثيراً ما يتباينون رغم كل عوامل الوراثة الواحدة والتربية الواحدة!! بالنسبة لي.. لا أذكر مهما حاولت التذكر أن أمراً استبد بي منذ البداية أكثر من تلك القضية: الحق والواجب، الظلم والعدل وبالتالي الأداة في كل هذا وهي «القانون» وكانت ترجمتها في سن المراهقة هي الشغف الهائل بحضور القضايا الكبري والاستماع إلي المرافعات الرنانة، وكنت إذا قرأت عن محاكمة سياسية كبري حدثت منذ عشرات السنين ذهبت إلي دار الكتب، وطلبت مجلدات صحف تلك الفترة لآخر القضايا والمرافعات ومناقشات المحكمة كاملة بالتفصيل. وكان كل تاريخ مصر الوطني في الفترة السابقة في يد المحامين وكانت المحاكم إحدي أهم ساحات الكفاح، وكنت أري نفسي وأنا صبي في شتي الأدوار داخل تلك الحلبة الرائعة: قاعة المحكمة، أحياناً ذلك القاضي الجالس علي عرشه، أو ذلك المحامي بصوته المدوي، وأحياناً المتهم الواقف في قفص الاتهام في ثبات بوصفه بطلاً وسبب تلك الدراما كلها. واستقر رأيي علي أن أكون قاضيا، فهذه الهيبة والرهبة، وهذه الدقة والمتابعة واليقظة ثم أخطر وأصعب شيء: حين يخلو إلي نفسه وقد سمع أقوي الحجج من الجانبين، وعشرات الشهود المتناقضين وكيف يمسك من وسط هذا كله بخيط الحقيقة وتصدر من فمه كلمة حاسمة ونهائية. علي إنني حين دخلت كلية الحقوق فعلاً دخلت في الواقع الجامعة بأكملها وتفتحت أمامي مع سنوات الشباب كل فروع المعرفة وكنت أحضر محاضرات كلية الحقوق وكلية الآداب وأحياناً غيرهما، وتلك ميزة الجامعة، إنها تعطيك كل المفاتيح، هذا ما يفرقها عن المدرسة، وحين يقرأ المرء الأدب والفلسفة ومذاهب الفكر المتلاطمة يجد أن العثور علي الحقيقة ليس سهلاً بل إنه يكاد يكون مستحيلا! هذه مجالات تعلمك أن لكل رأي ألف وجه، وأن كل موقف له ألف تفسير، وأن المذنب قانونياً قد يكون هو البرئ فكرياً أو اجتماعياً أو حتي فلسفياً، ووجدت أن مهنة القضاء صارت لا تناسبني، إنها مهنة مستحيلة، أي عذاب وأرق وألم يكابد المرء حتي يقول: هذه هي الحقيقة! مستحيل إنها ضد طبيعتي، عمل كل الموازنات وحساب كل الاعتبارات سوف يفضي بي إلي الشلل. واتجه ذهني إلي ذلك المترافع البليغ، إنه يأخذ جانباً واحداً ويحاول إثباته، وهذا أمتع وأسهل وأفخم، حتي لو كان يدافع عن قاتل فقد قرأت أيامها - فيما قرأت من كتب المحامين الكبار كلمة لمحام إنجليزي كبير يقول: حين يقف المتهم في القفص مجرداً من كل سلاح، محروماً من أي صديق والعالم كله يشير إليه بأصبع الاتهام هنا لابد أن يقف إلي جانبه شخص، هذا الشخص هو «المحامي» وفي هذا الموقف يكمن دوره المقدس!! ولكني حين تخرجت في كلية الحقوق وفي الجامعة كلها لأنني مرة أخري كنت أشعر أنني طالب بالجامعة كلما أستمع إلي عبد المنعم بدر يدرس القانون كما أستمع إلي «يوسف مراد» يدرس الفلسفة أكتشفت أن مهنة المحاماة هي آخر ما يناسبني، علي الأقل ذلك النوع من المحاماة، فليس من طبيعتي الانطوائية أن أواجه الجمهور وأتحدث كأنني علي خشبة مسرح!! ثم إنني كنت أقل من السن القانونية لممارسة المحاماة!! ثم إن الكلمة المكتوبة صارت أوسع انتشاراً من أعظم كلمة تقال في قاعات المحاكم!! وكان حظي من ممارسة القانون أصعب جوانبه بالنسبة لي: وكيل نيابة مهمتي أن أضيق الخناق علي المتهم وأن أثبت جريمته بدلا من أن أثبت براءته، ومرة أخري جريمة بالمعني القانوني التي قد يكون في نفسي ألف سبب ضد اعتبارها جريمة!! كان هذا بعض ما يشغل شاب مصري اسمه «أحمد بهاء الدين» في تلك الأيام، ولم يكن ذلك فقط هو ما يشغله!!