يحدثنا عنها العالم فى الهندسة الوراثية «د.أحمد مستجير» منذ بدأت فى أواخر خمسينيات القرن العشرين، عندما استطاع رائد فى علم النبات استنباط القمح الشتوى قصير الساق الذى أثبت أنه أكثر فائدة لأنه يبذل طاقة أقل فى تنمية ساقه القصير، فيعطى محصولا أكثر وأفضل بالرغم من أن الفلاح فى عموم الأرض يحب القمح طويل الساق ذا المظهر المهيب الحبيب. ما هى حكاية القمح؟! فى مقال مهم عن القمح ضمن مقالاته «فى بحور العلم» يقول د.أحمد مستجير إن القمح كان أول نبات اهتم به الفلاح القديم وعليه نشأت الحضارة. جاء هذا النبات الذى نأكل حبوبه اليوم عن تجربة فى الهندسة الوراثية قامت بها الطبيعة قبل ظهور العلم والعلماء.. لقد أجرت الطبيعة التهجين المتعارف عليه اليوم بين أنواع مختلفة من النباتات لتنتج لنا القمح.. ويحدثنا عن بداية ثورة القمح فى عام 1943 عندما أقامت مؤسسة «روكفيلر» مركزا علميا تطبيقيا فى المكسيك لتربية النبات مهمته مساعدة فقراء الفلاحين هناك وتولى أمره «نورمان بورلوج» العالم المتخصص فى علم النبات.. وعندما نجحت تجربته فى زراعة القمح الجديد كانت النتائج مذهلة، فبعد أن كانت المكسيك تستورد القمح وصلت إلى الاكتفاء الذاتى عام 1956 وأصبحت تصدره بعد ذلك. القمح والتجربة الهندية وجد عالم النبات «نورمان بورلوج» استكمال تجربة السلالة الجديدة للقمح أو ثورة القمح فى الهند وباكستان لأنه ينمو فى كل البيئات تقريبا ولا يتطلب إلا القليل من المبيدات ولديه مقاومة ذاتية للحشرات.. ويشرح لنا د.أحمد مستجير لماذا اختار عالم النبات القارة الهندية لتجربته. لقد كانت الهند تحت الاستعمار البريطانى قد واجهت أسوأ مجاعة فى التاريخ عام 1943 عرفت بمجاعة البنغال. مات فيها من الجوع أربعة ملايين. وكان السبب الرئيسى فى تلك الكارثة هو الانخفاض الحاد فى إنتاج الغذاء بمنطقة البنغال. وعندما تحررت الهند من الاستعمار عام 1947 ظلت ذكريات تلك المجاعة تؤرقها. وكان من الطبيعى أن تصبح للأمن الغذائى أهمية عند الحكومة، لذلك ركزت على زيادة رقعة الأرض المزروعة، لكن السكان كانوا يتزايدون بمعدل يفوق معدل زيادة المساحة المضافة للأراضى، وفى منتصف ستينيات القرن العشرين كانت الهند معرضة لأزمة غذائية رهيبة.. أمام شبح المجاعة القديمة وافقت حكومتا الهند وباكستان على تجربة «بورلوج» باستخدام القمح القزمى القصير الساق.. رتب عالم النبات قافلة كبيرة من شاحنات تحمل البذور الممتازة من المكسيك وقد تعرضت القافلة للكثير من المضايقات على الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة!! وقبل وصول قافلته جاءته أخبار عن الحرب التى اندلعت بين الهند وباكستان!.. وبالرغم من ذلك استطاع «بورلوج» زراعة قمحه القزمى فى شبه القارة الهندية بمعاونة بعض من العلماء المحليين كانوا قد تدربوا لديه فى المكسيك. وانتصر القمح على الحرب وفى زمن قياسى تمكنوا من زراعة مساحات شاسعة منه.. وكانت تلك الثورة الخضراء هى التى وفرت للهند الاكتفاء الذاتى من الحبوب.. وقد تحولت الهند من دولة مستوردة للحبوب لتكتفى ذاتيا فى منتصف سبعينيات القرن العشرين وتصبح واحدة من أكبر الدول المنتجة للبحوب وهكذا الحال مع باكستان فقد حققت نفس الهدف. وزير زراعة جسور يحدثنا د.أحمد مستجير أن سر نجاح الهند فى الزراعة كان وزير زراعة جسور.. فقد كان أسلوب خطة الهند فى الاكتفاء الذاتى من الحبوب يعتمد على توظيف العلم والتكنولوجيا فى الزراعة وسياسة توفير المال الكافى لأسعار المحصول حفزت المزارع على رفع إنتاجه بجانب اتخاذ إجراءات تضمن ألا يتمكن رجال الأعمال مرة أخرى من تخزين الغذاء من أجل الربح. وقد أشار وزير الزراعة إلى مثل هندى يقول: «إذا كان علينا أن ننتظر حتى تهدأ الأمواج قبل أن ننزل إلى المحيط ونستحم فإننا لن نستحم.. علينا أن نتحدى المياه وننزل. فقط علينا قبل ذلك أن نتعلم السباحة». ثم أضاف وزير الزراعة فى ذلك الوقت: «لو إننا انتظرنا قبل هذه الخبرة حتى يصبح كل شىء مثاليا، حتى تصبح استجابة الفلاح مثالية حتى يصبح البرلمان مثاليا.. حتى يصبح الوزراء مثاليين.. حتى يصبح التعاون بين الوزراء مثاليا.. لو انتظرنا كل هذا لن نستطيع إنجاز مهمتنا.. لابد أن ننطلق».. وهكذا انطلق لتحقيق أهدافه الوطنية. مأساة فى القرن الواحد والعشرين لقد تنبأ العالم د.أحمد مستجير مع كثيرين من علماء العالم أنه بحلول القرن الواحد والعشرين سيواجه العالم احتمال ظهور أزمة فى الغذاء جديدة. طاحنة ومعقدة فسيزداد تعداد العالم والأمر يحتاج إلى ثورة مستديمة الخضرة تحتاج المزيد من العلم الجاد لمواجهة المشاكل ويستشهد بما قاله عالم النباتات «بورلوج» وهو يتسلم جائزة نوبل للسلام عام 1970. علينا أن نروّض غول الزيادة السكانية، وأن يظل الإنتاج الزراعى راسخا. وإلا فسيشهد القرن الواحد والعشرين مأساة لم يسبق لها مثيل»!!! غذاء أكثر.. وجوعى أكثر..!! يحدثنا د.أحمد مستجير عن نجاح الثورة الخضراء ومنها ثورة القمح فى زيادة الإنتاج الزراعى فى العالم، ويحدثنا أيضا عن الجوع الذى يحصد الملايين .. ويسرد لنا قائلا: عدد الجوعى حتى الذين استفادوا من الثورة الخضراء وهم الفلاحين الأكثر جوعا؟!.. وقد وجد عدة أسباب أولها. أن الطعام أصبح سلعة فى السوق.. سلعة متاحة لمن يمتلك ثمنها وليس لمن يحتاجها والطعام يختلف عن غيره من السلع، إذا ارتفع سعر سلعة مثل التليفزيون فلك أن تمتنع عن الشراء.. لكنك لا تستطيع أن تمتنع عن شراء رغيف الخبز إذا إرتفع سعره.. يمكن فقط أن تقلل استهلاكه.. ويرى د. مستجير أنه للقضاء على الجوع لابد أن نقضى أولا على الفقر.. أو.. أن نضمن على الأقل دخلا لكل مواطن يشترى به خبزه.. الحق فى الطعام فى يونيو 2002 عقدت منظمة الأممالمتحدة مؤتمر قمة الأرض للغذاء لتفهم السبب فى استمرار الجوع فى العالم بعد بدء تنفيذ خطة كانت هذه القمة قد وضعتها من قبل.. و.. فشلت.. وقد وجدوا أن جوع العالم عرض رهيب لفقر العالم، ووجدوا ملايين من البشر يعيشون على أقل من دولار يومياً للفرد.. وإذا كان يبدو أن الجوع قضية اقتصادية لكن الأوضاع التى تؤدى إلى الفقر سياسية تنتهى إلى أن تصبح اقتصادية!.. ويؤكد د. مستجير أن الناس جوعى ليس لعدم وجود الطعام وإنما لأنهم لا يستطيعون شراءه.. فالسياسة تؤثر كثيراً فى إنتاج الطعام.. من الذى ينتجه؟.. ومن الذى يستفيد منه؟.. هل يُزرع للتصدير.. أم.. لإطعام الجوعى؟!.. الحق فى الطعام يعنى أن يحصل كل فرد على ما يكفيه من طعام مأمون، مُغذ. وإقرار هذا الحق من توجيهات الأممالمتحدة يعنى أن تلتزم به حكومات العالم.. فهل تلتزم؟! عرضت هذا المقال المهم ملخصا للعالم الراحل د. أحمد مستجير.. ربما يلقى اهتماما من المسئولين عن الزراعة فى بلدنا.. خصوصا زراعة القمح بعد أن أصابنا الهلع لأن أهم مصدر نستورده من «روسيا» قررت عدم تصدير حبوبها بعد نكبة حرائق مزارعها.. وكما كتب العالم د.مستجير أن القمح أول نبات اهتم به الفلاح القديم وعليه نشأت الحضارة.. وعلينا أن نهتم بحضارتنا.