لم يتوقف عطاء كاتبنا الكبير حتى فى أيامه الأخيرة التى عانى فيها المرض، فقد قدم آخر أعماله «المصراوية» للنور فى الوقت الذى كان يمر فيه بأزمة صحية لكنه كان يجد علاجه الحقيقى فى الإمساك بالقلم ليجول ويصول به على الورق ويقدم لنا روائعه الدرامية. 40 مسلسلاً و10 أفلام ومجموعة من المسرحيات المهمة أيضا كلها أعمال مليئة بنبض الحياة ورؤية كاتب كبير لمشاكلنا وأحلامنا.. فمن ينسى «ليالى الحلمية.. الشهد والدموع.. أبوالعلا البشرى.. الراية البيضا.. أرابيسك.. زيزينيا.. المصراوية.. ضمير أبله حكمت».. فقد نجح أسامة أنور عكاشة فى أن يكسر القاعدة التى تقول أن الدراما التليفزيونية بلا ذاكرة ولذلك لم يكن غريبا أبدا أن يحصل على جائزة الدولة التقديرية فى الثقافة والفنون وأن يهتم به الرئيس مبارك ويأمر بعلاجه على نفقة الدولة وتوفير كل الإمكانيات له حتى جاءت اللحظة التى فارق فيها الحياة رافعا الراية البيضا لأول وآخر مرة. *(البداية) أسامة أنور عكاشة من مواليد الغربية 1941 وحصل على ليسانس آداب جامعة عين شمس قسم الدراسات النفسية والاجتماعية واشتغل بتدريس الفلسفة وعلم النفس لفترة لكن حلمه الأكبر كان فى الكتابة.. حلم دعمته موهبة لم تعرف سقفا أبدا ولذك فرض نفسه بسرعة كأحد أهم كتاب الدراما حتى أن اسمه على تتر أى عمل كان بمثابة شهادة ضمان للجودة والقيمة الفنية. وإذا كانت الدراما قد كسبته فإنه من المؤكد أن السينما خسرته عندما رفض أن يساير مناخا سينمائيا غير مقنع له وهو الذى قدم أفلاما تحمل فكرا وقيمة ومنها «كتيبة الإعدام والهجامة والطعم والسنارة ودماء على الأسفلت»، كما قدم للمسرح أعمالا مهمة منها «البحر بيضحك ليه. الناس اللى فى الثالث. وأولاد اللذينه. الليلة 14. فى عز الضهر». ؟(نقطة تحول) نجوم كثيرون وجدوا ضالتهم فيما يكتبه أسامة أنورعكاشة.. فاتن حمامة فى مسلسل «ضمير أبلة حكمت» ومحمود مرسى فى «رحلة أبوالعلا البشرى» وسناء جميل فى «الراية البيضا» ويحيى الفخرانى وصلاح السعدنى فى «ليالى الحلمية»، بل صنعت أعماله نجوما كثيرين كانت مشاركتهم فى مسلسلاته بمثابة شهادة ميلاد لنجوميتهم. لقد بدأ أسامة أنور عكاشة حياته مع الكتابة كاتب قصة قصيرة ورواية وكان الروائى سليمان فياض وراء اكتشافه ككاتب دراما وبمجرد كتابته سهرة تليفزيونية احتفى به الجميع فكانت نقطة تحول فى حياته، وقبلها لم تكن له أية علاقة بالتليفزيون من قريب أو بعيد، والقصة تبدأ بأن حصل سليمان فياض على مجموعة قصصية له وأعد إحدى القصص فى شكل سهرة تليفزيونية وبعد ذلك بعام اختار كرم النجار قصة أخرى من المجموعة بعنوان «الإنسان والحبل» وقدمها فى شكل سهرة تليفزيونية، بعد ذلك قيل له لماذا لا تكتب أنت السيناريو مباشرة؟ ففعل وكانت كلمة سيناريو بالنسبة له تبدو كلمة غامضة وهناك أعمال عالمية استهوته منها مثلاً تيمة الفروسية فى دون كيشوت هو ما اتضح تأثره به فى مسلسل أبوالعلا البشرى والفارس الأخير وعابر سبيل. وكما قال أسامة أنور عكاشة: لم أكن متأثرا بدون كيشوت من حيث بنيته الفكرية أو الفنية ولكن ما أعجبنى فيه ووجدتنى مدفوعاً بالتعبير عنه فى العمل هو تيمة الفروسية وأن يكون هناك فارس فى زمن لم يؤمن بالفروسية وإنما ينظر إليه على أنه مجرد إيقونة وأنتيكا وأن يوجد فارس كهذا فى الزمن الخطأ فستكون النتيجة مأساوية. * (لا للهبوط) ورغم تألق أسامة أنور عكاشة السينمائى فى أفلام مثل: «كتيبة الإعدام، والهجامة، وتحت الصفر، ودماء على الأسفلت» لكنه كان يعتبر وجوده فى السينما بالمهمة التى تم إنجازها وقال: «زيارتى للسينما مهمة أردت إنجازها، وقد أنجزتها حيث أردت تبليغ رسالة وتوصيل فكرة عبر قالب فنى يليق بها ويستوعبها وانتهى الأمر لكن لا أعتقد أننى أكرر الزيارة لأن الموجود الآن من أفلام ليس له علاقة بالسينما سوى استثناءات بسيطة جداً فأنا لن أتعامل مع سينما مثل «اللمبى وبوحة وكلم ماما» هناك أفلام جيدة مثل «بحب السيما وسهر الليالى وملاكى إسكندرية»، لكن كلها قطرة فى بحر من الهبوط». * (بعد فوات الأوان) وعندما اتجه للمسرح الخاص فى مسرحية البحر بيضحك ليه كانت قناعته هى أن يقدم لجمهور المسرح الخاص كوميديا جادة بحيث يحقق عنصرى الفرجة والفكر معا لكنه اكتشف بعد فوات الوقت أنه على حد تعبيره يطارد خيط دخان وقال: «اكتشفت أن المطلوب فى القطاع الخاص مجرد إطار داخله هلس وعرى ونكت ورقص». وعن آخر أعماله المصراوية قال: سددت فاتورة هذا العمل من صحتى لأن المصراوية عمل من العيار الثقيل وهو ملحمى الطابع ورغم شعورى بالتعب إلا أننى شعرت بالمتعة فى إنجازه، وأنوى بعده أن أقوم باستراحة طويلة! * (معارك) وقد خاض أسامة أنور عكاشة العديد من المعارك سواء من خلال كتاباته وأعماله الفنية أو آرائه الشخصية فهو لم يكن كاتبا عاديا وإنما كانت تشغله دائما قضايا بلده وأهله، وكان يعبر عنها فى أعماله بكل صدق وصراحة مهما كلفه هذا من صدام سواء مع الرقابة أو مع من يخالفونه الرأى، وكان يرفع دائما شعار أهلا بالمعارك طالما أنه يدافع عما يراه ويقتنع به فقد خرج فى أحد البرامج التليفزيونية ليهاجم تحجيب الفن من خلال شروط الفنانات المحجبات فى الدراما التى يقدمونها حتى أنه بعد موقفه هذا تلقى عشرات التهديدات لدرجة أن المسئولين عرضوا عليه تعيين حراسة له زاد من تلك التهديدات انتقاده لعمرو بن العاص ودخوله فى معركة كلامية مع بعض الأشخاص الذين لم يتقبلوا كلامه حتى أن هناك من أحلوا دمه. ورغم أن أسامة أنور عكاشة كان ناصريا لكن هذا لم يمنعه من انتقاد بعض الممارسات التى كانت تحدث من النظام فى عهد عبدالناصر مثل تقييد حرية الصحافة وإطلاق الأحزاب كما طالب فى مقال شهير له بحل جامعة الدول العربية وإنشاء «منظومة كومنولث للدول الناطقة بالعربية» مبنية على أساس التعاون الاقتصادى. لقد رحل أسامة أنور عكاشة الذى لا يمكن أبدا اختزال حياته فى كونه كاتبا مبدعا موهوبا ولكنه كان بالفعل مناضلا مصريا وطنيا يدخل المعارك بدون خوف وهو ممسك بسلاح القلم والفكر ولم يرفع يوما الراية البيضا حتى اضطره الموت أخيرا إلى أن يرفعها معلنا مغادرته عالمنا.؟