حينما أصبحت وشقيقي في المرحلة الثانوية كان أبي يحرص علي اصطحابنا معه في كل الزيارات العائلية، كانت هذه الزيارات تضايقنا كثيرا، ليس لأننا لا نرغب في التواصل مع أهلنا، ولكن لأن لدينا عالما آخر، وأصدقاء نفضل قضاء الوقت معهم، وحين نبلغ والدنا بهذه الرغبة في عدم مرافقته كان يرد علينا: حين أنظر وأجدكما حولي أشعر بأن حياتي قد أثمرت.. وحينما أجدكما كتفا بكتف معي ينتابني شعور بالفخر بكما وبي.. لقد أصبح لي امتداد في هذه الحياة. لم نكن ندرك المعاني التي تتفاعل بداخله وقتها، لكن الحياة تمضي وأجدني في نفس الموقف مع أبني، أعيش نفس المشاعر، وتنتابني نشوة غريبة كلما رأيتهما حولي، والغريب أنني أعيد نفس سيرة والدي، وأطالبهما بما كنت أتضرر منه وأنا في مقتبل حياتي. ابني أطول مني، أو حتي يسير إلي جواري يدب في الأرض، أسمع صوت خطواته، فتغمرني السعادة، هذه مشاعر أبوية لا يختلف عليها أحد، وتعيد وتكرر نفسها مع كل جيل، جميل أن تري من ولدوا علي يديك وقد تحولوا إلي شباب، وتراهم أيضا وهم علي وشك بلوغ مرحلة الرجولة. لكنني في كل الأحوال لا أشعر أنني أفنيت حياتي من أجلهم، ولا أضيق بمطالبهم، ربما تختلف مشاعر الأب عن الأم، بسبب اختلاف الأدوار والمهام، فلست من يوقظ ويعد الإفطار والنسكافيه.. والرجل لم يحمل ويلد ويرضع، مثل المرأة، وهو لم يعان ما عانته بالتأكيد، لذلك تختلف ردود أفعاله. لكن لا أعرف لماذا حين تضيق المرأة بأولادها، قد تفكر في ترك الجمل بما حمل، صحيح أنها في معظم الأحيان لا تستطيع الفرار، وحتي ولو خرجت وهربت فإنها تعود أسرع مما تصور إلي بيتها وتحتضن أولادها وتشعر وكأنها ارتكبت فعلة شنعاء! كل ما أطلبه أن تنظري إليهم نظرة مختلفة قليلا، فأنت حياة أولادك في كل مراحل عمرهم، وإذا كنت أشعر بالفخر لأن ابني قد كبر وصار يسير معي كتفا بكتف، فإنك في الأول والآخر من أوصله إلي هذه المرحلة، وهذا أهم إنجازاتك في الحياة.. عليك أن تفخري بها، وتقللي كثيرا من تمردك وتبرمك..فهم منك..ولك!