"كان منظر بيت محمد عفت بالجمالية من المناظر المألوفة المحبوبة لدى السيد أحمد عبدالجواد. هذه البوابة الخشبية التى تبدو من الخارج كأنها مدخل وكالة قديمة وذلك السور العالى الذى يخفى ما وراءه خلا رءوس الأشجار العالية أما هذه الحديقة المظللة بأشجار التوت والجميز والمهندسة بأشجار الحناء والليمون والفل والياسمين فشأنها عجيب وعجيب أيضا بركة المياه التى تتوسطها ثم الفراندا الخشبية التى تمتد بعرض الحديقة!!". هذا ما وصفه الراحل الأديب نجيب محفوظ فى رواية السكرية الفصل الخامس عن جمال وروعة البيوت فى الجمالية خاصة السكرية وما فيها من أشجار مثمرة وأنا فى طريقى مع زميلتى إلى الجمالية استحضرت هذا الجزء من الرواية ولكن للأسف مطابقة ذلك مع الواقع كانت غاية فى الصعوبة، فعلى الرغم من وجود رائحة الجمالية المميزة وأجوائها الساحرة لكن تطلب ذلك منى مجهودا كبيرا حتى لاتخيل ما ذكر فى الرواية عن جمال المعمار الهندسى، فالواقع يشير الآن إلى أن أرض الجمالية أصبحت خالية من أى أشجار مثمرة من ليمون أو غيرها وأغلب المشربيات الخشبية المزخرفة تم هدمها لعمل "شيش" أو تقفيلها ألوميتال. بدأت رحلتنا من ميدان القاضى أنا وزميلتى وأحد مواليد الجمالية وهو الشيخ أحمد وعمره 55 عاماً وحكى لنا عن ميدان القاضى الموجود أمام قاعدة "ماماى" هذا الميدان كان عبارة عن "حديقة صغيرة" سابقاً وعندما تسلم الراحل جائزة نوبل وأرادوا بناء تمثال له فى ميدان القاضى وبعد ذلك تم رصفه بالرخام وأنشأوا "كافيه" مغلقا حتى الآن لارتفاع سعر تمليكه أو إيجاره وضاعت فكرة إقامة التمثال فى ميدان القاضى وأخذنا الشيخ أحمد إلى "حارة قرمز" والتى أطلق عليها اسم السكرية لوجود بيت لأضخم وكبير لعائلة السكرى وبيت السكرى كان من أكبر بيوت الحارة وكان عبارة عن ربع كبير تسكن فيه العائلة بأكملها والراحل تأثر كثيرا بهذه العائلة لأنه كان يلعب معهم فى صغره وكبر معهم وكان أعز أصدقائه "عزت السكرى" لذلك تناول السكرية فى كتاباته من كثرة تأثره بها ووجدنا بجوار بيت السكرى بيت الراحل نجيب محفوظ الذى تركه فى الخامسة من عمره وكان الفاصل الوحيد بين البيتين مدرسة أغلقت من سنوات وأصبحت مهجورة، وأمام بيت الراحل تحدثنا مع عفاف وهى الساكنة أمام بيت الراحل نجيب وقالت: عندما غادر نجيب محفوظ المنزل من صغره سكنه آخرون وهم عائلة طلعت، وهذا البيت لم يسكن فيه أحد منذ "81" سنة وأصبح مهجورا وتم استخدامه كمخزن لكن الآثار ستقوم بسحب البيت الذى أمامه لمباشرة ترميم منزل الراحل حتى يكون تراثا له ومرجعا لمحبى نجيب محفوظ، وأضافت أيضا: إن الجمالية بأكملها قيمتها كبيرة وكانت منبعا لكثير من الأشخاص الذين وضعوا بصمة كبيرة فى مصر مثل طلعت حرب والشيخ البنا ورسام الكاريكاتير مصطفى حسين وأخيرا منذ 3 شهور أتى جمال الشاعر ليسكن فى بين القصرين قديما واسمه حاليا "معز الدولة" كما قالت أن السكرية من أكثر الأماكن التى يرغب المستثمرون فى شراء بيوتها لأنها "بيوت عز" وأكمل الشيخ أحمد رحلته معنا حتى نهاية حارة السكرية وتنتهى ببوابة درب قرمز وعن يمينه مسجد (متقال) وأضافت عفاف: قديماً كانت أجواء السكرية أفضل حالاً من الآن فكان كل 001 متر استراحة بها كتاب ومصلى وسبيل مياه وقديما السبيل كان عبارة عن ثلاث رخامات تنزل المياه على هذه الدرجات حتى تصل إلى آخر درجة رخامية فتصبح باردة. (بين القصرين) اصطحبنا "أحمد أبوالعينين" بعد ذلك إلى شارع "بين القصرين" المسمى حالياً بشارع "المعز لدين الله الفاطمى" وفى أثناء سيرنا للذهاب إليه جال بخاطرى ما وصفه نجيب محفوظ عن روعة ذلك المكان وتخيلت أننى سأقابل سى السيد وأمينة فى ذلك الشارع العريق الذى شهد أروع ما قدمته السينما المصرية من أفلام وهو فيلم "قصر الشوق" المأخوذ عن ثلاثية محفوظ ولكننى لم أستغرق كثيراً فى تخيلى هذا فما هى إلا دقائق معدودة وكنا فى مدخل بين القصرين، وهنا بدأ "أحمد أبوالعينين" فى وصفه للمكان قائلاً: "يبدأ شارع بين القصرين من سبيل "عبدالرحمن كتخدا" الأثرى وينتهى عند حارة الصالحية، وقد وصفه نجيب محفوظ فى رواياته وصفاً دقيقاً يخلو من المبالغة والتهويل، ويكاد أن يكون ذلك الشارع اليوم مثل ما وصفه محفوظ منذ ما يقرب من ستين عاماً باستثناء بعض التغيرات التى طرأت عليه مثل استبدال أرضيات الشوارع بالطوب البازلت بدلاً من البلاط الانجليزى، وأغلق حماما السلطان إينال والنحاسين اللذان كانا يميزان بين القصرين بالإضافة إلى هدم جزء من المدرسة الظاهرية والتى لم يعد منها سوى بقايا كما تم ترميم قصر "بشتاك" ومدرسة الناصر محمد بن قلاوون وأدخلت بهما أربعة أنظمة للاضاءة، أما عن محلات بيع النحاس التى كانت تشتهر بها بين القصرين فقد أغلقت غالبيتها وفتحت بدلاً منها محلات لبيع "الشيشة". وفى أثناء حديثه لفت انتباهنا بازار قلاوون لبيع النحاس فسألناه عنه فأكد لنا أن جزءا من فيلم "قصر الشوق" تم تصويره بداخل ذلك البازار وبالتالى قادنا شغفنا إلى داخله فوجدنا به رجلاً فى السابعة والسبعين من عمره يدعى "صالح عبدالفتاح عبده" أخذ يرحب بنا بحفاوة أهل البلد ثم بدأ فى سرد قصته مع تصوير فيلم "قصر الشوق" قائلاً: "لقد كنت فى العشرينيات من عمرى عندما جاء المخرج "حسن الإمام" إلى بين القصرين وطلب منى التصوير فى البازار الذى أملكه وقد أعطانى حينها عشرة جنيهات وكم كنت سعيداً بجو التصوير الذى أمتعنى كثيراً". اختفاء قصر الشوق: فى مدخل الشارع لايزال هناك مقام "الأحمدى" أما شارع قصر الشوق فقد طرأت عليه تغيرات كثيرة مختلفة عن الرواية ومختلفة عما عاشه الراحل فى وصف هذا الشارع، فكان على بداية الشارع قهوة البنان سابقاً والتى اشتهرت بتقديم الشيشة (التمباك) والشاى الأخضر وكان زائرو هذه القهوة إما يلعبون الطاولة أو يتحدثون فى الفن والعلم والثقافة ناهجين نهج الكاتب محفوظ، أما الآن فهى مغلقة ومكانها مخزن "للفحم" وعلى امتداد الشارع وجدنا مدرسة (عمر مكرم) والتى كانت سابقا وكالة (اللبان) و (سكر النبات) وقبل أن تصبح كذلك كانت مقابر وأمام المدرسة الآن مصنع لبان والذى كان قديما بيوتا مبنية على الطراز الفاطمى ومن تناقض الماضى والحاضر وجود (سنترال يدعى قصر الشوق) مكان أحد أفخم البيوت المشهورة بقصر الشوق فكان مشهور بمشربية مزخرفة بفن زخرفى رائع، فشارع قصر الشوق كان معروفاً بقصوره وبيوته الخاصة الرائعة التى بنيت بإعجاز، فكل من يريد تعلم الهندسة ودراسة الزوايا المبنى بها البيوت يذهب إلى الجمالية وتحديدا قصر الشوق، ولكن التغيرات طرأت على بعض البيوت وعلى "دكاكين قصر الشوق" كما قابلنا رجلا يدعى زينهم قال أنه توجد مدرسة مهجورة كانت قصرا وتم هدمه وأصبحت مدرسة السلطان عبدالرحمن كتخدا وهو تركى وكانت بمثابة ثانى مدرسة على مستوى القاهرة الكبرى.